المَطلَبُ الثَّاني: حُكمُ تَوبةِ مَن تَكَرَّرَت رِدَّتُه في الظَّاهرِ
اختَلَف الفُقَهاءُ في قَبولِ تَوبةِ مَن تَكَرَّرَت رِدَّتُه في الظَّاهرِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا تُقبَلُ تَوبةُ مَن تَكَرَّرَت رِدَّتُه في الظَّاهرِ، وهو مَذهَبُ الحَنابِلةِ
[2000] ((الإنصاف)) للمرداوي (10/333)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6 / 177). ، وقال به بَعضُ الحَنَفيَّةِ
[2001] ((حاشية ابن عابدين)) (4/225). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ
[2002] ((روضة الطالبين)) للنووي (10/76). ويُنظر: ((المهذب في فقه الإمام الشافعي)) للشيرازي (3/ 258). .
الأدِلَّة:ِ أوَّلًا: مِنَ الكتابِ 1- قَولُه تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء: 137] .
وَجهُ الدَّلالةِ: دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ تَكرارَ الرِّدَّةِ والازديادَ مِنَ الكُفرِ يَتَرَتَّبُ عليه عَدَمُ المَغفِرةِ والهدايةِ؛ فلِذلك لا تُقبَلُ التَّوبةِ
[2003] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (6 / 177). .
2- قَولُه تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمران: 90] .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الازديادَ في الكُفرِ يَقتَضي كُفرًا مُتَجَدِّدًا لا بُدَّ مِن تَقدُّمِ إيمانٍ عليه؛ فلِذلك لا تُقبَلُ تَوبةُ مَن تَكَرَّرَت رِدَّتُه
[2004] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (6 / 177). .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ عن ابنِ مُعَيزٍ السَّعديِّ، قال: (خَرَجتُ أسقي فرَسًا لي في السَّحَرِ، فمَرَرتُ بمَسجِدِ بَني حَنيفةَ وهم يَقولونَ: إنَّ مُسَيلِمةَ رَسولُ اللهِ، فأتَيتُ عَبدَ اللَّهِ فأخبَرتُه، فبَعَثَ الشُّرطةَ فجاؤوا بهم، فاستَتابَهم، فتابوا فخَلَّى سَبيلَهم، وضَرَبَ عُنُقَ عَبدِ اللَّهِ بنِ النَّوَّاحةِ، فقالوا: آخَذتَ قَومًا في أمرٍ واحِدٍ، فقَتَلتَ بَعضَهم وتَرَكتَ بَعضَهم! قال: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَدِمَ عليه هذا وابنُ أُثالِ بنِ حَجْرٍ، فقال: أتَشهَدانِ أنِّي رَسولُ اللهِ؟ فقالا: نَشهَدُ أنَّ مُسَيلِمةَ رَسولُ اللهِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: آمَنتُ باللهِ ورُسُلِه، لَو كُنتُ قاتِلًا وَفدًا لقَتَلتُكُما؛ فلِذلك قَتَلتُهـ)
[2005] أخرجه أحمد (3837) واللفظ له، والدارمي (2545)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (2861). صَحَّحه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3837)، وحَسَّن إسنادَه ابن تيمية في ((الصارم المسلول)) (3/607)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/321). .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ ابنَ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ تعالى عنه قد قَتَلَ ابنَ النَّوَّاحةِ، ولَم يَقبَلْ تَوبَتَه؛ إذ عَلِمَ أنَّ هَكَذا خُلُقَه، يُظهِرُ التَّوبةَ إذا ظُفِرَ به، ثُمَّ يَعودُ إلى ما كان عليه إذا خُلِّي
[2006] يُنظر: ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (3/ 211). .
ثالِثًا: لأنَّ تَكرارَ الرِّدَّةِ مِنه يَدُلُّ على فَسادِ عَقيدَتِه وقِلَّةِ مُبالاتِه بالدِّينِ، فيُقتَلُ
[2007] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 177). .
رابِعًا: لأنَّه قد ظَهَرَ مِنه الاستِخفافُ، وقَتلُ الكافِرِ الذي بَلَغَته الدَّعوةُ قَبلَ الاستِتابةِ جائِزٌ
[2008] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/169-170). .
القَولُ الثَّاني: تُقبَلُ تَوبةُ المُرتَدِّ في الظَّاهرِ ولَو تَكَرَّرَت رِدَّتُه، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ
[2009] قال ابنُ عُثَيمين: (والمَذهَبُ: أنَّ المُرتَدِّينَ قِسمانِ: قِسمٌ لا تُقبَلُ تَوبَتُهم، فهؤلاء لا يُستَتابونَ لعَدَم الفائِدةِ، وهم: مَن سَبَّ اللهَ أو رَسولَه، أو تَكَرَّرَت رِدَّتُه، فإنَّ هذا يُقتَلُ حتَّى لَو تابَ. والصَّحيحُ: أنَّه تُقبَلُ تَوبَتُهم؛ لعُمومِ الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على قَبولِ اللهِ تعالى التَّوبةَ مِن كُلِّ ذَنبٍ). ((الشرح الممتع)) (2/ 38). : الحَنَفيَّةِ
[2010] ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/135)، ((حاشية ابن عابدين على الدر المختار)) (4/226). ، والمالِكيَّةِ
[2011] ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/ 282). ، والشَّافِعيَّةِ -في الصَّحيحِ-
[2012] ((روضة الطالبين)) للنووي (10/76). ، ورِوايةٌ للحَنابِلةِ
[2013] ((الفروع)) لابن مفلح (6/170)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/333). .
الأدِلَّة:ِ أوَّلًا: مِنَ الكتابِ 1- قَوله تعالى:
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5] .
2- قَوله تعالى:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] .
وَجهُ الدَّلالةِ: الآياتُ تَدُلُّ بإطلاقِها على قَبولِ تَوبةِ مَن تابَ، سَواءٌ تَكَرَّرَ مِنه أو لا
[2014] يُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (6/68). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ عن ابنِ عُمَرَ، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشهَدوا أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاةَ، ويُؤتوا الزَّكاةَ، فإذا فعَلوا ذلك عَصَموا مِنِّي دِماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّ الإسلامِ، وحِسابُهم على اللهِ )) [2015] أخرجه البخاري (25) واللفظ له، ومسلم (22). .
وَجهُ الدَّلالةِ: عُمومُ الحَديثِ أنَّ مَن نَطَقَ بالشَّهادَتَينِ عُصِمَ مالُه ودَمُه.
ثالثًا: مِنَ الآثارِ عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: ( كَتَب عَمرُو بنُ العاصِ إلى عُمَرَ يَسألُه عن رَجُلٍ أسلَمَ ثُمَّ كَفرَ، ثُمَّ أسلَمَ ثُمَّ كَفرَ، فَعَل ذلك مِرارًا، أيُقبَلُ مِنه الإسلامُ؟ فكَتَبَ إليه عُمَرُ: اقبَلْ مِنهم ما قَبِلَ اللهُ مِنهم، اعرِضْ عليه الإسلامَ، فإن قَبِل وإلَّا ضُرِبَ عُنُقُهـ)
[2016] أخرجه مسدد كما في ((إتحاف الخيرة المهرة)) للبوصيري (4/232) واللفظ له، وابن عبد الحكم كما في ((كنز العمال)) للمتقي الهندي (1/312). .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه قَبِلَ تَوبتَهم مَهما تَكَرَّرَت
[2017] يُنظر: ((الأوسط)) لابن المنذر (13/525). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش