الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الأوَّلُ: حُكمُ السَّرِقةِ


السَّرِقةُ حَرامٌ وكَبيرةٌ مِنَ الكَبائِرِ [1183] عَرَّف الحَنَفيَّةُ السَّرِقةَ بقَولِهم: أخذُ مُكَلَّفٍ خُفيةً قَدْرَ عَشَرةِ دَراهمَ مَضروبةٍ، مُحرَزةٍ بمَكانٍ أو حافِظٍ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (13/ 211). وعَرَّفها المالِكيَّةُ بقَولِهم: أخذُ مُكَلَّفٍ حُرًّا لا يَعقِلُ لصِغَرِه، أو مالًا مُحتَرَمًا لغَيرِه نِصابًا، أخرَجَه مِن حِرزِه، بقَصدٍ واحِدٍ، خُفيةً، لا شُبهةَ له فيه. يُنظر: ((شرح حدود ابن عرفة)) للرصاع (503). وعِندَ الشَّافِعيَّةِ: السَّرِقةُ هيَ: أخذُ المالِ خُفيةً مِن حِرزٍ مِثلِه. يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيثمي (9/ 144). وعِندَ الحَنابِلةِ هيَ: أخذُ مالٍ مُحتَرَمٍ لغَيرِه، وإخراجُه مِن حِرزٍ مِثلِه، لا شُبهةَ له فيه، على وَجهِ الاختِفاءِ. يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 129). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
1- قال اللَّهُ تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة: 38] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
نَصَّتِ الآيةُ على عُقوبةِ السَّارِقِ بالحَدِّ في الدُّنيا؛ مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ السَّرِقةَ مِنَ الكَبائِرِ؛ لأنَّ الكَبائِرَ ما يَقومُ عليه الدَّليلُ مِمَّا فيه حَدٌّ في الدُّنيا، كالقَتلِ والزِّنا والسَّرِقةِ، أو جاءَ فيه وعيدٌ في الآخِرةِ مِن عَذابٍ أو غَضَبٍ أو تَهديدٍ، أو لَعنِ فاعِلِه على لسانِ نَبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه كَبيرةٌ [1184] يُنظر: ((الكبائر)) للذهبي (ص: 8).  .
2- قال تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة: 188] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّت هذه الآيةُ على تَحريمِ السَّرِقةِ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى نهى عن أكلِ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ، والنَّهيُ للتَّحريمِ، والسَّارِقُ آكِلٌ للمالِ بالباطِلِ [1185] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (14/323). .
 ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هرَيرةَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لَعنَ اللهُ السَّارِقَ؛ يَسرِقُ البَيضةَ فتُقطَعُ يَدُه، ويَسرِقُ الحَبلَ فتُقطَعُ يَدُهـ)) [1186] أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَعنَ اللهُ السَّارِقَ)) دَليلٌ أنَّ السَّرِقةَ كَبيرةٌ؛ لأنَّ مِنَ الحُكمِ على الذَّنبِ بأنَّه كَبيرةٌ لَعنَ فاعِلِ المَعصيةِ [1187] يُنظر: ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 237). .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَزني الزَّاني حينَ يَزني وهو مُؤمِنٌ، ولا يَشرَبُ الخَمرَ حينَ يَشرَبُها وهو مُؤمِنٌ، ولا يَسرِقُ السَّارِقُ حينَ يَسرِقُ وهو مُؤمِنٌ)) [1188] أخرجه البخاري (5578) واللفظ له، ومسلم (57). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ على أنَّ السَّرِقةَ كَبيرةٌ؛ حَيثُ إنَّه نَفى عنه الإيمانَ، وهو تَهديدٌ بالوعيدِ بالعَذابِ [1189] يُنظر: ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 237). .
3- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن شَيءٍ تُوعَدونَه إلَّا قد رَأيتُه في صَلاتي هذه، لَقد جيءَ بالنَّارِ، وذلكم حينُ رَأيتُموني تَأخَّرتُ؛ مَخافةَ أن يُصيبَني مِن لَفحِها، وحتَّى رَأيتُ فيها صاحِبَ المِحجَنِ يَجُرُّ قُصْبَه في النَّارِ، كان يَسرِقُ الحاجَّ بمِحجَنِه، فإن فُطِن له قال: إنَّما تَعَلَّق بمِحجَني، وإن غُفِلَ عنه ذَهَبَ بهـ)) [1190] أخرجه مسلم (904). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دُخولُ صاحِبِ المِحجَنِ النَّارَ بسَبَبِ سَرِقَتِه، وهو دَليلٌ على حُرمةِ السَّرِقةِ وأنَّها كَبيرةٌ [1191] يُنظر: ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) لابن حجر الهيتمي (2/ 237). .
4- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَطَبَ النَّاسَ يَومَ النَّحرِ فقال: ((يا أيُّها النَّاسُ، أيُّ يَومٍ هذا؟ قالوا: يَومٌ حَرامٌ، قال: فأيُّ بَلَدٍ هذا؟ قالوا: بَلَدٌ حَرامٌ، قال: فأيُّ شَهرٍ هذا؟ قالوا: شَهرٌ حَرامٌ، قال: فإنَّ دِماءَكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكُم حَرامٌ كحُرمةِ يَومِكُم هذا، في بَلَدِكُم هذا، في شَهرِكُم هذا، فأعادَها مِرارًا...)) [1192] أخرجه البخاري (1739). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ بَيانُ حُرمةِ الأموالِ وحُرمةِ التَّعَدِّي عليها، ومِنها السَّرِقةُ [1193] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عيثمين (14/ 323). .
5- عنِ المِقدادِ بنِ الأسودِ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما تَقولونَ في الزِّنا؟ قالوا: حَرَّمه اللَّهُ ورَسولُه، فهو حَرامٌ إلى يَومِ القيامةِ، قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه: لأن يَزنيَ الرَّجُلُ بعَشرِ نِسوةٍ أيسَرُ عليه مِن أن يَزنيَ بامرَأةِ جارِه، قال: فقال: ما تَقولونَ في السَّرِقةِ؟ قالوا: حَرَّمه اللَّهُ ورَسولُه، فهيَ حَرامٌ، قال: لأن يَسرِقَ الرَّجُلُ مِن عَشَرةِ أبياتٍ أيسَرُ عليه مِن أن يَسرِقَ مِن جارِهـ)) [1194] أخرجه أحمد (23854) واللفظ له، والطبراني (20/257) (605)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9105). حَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1141)، وجود إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/136)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23854). .
ثالثًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنذِرِ [1195] قال ابنُ المُنذِرِ: (أجمَعَ أهلُ العِلمِ على تَحريمِ أموالِ المُسلِمينَ إلَّا مِن حَيثُ أُبيحَ لَهم أخذُها، وأجمَعوا على أنَّ مَن أخَذَ مالًا لأخيه المُسلِمِ مِن غَيرِ جِهةِ السَّرِقةِ مِن غَيرِ طِيبِ نَفسِه غَرِمَ ما أخَذَ، وأجمَعوا كذلك أنَّ السَّارِقَ مُتَعَدٍّ بأخذِ مالِ أخيه المُسلِمِ، وأجمَعوا كذلك أنَّ عليه رَدَّ ما سَرَقَ إن كان قائِمًا بعَينِه، قُطِعَت يَدُه أو لم تُقطَعْ). ((الأوسط)) (12/357-358). ، والنَّوويُّ [1196] قال النَّوويُّ: (إجماعُ أهلِ الحَقِّ على أنَّ الزَّانيَ والسَّارِقَ والقاتِلَ وغَيرَهم مِن أصحابِ الكَبائِرِ غَيرِ الشِّركِ، لا يُكَفَّرونَ بذلك). ((شرح النووي على مسلم)) (2/ 41).  ، وابنُ حَجَرٍ الهَيتميُّ [1197] قال ابنُ حَجَرٍ الهَيتَميُّ: (تَنبيهٌ: عَدُّ السَّرِقةِ -يَعني مِنَ الكَبائِرِ- هو ما اتَّفقوا عليه، وهو صَريحُ هذه الأحاديثِ، والظَّاهِرُ أنَّه لا فرقَ في كَونِها كَبيرةً بَينَ الموجِبةِ للقَطعِ وعَدَمِ الموجِبةِ له لشُبهةٍ). ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (2/237). .
رابِعًا: لأنَّ كُلَّ مَعصيةٍ أوجَبَ الشَّارِعُ فيها حَدًّا فهيَ كَبيرةٌ مِن كَبائِرِ الذُّنوبِ [1198] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عيثمين (14/ 323). ((الكبائر)) للذهبي (ص: 8).  ، وقد أجمَعَ العُلَماءُ على وُجوبِ الحَدِّ على السَّارِقِ، كما سيَأتي في المَسألةِ التَّاليةِ.

انظر أيضا: