الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: إقرارُ المَريضِ بمَرَضٍ مَخوفٍ لوارِثٍ


اختَلَفَ الفُقَهاءُ في صِحَّةِ إقرارِ المَريضِ بمَرَضٍ مَخوفٍ لوارِثٍ، على ثَلاثةِ أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَصِحُّ إقرارُ المَريضِ بمَرَضٍ مَخوفٍ لوارِثٍ [1768] استَثنى الحَنَفيَّةُ إن صَدَّقَه فيه بَقيَّةُ الورَثةِ فيَصِحُّ إقرارُه، واستَثنى الحَنابِلةُ إذا كانَ الإقرارُ ببَيِّنةٍ، أو بإجازةِ الورَثةِ. يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (3/ 187)، ((المبدع شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (8/ 365).        ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1769] ((الهداية)) للمرغيناني (3/ 187)، ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (8/ 387).   ، والحَنابِلةِ [1770] ((المبدع شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (8/ 365)، ((الإنصاف)) للمرداوي (12/ 135)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/620). ، وقَولٌ للشَّافِعيَّةِ [1771] ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (5/ 358)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/ 69)، ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (3/ 5). ، وهو قَولُ بَعضِ السَّلَفِ [1772] منهم شُرَيحٌ، والنَّخَعيُّ، ويَحيى الأنصاريُّ، والقاسِمُ، وسالِمٌ. يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (5/ 158)، ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 376). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك [1773] قال ابنُ تيميَّةَ: (لا يَجوزُ للمَريضِ تَخصيصُ بَعضِ أولادِه بعَطيَّةٍ مُنَجَّزةٍ... ولا أن يُقِرَّ له بشَيءٍ في ذِمَّتِه، فإذا فعَلَ ذلك لَم يَجُزْ تَنفيذُه بدونِ إجازةِ بَقيَّةِ الورَثةِ، وهذا كُلُّه باتِّفاقِ المُسلِمينَ) ((مجموع الفتاوى)) (31/ 308).            .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّه تَعَلَّقَ حَقُّ الورَثةِ بمالِه في مَرَضِه؛ ولِهذا يُمنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ على الوارِثِ أصلًا [1774] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (3/ 187). .
ثانيًا: لأنَّ تَخصيصَ البَعضِ به إبطالُ حَقِّ الباقينَ [1775] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (3/ 187). .
ثالثًا: لأنَّه مُتَّهَمٌ فيه بحِرمانِ بَعضِ الورَثةِ [1776] يُنظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/ 69)، ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (3/ 5). .
رابِعًا: لأنَّه مُنِعَ مِنَ الوصيَّةِ له، فلا يُؤمَنُ أن يَزيدَ الوصيَّةَ له فيَجعَلَها إقرارًا [1777] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 376). .
خامسًا: لأنَّه إيصالٌ لمالِه إلى وارِثِه بقَولِه في مَرَضِ مَوتِه، فلَم يَصِحَّ بغَيرِ رِضا بَقيَّةِ ورَثَتِه، كَهِبَتِه [1778] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (5/ 158). .
سادسًا: لأنَّه مَحجورٌ عليه في حَقِّه، فلَم يَصِحَّ إقرارُه لَه، كالصَّبيِّ في حَقِّ جَميعِ النَّاسِ [1779] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (5/ 158). .
القَولُ الثَّاني: يَصِحُّ إقرارُ المَريضِ بمَرَضٍ مَخوفٍ إذا لَم يُتَّهَمْ، ويَبطُلُ إذا اتُّهِمَ [1780] كما لَو أقَرَّ لبِنتِه ومَعَها مَن يُشارِكُها مِن غَيرِ الولَدِ، كابنِ العَمِّ مَثَلًا؛ وذلك لأنَّه يُتَّهَمُ في أن يَزيدَ بنتَه ويَنقُصَ ابنَ عَمِّه، وأيضًا كأن يُقِرَّ لزَوجَتِه التي يُعرَفُ بمَحَبَّتِها والمَيلِ إلَيها، وكانَ بَينَه وبَينَ ولَدِه مِن غَيرِها تَباعُدٌ. ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [1781] ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البر (2/ 886، 447)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (3/ 527). ، وقَولُ الرُّويانيِّ مِنَ الشَّافِعيَّةِ [1782] ((روضة الطالبين)) للنووي (4/ 353). ، وأبي الخَطَّابِ مِنَ الحَنابِلةِ [1783] ((الإنصاف)) للمرداوي (12/ 135). ؛ وذلك لأنَّ العِلَّةَ في مَنعِ الإقرارِ التُّهمةُ، فاختُصَّ المَنعُ بمَوضِعِها [1784] يُنظر: ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البر (2/ 886 ، 447)، ((المغني)) لابن قدامة (5/ 158). .
القَولُ الثَّالِثُ: يَصِحُّ إقرارُ المَريضِ بمَرَضٍ مَخوفٍ لوارِثٍ مُطلَقًا، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [1785] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 139)، ((روضة الطالبين)) للنووي (4/ 353)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/ 69). ، وهو قَولُ ابنِ حَزمٍ [1786] قال ابنُ حَزمٍ: (المَريضُ مَريضًا يَموتُ مِنهُ أوِ المَوقوفُ للقَتلِ... قال أبو مُحَمَّدٍ: كُلُّ مَن ذَكَرنا فكُلُّ ما أنفَذوا في أموالِهم مِن هِبةٍ أو صَدَقةٍ... أو إقرارٍ، كانَ كُلُّ ذلك لوارِثٍ أو لغَيرِ وارِثٍ، أو إقرارٍ بوارِثٍ، أو عِتقٍ، أو قَضاءِ بَعضِ غُرَمائِهم دونَ بَعضٍ، كانَ عليهم دَينٌ أو لَم يَكُنْ؛ فكُلُّه نافِذٌ مِن رُؤوسِ أموالِهم، كما قدَّمنا في الأصِحَّاءِ الآمِنينَ المُقيمينَ، ولا فرقَ في شَيءٍ أصلًا). ((المحلى بالآثار)) (8/ 403). ، وقال به بَعضُ السَّلَفِ [1787] منهم عَطاءٌ، والحَسَنُ، والأوزاعيُّ، وإسحاقُ، وأبو ثَورٍ. يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (5/ 158)، ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 376). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58]
وَجهُ الدَّلالةِ:
لَم يَخُصَّ وارِثًا ولا غَيرَه، أي لَم يُفَرِّقْ بَينَ الوارِثِ وغَيرِه في الأمرِ بأداءِ الأمانةِ، فيَصِحُّ الإقرارُ سَواءٌ كانَ لوارِثٍ أو غَيرِه [1788] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 376). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَن أبي هُرَيرةَ -رَضيَ اللهُ عنه- عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إيَّاكُم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذَبُ الحَديثِ)) [1789] أخرجه البخاري (6066)، ومسلم (2563). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ مَدارَ الأحكامِ على الظَّاهِرِ، فلا يُترَكُ إقرارُه للظَّنِّ المُحتَمَلِ؛ فإنَّ أمرَه فيه إلى اللهِ تعالى [1790] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 376). .
ثالثًا: أنَّ التُّهمةَ في حَقِّ المُحتَضَرِ بَعيدةٌ؛ لانتِهائِه إلى حالةٍ يَصدُقُ فيها الكاذِبُ ويَتوبُ الفاجِرُ، فالظَّاهِرُ أنَّه مُحِقٌّ [1791] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 376)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/ 69). .
رابِعًا: لأنَّهمُ اتَّفَقوا على أنَّ المَريضَ إذا أقَرَّ بوارِثٍ -يَعني في النَّسَبِ- صَحَّ إقرارُه، فيَكونُ إقرارُه له بالمالِ أَولى [1792] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 376). .

انظر أيضا: