الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثَّالِثُ: ميراثُ المُرتَدِّ


اختَلَف الفُقَهاءُ في مالِ المُرتَدِّ إذا قُتِلَ أو ماتَ على الرِّدَّةِ، على ثَلاثةِ أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ جَميعَ مالِه يَكونُ فَيئًا لبَيتِ المالِ ولا يَرِثُه ورَثَتُه المُسلِمونَ ولا غَيرُهم، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالِكيَّةِ [1974] ((التاج والإكليل)) للمواق (8/374)، ((الشرح الكبير)) للدردير (4/ 304). ، والشَّافِعيَّةِ [1975] ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/ 142)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/421). ، والحَنابِلةِ [1976] ((الفروع)) لابن مفلح (10/ 203)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 339). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتعالى مَنَع الدِّماءَ بالإسلامِ، ومَنَع الأموالَ بالذي مَنَع به الدِّماءَ، فإذا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنَ الإسلامِ إلى أن يُباحَ دَمُه بالكُفرِ كَما كان يَكونُ مُباحًا قَبلَ أن يُسلِمَ، يُباحُ مَعَه مالُه، وكان أهوَنَ مِن دَمِه؛ لأنَّه كان مَمنوعًا تَبَعًا لدَمِه، فلمَّا هُتِكَت حُرمةُ الدَّمِ كانت حُرمةُ المالِ أهتَكَ وأيسَرَ مِنَ الدَّمِ [1977] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (7/ 383).  .
ثانيًا: أنَّ المُرتَدَّ لا يَرِثُه مَن يوافِقُه في المِلَّةِ، والموافَقةُ في المِلَّةِ سَبَبُ التَّوريثِ، والمُخالَفةُ في المِلَّةِ سَبَبُ الحِرمانِ، فلمَّا لم يَرِثْه مَن يوافِقُه في المِلَّةِ مَعَ وُجودِ سَبَبِ التَّوريثِ فلأَنْ لا يَرِثَه مَن يُخالِفُه في المِلَّةِ أَولى، وإذا انتَفى التَّوريثُ عن مالِه فهو فيءٌ في أحَدِ الوجهَينِ؛ لأنَّه مالُ حَربيٍّ لا أمانَ لَه، فيَكونُ فَيئًا للمُسلِمينَ، وفي الوَجهِ الآخَرِ: هو مالٌ ضائِعٌ، فمَصيرُه بَيتُ المالِ، كالذِّمِّيِّ إذا ماتَ ولا وارِثَ له مِنَ الكُفَّارِ، يوضَعُ مالُه في بَيتِ المالِ [1978] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/ 100).  .
القَولُ الثَّاني: أنَّ مالَه يَكونُ لورَثَتِه مِنَ المُسلِمينَ، وهذا قَولُ أبي يوسُفَ ومُحَمَّدٍ مِنَ الحَنَفيَّةِ [1979] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 286)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/ 141-142). ، ورِوايةٌ عِندَ الحَنابِلةِ [1980] ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/ 445). ، وهو اختيارُ ابنِ تَيميَّةَ [1981] قال ابنُ تَيميَّةَ: (المُرتَدُّ إن قُتِلَ في رِدَّتِه أو ماتَ عليها فمالُه لوارِثِه المُسلِمِ، وهو رِوايةٌ عنِ الإمامِ أحمَدَ، وهو المَعروفُ عنِ الصَّحابةِ، ولأنَّ رِدَّتَه كَمَرَضِ مَوتِهـ). ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 445). ، وابنِ القَيِّمِ [1982] قال ابنُ القَيِّمِ: (أمَّا المُرتَدُّ فالمَعروفُ عنِ الصَّحابةِ -مِثلُ عليٍّ، وابنِ مَسعودٍ- أنَّ مالَه لورَثَتِه مِنَ المُسلِمينَ أيضًا، ولم يُدخِلوه في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا يَرِثُ المُسلِمُ الكافِرَ». وهذا هو الصَّحيحُ). ((أحكام أهل الذمة)) (2/855). وقال: (فأمَّا على القَولِ الرَّاجِحِ أنَّه لورَثَتِه مِنَ المُسلِمينَ فلا تَتِمُّ الحيلةُ، وهذا القَولُ هو الصَّوابُ). ((إعلام الموقعين)) (3/190). ، وهو قَولُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ [1983] قال ابنُ حَزمٍ: (عن موسى بنِ أبي كَثيرٍ، قال: سَألتُ سَعيدَ بنَ المُسَيِّبِ عنِ المُرتَدِّ: هَل يَرِثُ المُرتَدَّ بَنوه؟ فقال: نَرِثُهم ولا يَرِثونَنا، قال: وتَعتَدُّ امرَأتُه ثَلاثةَ قُروءٍ، فإن قُتِل: فأربَعةَ أشهُرٍ وعَشرًا، ومِن طَريقِ سُفيانَ الثَّوريِّ عن عَمرِو بنِ عُبَيدٍ عنِ الحَسَنِ، قال: كان المُسلِمونَ يُطَيِّبونَ ميراثَ المُرتَدِّ لأهلِه إذا قُتِلَ، ورُويَ تَوريثُ مالِ المَقتولِ على الرِّدَّةِ لورَثَتِه مِنَ المُسلِمينَ عن عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ، والشَّعبيِّ، والحَكَمِ بنِ عُتَيبةَ، والأوزاعيِّ، وإسحاقَ بنِ راهَوَيهـ). ((المحلى بالآثار)) (8/ 338). ، وحُكيَ إجماعُ الصَّحابةِ على ذلك [1984] قال الكاسانيُّ: (ولَنا ما رُويَ أنَّ سَيِّدَنا عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه قَتَلَ المُستَورِدَ العِجليَّ بالرِّدَّةِ، وقَسَمَ مالَه بَينَ ورَثَتِه المُسلِمينَ، وكان ذلك بمَحضَرٍ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ولم يُنقَلْ أنَّه أنكَرَ مُنكِرٌ عليه، فيَكونُ إجماعًا مِنَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ تعالى عنهم). ((بدائع الصنائع)) (7/ 138). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
قَولُه تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [النساء: 176] .
وَجهُ الدَّلالةِ:     
دَلَّ ظاهرُ هذه الآيةِ على تَوريثِ مالِ المُرتَدِّ لورَثَتِه المُسلِمينَ، فإنَّ المُرتَدَّ هالِكٌ؛ لأنَّه ارتَكَبَ جَريمةً استَحَقَّ بها القَتلَ، فيَكونُ هالِكًا [1985] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/ 100).  .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عنِ الأعمَشِ عنِ الشَّيبانيِّ، قال: (أُتيَ عليٌّ بشَيخٍ كان نَصرانيًّا فأسلَمَ، ثُمَّ ارتَدَّ عنِ الإسلامِ، فقال لَه عليٌّ: لَعَلَّك إنَّما ارتَدَدتَ لأن تُصيبَ ميراثًا ثُمَّ تَرجِعَ إلى الإسلامِ؟ قال: لا، قال: فلَعَلَّك خَطَبتَ امرَأةً فأبَوا أن يُزَوِّجوكها، فأرَدتَ أن تَزَوَّجَها، ثُمَّ تَعودَ إلى الإسلامِ؟ قال: لا، قال: فارجِعْ إلى الإسلامِ، قال: لا، أمَّا حتَّى ألقى المَسيحَ فلا، قال: فأمَرَ به فضُرِبَت عُنُقُه، ودَفعَ ميراثَه إلى ولَدِه المُسلِمينَ) [1986] أخرجه عبد الرزاق (18709). .
وَجهُ الدَّلالةِ:     
أنَّ ذلك بمَحضَرٍ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ولَم يُنقَلْ أنَّه أنكَرَ مُنكِرٌ عليه، فيَكونُ إجماعًا مِنَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ تعالى عنهم [1987] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/ 138).  .
ثالِثًا: لأنَّه كان مُسلِمًا مالِكًا لمالِه، فإذا تَمَّ هَلاكُه خَلَفَه وارِثُه في مالِه، كَما لَو ماتَ المُسلِمُ؛ لَأنَّ الرِّدَّةَ هَلاكٌ، فإنَّه يَصيرُ به مُحارِبًا، وأهلُ الحَربِ في حَقِّ المُسلِمينَ كالمَوتى، إلَّا أنَّ تَمامَ هَلاكِه حَقيقةً بالقَتلِ أوِ المَوتِ، فإذا تَمَّ ذلك استَنَدَ التَّوريثُ إلى أوَّلِ الرِّدَّةِ، وقد كان مُسلِمًا عِندَ ذلك فيَخلُفُه وارِثُه المُسلِمُ في مالِه، ويَكونُ هذا تَوريثَ المُسلِمِ مِنَ المُسلِمِ؛ وهذا لأنَّ الحُكمَ عِند تَمامِ سَبَبِه يَثبُتُ مِن أوَّلِ السَّبَبِ [1988] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/ 100 - 101). .
القَولُ الثَّالِثُ: أنَّ مالَه لورَثَتِه مِنَ الكُفَّارِ، وهو مَذهَبُ الظَّاهريَّةِ [1989] قال ابنُ حَزمٍ: (قال أبو سُلَيمانَ: ميراثُ المُرتَدِّ إن قُتِل لورَثَتِه مِنَ الكُفَّارِ). ((المحلى بالآثار)) (8/ 339). وقال أيضًا: (فلَمَّا اختَلَفوا نَظَرنا في ذلك، فكان الثَّابِتُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أنَّه لا يَرِثُ المُسلِمُ الكافِرَ: مانِعًا مِن تَوريثِ ولَدِ المُرتَدِّ -وهم مُسلِمونَ- مالَ أبيهمُ المُرتَدِّ؛ لأنَّه كافِرٌ وهم مُسلِمونَ، أنا بهذا الحَديثِ جَماعةٌ، ومِن جُملَتِهم: ما أناه عَبُد اللَّهِ بنُ رَبيعٍ أنا مُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ بنِ السَّليمِ أنا ابنُ الأعرابيِّ أنا أبو داودَ أنا مُسَدَّدٌ أنا سُفيانُ عنِ الزُّهريِّ عن عَليِّ بنِ الحُسَينِ عن عَمرِو بنِ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ عنِ النَّبيِّ  صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال «لا يَرِثُ المُسلِمُ الكافِرَ، ولا الكافِرُ المُسلِمَ»، هذا عُمومٌ مِنه عليه السَّلامُ، لم يُخَصَّ مِنه مُرتَدٌّ مِن غَيرِه وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64] ، ولو أرادَ اللهُ أن يَخُصَّ المُرتَدَّ مِن ذلك لما أغفَلَه ولا أهمَلَه، بَل قد حَضَّ اللَّهُ تعالى على أنَّ المُرتَدَّ مِن جُملةِ الكُفَّارِ بقَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] ) (المحلى بالآثارِ)) (12/ 122). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال: 73] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ آياتِ المَواريثِ العامَّةَ يَدخُلُ فيها المُسلِمونَ والكُفَّارُ، فلا يَخرُجُ عن حُكمِها إلَّا ما أخرَجَه نَصٌّ صَحيحٌ [1990] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (8/ 341).  .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لا يَرِثُ المُسلِمُ الكافِرَ، ولا الكافِرُ المُسلِمَ )) [1991] أخرجه البخاري (6764) واللفظ له، ومسلم (1614). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الحَديثُ يَدُلُّ على العُمومِ، ولَم يُخَصَّ مِنه مُرتَدٌّ مِن غَيرِه، ومَعلومٌ أنَّ المُرتَدَّ مِنَ الكُفَّارِ [1992] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (12/ 123).  .

انظر أيضا: