الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: المُشاورةُ


يُستَحَبُّ للقاضي إذا احتاجَ إلى الاجتِهادِ أن يُشاوِرَ أهلَ العِلمِ والأمانةِ للتَّوصُّلِ إلى الحَقِّ.
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
قَولُه تعالى: وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ [آل عمران: 159] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ تَعالى أمَرَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذه الآيةِ أن يُشاوِرَ أصحابَه، وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ غَنيٌّ عَن مُشاورَتِهم، وإنَّما أرادَ أن يَستَنَّ بذلك الحُكَّامُ مِن بَعدِه [444] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (13/56). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأبي بَكرٍ وعُمَرَ في شَأنِ أُسارى بَدرٍ: ((ما تَرَونَ في هؤلاء الأُسارى؟)) [445] أخرجه مسلم (1763). .
2- عَن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شاورَ حينَ بَلَغَه إقبالُ أبي سُفيانَ)) [446] أخرجه مسلم (1779). .
ثالثًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ الشَّعبيِّ: (أنَّ كَعبَ بنَ سُورٍ كانَ جالِسًا عِندَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فجاءَتِ امرَأةٌ فقالت: يا أميرَ المُؤمِنينَ، ما رَأيتُ رَجُلًا قَطُّ أفضَلَ مِن زَوجي، واللهِ إنَّه لَيَبيتُ لَيلَه قائِمًا، ويَظَلُّ نَهارَه صائِمًا! فاستَغفَرَ لَها وأثنى عليها، واستَحيَتِ المَرأةُ وقامَت راجِعةً. فقال كَعبٌ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، هَلَّا أعدَيتَ المَرأةَ على زَوجِها، فلَقد أبلَغَت في الشَّكوى! فقال لكَعبٍ: اقضِ بَينَهما؛ فإنَّكَ فَهِمتَ مِن أمرِها ما لم أفهَمْ. قال: فإنِّي أرى كَأنَّها عليها ثَلاثُ نِسوةٍ هيَ رابِعَتُهنَّ، فأقضي له بثَلاثةِ أيَّامٍ ولَياليهنَّ يَتَعَبَّدُ فيهنَّ، ولها يَومٌ ولَيلةٌ، فقال عُمَرُ: واللهِ ما رَأيُكَ الأوَّلُ بأعجَبَ مِنَ الآخَرِ، اذهَبْ فأنتَ قاضٍ على البَصرةِ، نِعمَ القاضي أنت!) [447] أخرجه سعيد بن منصور كما في ((منار السبيل)) لابن ضويان (2/198) واللفظ له، وعبد الرزاق (12587)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8644). صحَّحه الألباني في ((إرواء الغليل)) (2016). .
وجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ والأثَرِ:
دَلَّ الحَديثانِ والأثَرُ على مَشروعيَّةِ الاستِشارةِ واستِحبابِها؛ لأنَّها فِعلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه رَضيَ اللهُ عنهم [448] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/46). .
رابعًا: من الإجماعِ
نَفى الخِلافَ في ذلك: ابنُ قُدامةَ [449] قال ابنُ قُدامةَ: (مَسألةٌ؛ قال: (وإذا نَزَلَ به الأمرُ المُشكِلُ عليه مِثلُه شاورَ فيه أهلَ العِلمِ والأمانةِ) وجُملَتُه أنَّ الحاكِمَ إذا حَضَرَتهُ قَضيَّةٌ تَبَيَّنَ له حُكمُها في كِتابِ اللهِ تَعالى، أو سُنَّةِ رَسولِه، أو إجماعٍ، أو قياسٍ جَليٍّ، حَكَمَ ولَم يَحتَجْ إلى رَأيِ غَيرِه...، وإنِ احتاجَ إلى الاجتِهادِ استُحِبَّ له أن يُشاوِرَ؛ لقَولِ اللهِ تَعالى: وشاوِرْهُم في الأمرِ [آل عمران: 159] . قال الحَسَنُ: إن كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَغَنيًّا عَن مُشاورَتِهم، وإنَّما أرادَ أن يَستَنَّ بذلك الحُكَّامُ بَعدَه. وقد شاورَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه في أُسارى بَدرٍ، وفي مُصالَحةِ الكُفَّارِ يَومَ الخَندَقِ، وفي لقاءِ الكُفَّارِ يَومَ بَدرٍ. ورويَ: ما كانَ أحَدٌ أكثَرَ مُشاورةً لأصحابِه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وشاورَ أبو بَكرٍ النَّاسَ في ميراثِ الجَدَّةِ، وعُمَرُ في ديةِ الجَنينِ، وشاورَ الصَّحابةَ في حَدِّ الخَمرِ. ورويَ: أنَّ عُمَرَ كانَ يَكونُ عِندَه جَماعةٌ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنهُم عُثمانُ، وعَليٌّ، وطَلحةُ، والزُّبَيرُ، وعَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ، إذا نَزَلَ به الأمرُ شاورَهم فيه. ولا مُخالِفَ في استِحبابِ ذلك). ((المغني)) (10/45، 46). ، وشَمسُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ [450] قال شَمسُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ: (ويُستَحَبُّ أن يُشاوِرَهم فيما يُشكِلُ عليه؛ لقَولِ اللهِ سُبحانَه: وشاوِرْهُم في الأمرِ [آل عمران: 159] ، قال الحَسَنُ: إن كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَغَنيًّا عَن مَشورَتِهم، وإنَّما أرادَ أن يَستَنَّ بذلك الحُكَّامُ بَعدَه، وقد شاورَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه في أُسارى بَدرٍ، وفي مُصالَحةِ الكُفَّارِ يَومَ الخَندَقِ، وشاورَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنهُ النَّاسَ في ميراثِ الجَدَّةِ، وعُمَرُ في ديةِ الجَنينِ، وشاورَ في حَدِّ الخَمرِ، ورُويَ أنَّ عُمَرَ كانَ يَكونُ عِندَه جَماعةٌ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِنهُم عُثمانُ، وعَليٌّ، وطَلحةُ، والزُّبَيرُ، وعَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ، إذا نَزَلَ به الأمرُ شاورَهم فيه. ولا مُخالِفَ في استِحبابِ ذلك). ((الشرح الكبير)) (11/399،400). ، وبُرهانُ الدِّينِ ابنُ مُفلِحٍ [451] قال بُرهانُ الدِّينِ ابنُ مُفلِحٍ: ((ويُشاوِرُهم فيما يُشكِلُ عليهـ) لقَولِه تَعالى: وشاوِرْهُم في الأمرِ [آل عمران: 159] «وقد شاورَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه في أُسارى بَدرٍ، وشاورَ أبو بَكرٍ في ميراثِ الجَدَّةِ، وعُمَرُ في ديةِ الجَنينِ، وشاورَ في حَدِّ الخَمرِ»، ولا مُخالِفَ في استِحبابِ ذلك). ((المبدع)) (8/167). .
خامِسًا: أنَّ المُشاورةَ مُستَحَبَّةٌ؛ لأنَّها تُنَبِّهُ القاضيَ وتُذَكِّرُه بما نَسيَه [452] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/46). .
سادِسًا: أنَّ القاضيَ يُكَمِّلُ النَّقصَ الذي عِندَه بالمُشاوَرةِ؛ فإنَّ الإحاطةَ بجَميعِ العُلومِ مُتَعَذِّرةٌ [453] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/46). .
سابِعًا: أنَّه قد يَنتَبِهُ لإصابةِ الحَقِّ ومَعرِفةِ الحادِثةِ مَن هو دونَ القاضي، فكَيفَ بمَن يُساويه أو يَزيدُ عليه، فاستُحِبَّتِ المُشاورةُ تَوثُّقًا لإصابةِ الحَقِّ [454] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/46). .

انظر أيضا: