المَبحَثُ السَّادِسُ: مِقدارُ حَدِّ شُربِ الخَمرِ
اختَلَف الفُقَهاءُ في مِقدارِ حَدِّ شُربِ الخَمرِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: مِقدارُ حَدِّ شُربِ الخَمرِ ثَمانونَ جَلدةً، لا يُتَجاوزُ ولا يُنقَصُ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ
[1145] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (فالجُمهورُ مِن عُلَماءِ السَّلَفِ والخَلَفِ على أنَّ الحَدَّ في ذلك ثَمانونَ جَلدةً، فهذا قَولُ مالِكٍ وأصحابِه، وأبي حَنيفةَ وأصحابِه، وهو أحَدُ قَولَيِ الشَّافِعيِّ). ((الاستذكار)) (24/ 267). : الحَنَفيَّةِ
[1146] ((المبسوط)) للسرخسي (24/27)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/30). ، والمالِكيَّةِ
[1147] ((التاج والإكليل)) للمواق (8/ 433)، ((منح الجليل)) لعليش (9/ 351). ، والحَنابِلةِ
[1148] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/100)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/229-230)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/362). ، وهو قَولُ بَعضِ السَّلَفِ
[1149] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (...وقَولُ سُفيانَ الثَّوريِّ، والأوزاعيِّ، وعُبَيدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ، والحَسَنِ بنِ حَيٍّ، وأحمدَ، وإسحاقَ). (الاستذكار)) (8/9). ، وحُكيَ إجماعُ الصَّحابةِ على ذلك
[1150] قال ابنُ بَطَّالٍ: (فثَبَتَ بهذا كُلِّه أنَّ التَّوقيفَ في حَدِّ الخَمرِ على ثَمانينَ إنَّما كان في زَمَنِ عُمَرَ، وانعِقاد إجماعِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم على ذلك). ((شرح صحيح البخاري)) (8/ 396). وقال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (انعَقدَ إجماعُ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم في زَمَنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه على الثَّمانينَ في حَدِّ الخَمرِ، ولا مُخالِفَ لَهم مِنهم، وعلى ذلك جَماعةُ التَّابِعينَ، وجُمهورُ فُقَهاءِ المُسلِمينَ، والخِلافُ في ذلك كالشُّذوذِ المَحجوجِ بالجُمهورِ). ((الاستذكار)) (8/ 12). وقال الباجيُّ: (وقَعَ الاجتِهادُ في ذلك في زَمَنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، ولم يوجَدْ عِندَ أحَدٍ مِنهم نَصٌّ على تَحديد... ثُمَّ أجمَعوا واتَّفَقوا أنَّ الحَدَّ ثَمانونَ، وحُكِمَ بذلك على مَلَأٍ مِنهم، ولم يُعلَمْ لأحَدٍ فيه مُخالَفةٌ؛ فثَبَتَ أنَّه إجماعٌ). ((المنتقى شرح الموطأ)) (3/ 144). وقال الكاسانيُّ: (حَدُّ شُربِ الخَمرِ وحَدُّ السُّكرِ مُقدَّرٌ بثَمانينَ جَلدةً في الأحرارِ؛ لإجماعِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم). ((بدائع الصنائع)) (5/ 113). وقال ابنُ قُدامةَ: (في قَدرِ الحَدِّ، وفيه رِوايَتانِ، إحداهما: أنَّه ثَمانونَ، وبِهذا قال مالِكٌ، والثَّوريُّ، وأبو حَنيفةَ، ومَن تَبِعَهم؛ لإجماعِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم). ((المغني)) (9/ 161). وقال الزَّيلَعيُّ: (حَدُّ السُّكرِ والخَمرِ ولَو شَرِبَ قَطرةً: ثَمانونَ سَوطًا... وعليه إجماعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم). ((تبيين الحقائق)) (3/ 198). وقال البُهوتيُّ: (وإذا شَرِبَه -أي المُسكِرَ-... فعليه الحَدُّ... ثَمانونَ جَلدةً؛ لإجماعِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم). ((كشاف القناع)) (6/ 117). .
الدَّليلُ مِنَ الأثَرِ:عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُتيَ برَجُلٍ قد شَرِبَ الخَمرَ، فجَلَدَه بجَريدَتَينِ نَحوَ أربَعينَ، قال: وفعَلَه أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فلَمَّا كان عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه استَشارَ النَّاسَ، فقال عَبدُ الرَّحمَنِ رَضِيَ اللهُ عنه: أخَفَّ الحُدودِ ثَمانينَ، فأمَر به عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه )) [1151] أخرجه البخاري (6776)، ومسلم (1706) واللَّفظُ له. .
القَولُ الثَّاني: مِقدارُ حَدِّ شُربِ الخَمرِ أربَعونَ جَلدةً، وهو مِن بابِ التَّعزيرِ، ويَجوزُ للإمامِ أن يَجلِدَه ثَمانينَ إذا رَأى مَصلَحةً، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ
[1152] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 303)، ((روضة الطالبين)) للنووي (10/172)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/172). ، ورِوايةٌ للحَنابِلةِ
[1153] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/100)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/229-230). ، وقَولُ الظَّاهريَّةِ
[1154] قال ابنُ حَزمٍ: (فمَن تعَلَّق بزيادةِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه ومَن زادَها مَعَه على وَجهِ التَّعزيرِ، وجَعَلَ ذلك حَدًّا واجِبًا مُفتَرَضًا، فيَلزَمُه أن يُحرِقَ بَيتَ بائِعِ الخَمرِ، ويَجعَلَ ذلك حَدًّا مُفتَرَضًا؛ لأنَّ عُمَرَ فَعَله، وأن يَنفيَ شارِبَ الخَمرِ أيضًا ويَجعَلَه حَدًّا واجِبًا؛ لأنَّ عُمَرَ فعَلَه، فإن قال: قد قال عُمَرُ: لا أُغَرِّبَ بَعدَه أحَدًا، قيلَ: وقد جَلَدَ عُمَرُ أربَعينَ وسِتِّينَ في الخَمرِ بَعدَ أن جَلَدَ الثَّمانينَ، بأصَحِّ إسنادٍ يُمكِنُ وُجودُه... فظَهَرَ فسادُ قَولِهم. قال أبو مُحَمَّدٍ -رَحِمَه اللهُ-: وصَحَّ بما ذَكَرنا أنَّ القَولَ بجَلدِ أربَعينَ في الخَمرِ هو قَولُ أبي بَكرٍ، وعُمَرَ، وعُثمانَ، وعليٍّ، والحَسَنِ بنِ عَليٍّ، وعَبدِ اللَّهِ بنِ جَعفَرٍ، بحَضرةِ جَميعِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وبِه يَقولُ الشَّافِعيُّ وأبو سُلَيمانَ وأصحابُهما، وبِه نَأخُذُ). ((المحلى)) (12/366- 367). ، ورَجَّحَه ابنُ تَيميَّةَ
[1155] قال ابنُ تَيميَّةَ: (...الأمرُ بقَتلِ الشَّارِبِ في الثَّالِثةِ والرَّابِعةِ مَنسوخٌ؛ لأنَّ هذا أتى به ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وقد أعيا الأئِمَّةَ الكِبارَ جَوابُ هذا الحَديثِ، ولَكِنَّ نَسخَ الوُجوبِ لا يَمنَعُ الجَوازَ، فيَجوزُ أن يُقالَ: يَجوزُ قَتلُه إذا رَأى الإمامُ المَصلَحةَ في ذلك، فإنَّ ما بَينَ الأربَعينَ إلى الثَّمانينَ ليس حَدًّا مُقدَّرًا في أصَحِّ قَولَيِ العُلَماءِ، كَما هو مَذهَبُ الشَّافِعيِّ، وأحمَدَ في إحدى الرِّوايَتَينِ، بَلِ الزِّيادةُ على الأربَعينَ إلى الثَّمانينَ تَرجِعُ إلى اجتِهادِ الإمامِ، فيَفعَلُها عِندَ المَصلَحةِ، كَغَيرِها مِن أنواعِ التَّعزيرِ...). ((مجموع الفتاوى)) (7/ 483). ، وابنُ القَيِّمِ
[1156] قال ابنُ القَيِّمِ: (وهذا كُلُّه مِن فِقهِ السُّنَّةِ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ بقَتلِ الشَّارِبِ في المَرَّةِ الرَّابِعةِ، ولم يَنسَخْ ذلك، ولم يَجعَلْه حَدًّا لا بُدَّ مِنه؛ فهو عُقوبةٌ تَرجِعُ إلى اجتِهادِ الإمامِ في المَصلَحةِ، فزيادةُ أربَعينَ والنَّفيُ والحَلقُ أسهَلُ مِنَ القَتلِ). ((إعلام الموقعين)) (2/ 75). ، وابنُ عُثَيمين
[1157] قال ابنُ عُثَيمين: (والقَولُ الثَّاني: أنَّ عُقوبةَ شارِبِ المُسكِرِ مِن بابِ التَّعزيرِ، الذي لا يُنقَصُ عن أربَعينَ جَلدةً؛ لأنَّ هذا أقَلُّ ما رُويَ فيه، ولَكِن للحاكِمِ أن يَزيدَ عليه إذا رَأى المَصلَحةَ في ذلك... وهذا هو الرَّاجِحُ عِندي، وهو ظاهرُ كَلامِ ابنِ القَيِّمِ في إعلامِ الموقِّعينَ، وهو أنَّه تَعزيرٌ، لَكِن لا يُنقَصُ عن أقَلِّ تَقديرٍ ورَدَت به السُّنَّةُ، وأمَّا الزِّيادةُ فلا حَرَجَ في الزِّيادةِ إذا رَأى الحاكِمُ المَصلَحةَ في ذلك). ((الشرح الممتع)) (14/295). ، وهو قَولُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ
[1158] قال ابنُ حَزمٍ: (وصَحَّ بما ذَكَرنا أنَّ القَولَ بجَلدِ أربَعينَ في الخَمرِ هو قَولُ أبي بَكرٍ، وعُمَرَ، وعُثمانَ، وعليٍّ، والحَسَنِ بنِ عَليٍّ، وعَبدِ اللَّهِ بنِ جَعفَرٍ، بحَضرةِ جَميعِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وبِه يَقولُ الشَّافِعيُّ وأبو سُلَيمانَ وأصحابُهما، وبِه نَأخُذُ). ((المحلى)) (12/367). .
الأدِلَّة:ِأوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُتيَ برَجُلٍ قد شَرِبَ الخَمرَ، فجَلَدَه بجَريدَتَينِ نَحوَ أربَعينَ، قال: وفعَلَه أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فلَمَّا كان عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه استَشارَ النَّاسَ، فقال عَبدُ الرَّحمَنِ رَضِيَ اللهُ عنه: أخَفَّ الحُدودِ ثَمانينَ، فأمَر به عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه )) [1159] أخرجه البخاري (6776)، ومسلم (1706) واللَّفظُ له. .
أوجُهُ الدَّلالةِ:1- أنَّ أبا بَكرٍ لم يَجلِدِ السَّكرانَ ثَمانينَ، وإنَّما فَعَل مِثلَ ما فعَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يُنكِرْ عليه أحَدٌ مِنَ الصَّحابةِ، وكذلك عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ بَعدَه حتَّى شاورَ حينَ كَثُرَ الشُّربُ، وفي مُشاورَتِه في ذلك دَليلٌ على أنْ لا حُكمَ عِندَه في ذلك، ولا عِندَ مَن حَضَرَه مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فالذي يَجِبُ أن يُفعَلَ بالسَّكرانِ ما فعَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُضرَبُ أقَلَّ ما قيلَ إنَّه ضُرِبَ بحَضرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[1160] يُنظر: ((الأوسط)) لابن المنذر (13/23-24). .
2- في قَولِه:
((نَحوَ أربَعينَ)) فيه دَلالةٌ على أنَّها ليست حدًّا مُؤَكَّدًا؛ إذ لَو كانت حدًّا مُؤَكَّدًا لقال: جَلَدَه أربَعينَ. ولأنَّ عُمَرَ زادَها، ولو كانتِ العُقوبة حدًّا لَما زادَ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه على الأربَعينَ
[1161] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (5/ 411،410). .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ1- عن حُضَينِ بنِ المُنذِرِ، أبو ساسانَ، قال: (شَهِدتُ عُثمانَ بنَ عَفَّانَ وأُتِيَ بالوليدِ قد صلَّى الصُّبحَ ركعتينِ، ثُمَّ قال: أزيدُكم؟! فشَهِد عليه رجُلانِ أحَدُهما حُمرانُ أنَّه شَرِب الخَمرَ، وشَهِدَ آخرُ أنَّه رآه يتقيَّأُ، فقال عُثمانُ: إنَّه لم يتقيَّأْ حتَّى شَرِبَها، فقال: يا عَلِيُّ، قُمْ فاجْلِدْه، فقال عليٌّ: قُمْ يا حَسَنُ فاجلِدْه، فقال الحَسَنُ: وَلِّ حارَّها مَن توَلَّى قارَّها، فكأنَّه وَجَد عليه! فقال: يا عبدَ اللَّهِ بنَ جَعفَرٍ قُمْ فاجلِدْه، فجَلَده وعليٌّ يَعُدُّ حتَّى بَلَغ أربعينَ، فقال: أمسِكْ. ثُمَّ قال: جَلَدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أربَعينَ، وجَلَدَ أبو بَكرٍ أربَعينَ، وعُمَرُ ثَمانينَ، وكُلٌّ سُنَّةٌ. وهذا أحَبُّ إلَيَّ)
[1162] أخرجه مسلم (1707). .
مَطلَبٌ: هَل يُقتَلُ شارِبُ الخَمرِ في الرَّابِعةِ؟اختَلَف الفُقَهاءُ في قَتلِ شارِبِ الخَمرِ إذا شَرِبَها في الرَّابِعةِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يُقتَلُ شارِبُ الخَمرِ إذا شَرِبَها في الرَّابِعةِ، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ
[1163] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 196)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/ 27). ، والمالِكيَّةِ
[1164] ((البيان والتحصيل)) لابن رشد (16/291). ، والشَّافِعيَّةِ
[1165] ((مغني المحتاج)) للشربيني (5/519)، ((حاشية الشرواني على تحفة المحتاج)) (9/ 171). ، والحَنابِلةِ
[1166] ((مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويهـ)) للكوسج (7/3569)، ((المبدع في شرح المقنع)) لابن مفلح (7/ 454). ، وحُكيَ فيه الإجماعُ
[1167] قال الشَّافِعيُّ في حَدِّ الخَمرِ: (والقَتلُ مَنسوخٌ... وهذا مِمَّا لا اختِلافَ فيه بَينَ أحَدٍ مِن أهلِ العِلمِ عَلِمتُهـ). ((الأم)) (6/ 155-156). وقال التِّرمِذيُّ: (لا نَعلَمُ بَينَهمُ اختِلافًا في ذلك في القديمِ والحَديثِ). ((سنن الترمذي)) (4/ 48). وقال الخَطَّابيُّ: (يُحتَمَلُ أن يَكونَ القَتلُ في الخامِسةِ واجِبًا، ثُمَّ نُسِخَ؛ لحُصولِ الإجماعِ مِنَ الأُمَّةِ على أنَّه لا يُقتَلُ). ((معالم السنن)) (3/ 339). وقال ابنُ المُنذِرِ: (وأجمَعوا على أنَّ السَّكرانَ في المَرَّةِ الرَّابِعةِ لا يَجِبُ عليه القَتلُ، إلَّا شاذًّا مِنَ النَّاسِ لا يُعَدُّ خِلافًا). ((الإجماع)) (ص: 121). وقال القاضي عِياضٌ: (أجمَعوا أنَّه لا يُقتَلُ إذا تَكَرَّرَ مِنه ذلك، إلَّا طائِفةً شاذَّةً قالوا: يُقتَلُ بَعدَ حَدِّه أربَعَ مَرَّاتٍ). ((إكمال المعلم)) (5/ 540). وقال النَّوويُّ: (أجمَعوا على أنَّه لا يُقتَلُ بشُربِها، وإن تَكَرَّر ذلك مِنهـ). ((شرح النووي على مسلم)) (11/ 217). وقال ابنُ حَجَرٍ: (استَقَرَّ الإجماعُ على ثُبوتِ حَدِّ الخَمرِ وأنْ لا قَتلَ فيهـ). ((فتح الباري)) (12/ 75). وقال الشِّربينيُّ: (وحَديثُ الأمرِ بقَتلِ الشَّارِبِ في الرَّابِعةِ مَنسوخٌ بالإجماعِ). ((مغني المحتاج)) (5/ 519). .
الأدِلَّة:ِأوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَجُلًا على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان اسمُه عَبدَ اللَّهِ، وكان يُلَقَّبُ حِمارًا، وكان يُضحِكُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد جَلَدَه في الشَّرابِ، فأُتِيَ به يَومًا، فأمَرَ به فجُلِدَ، فقال رَجُلٌ مِنَ القَومِ: اللهُمَّ العَنْه، ما أكثَرَ ما يُؤتى به! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَلعَنوه؛ فواللَّهِ -ما عَلِمتُ- إنَّه يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه )) [1168] أخرجه البخاري (6780). .
وَجهُ الدَّلالةِ:الحَديثُ صَريحٌ في أنَّه لم يَقتُلْه، وكان يُؤتى به كَثيرًا
[1169] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 483). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ يَشهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنِّي رَسولُ اللهِ، إلَّا بإحدى ثَلاثٍ: النَّفسُ بالنَّفسِ، والثَّيِّبُ الزَّاني، والمارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ للجَماعةِ )) [1170] أخرجه البخاري (6878) واللفظ له، ومسلم (1676). .
وَجهُ الدَّلالةِ:جاءَ هذا الحَديثُ ناسِخًا لأحاديثِ قَتلِ شارِبِ الخَمرِ
[1171] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (11/217). ، ومِنَ المُحالِ أن يَقولَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ إلَّا بإحدى ثَلاثٍ)) ويُحِلُّه بخَصلةٍ رابِعةٍ، ومُحالٌ أن يَكونَ قَولُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنتَقضًا
[1172] يُنظر: ((الأوسط)) لابن المنذر (13/17). .
ثانيًا: أنَّ كُلَّ مَعصيةٍ لا توجِبُ القَتلَ في الابتِداءِ فإنَّه لا يوجِبُ تَكرارُها القَتلَ حَدًّا، كالزِّنا والقَذفِ
[1173] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/ 325)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 454). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ القَتلَ في شُربِ الخَمرِ عُقوبةٌ تعزيريَّةٌ يَجوزُ للإمامِ الأخذُ بها بحَسَبِ المَصلَحةِ، وهو قَولُ ابنِ تَيميَّةَ
[1174] قال ابنُ تَيميَّةَ: (...فنَهى عن لَعنِه بعَينِه وشَهدَ له بحُبِّ اللهِ ورَسولِه مَعَ أنَّه قد لَعَنَ شارِبَ الخَمرِ عُمومًا. وهذا مِن أجوَدِ ما يُحتَجُّ به على أنَّ الأمرَ بقَتلِ الشَّارِبِ في الثَّالِثةِ والرَّابِعةِ مَنسوخٌ؛ لأنَّ هذا أتى به ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وقد أعيا الأئِمَّةَ الكِبارَ جَوابُ هذا الحَديثِ، ولَكِنَّ نَسخَ الوُجوبِ لا يَمنَعُ الجَوازَ، فيَجوزُ أن يُقالَ: يَجوزُ قَتلُه إذا رَأى الإمامُ المَصلَحةَ في ذلك، فإنَّ ما بَينَ الأربَعينَ إلى الثَّمانينَ ليس حَدًّا مُقدَّرًا في أصَحِّ قَولَيِ العُلَماءِ، كَما هو مَذهَبُ الشَّافِعيِّ، وأحمَدَ في إحدى الرِّوايَتَينِ، بَلِ الزِّيادةُ على الأربَعينَ إلى الثَّمانينَ تَرجِعُ إلى اجتِهادِ الإمامِ، فيَفعَلُها عِندَ المَصلَحةِ، كَغَيرِها مِن أنواعِ التَّعزيرِ، وكذلك صِفةُ الضَّربِ؛ فإنَّه يَجوزُ جَلدُ الشَّارِبِ بالجَريدِ والنِّعالِ وأطرافِ الثِّيابِ، بخِلافِ الزَّاني والقاذِفِ، فيَجوزُ أن يُقالَ: قَتلُه في الرَّابِعةِ مِن هذا البابِ). ((مجموع الفتاوى)) (7/ 483). ، وابنِ القَيِّمِ
[1175] قال ابنُ القَيِّمِ: (قَتلُ شارِبِ الخَمرِ في الثَّالِثةِ أوِ الرَّابِعةِ فليس بحَدٍّ ولا مَنسوخٍ، وإنَّما هو تَعزيرٌ يَتَعَلَّقُ باجتِهادِ الإمامِ). ((زاد المعاد)) (3/99). وقال: (وأمَرَ بقَتلِ شارِبِ الخَمرِ بَعدَ الثَّالِثةِ والرَّابِعةِ، ولم يَنسَخْ ذلك ولم يَجعَلْه حَدًّا لا بُدَّ مِنه، بَل هو بحَسَبِ المَصلَحةِ إلى رَأيِ الإمامِ). ((الطرق الحكمية)) (ص: 15). ، والشِّنقيطيِّ
[1176] قال الشِّنقيطيُّ: (الذي يَظهَرُ لي رُجحانُه في هذه المَسألةِ: هو ما اختارَه ابنُ القَيِّمِ، قال في «زاد المَعاد» بَعدَ أن ذَكَرَ الخِلافَ المَذكورَ في المَسألةِ: والصَّوابُ أنَّ هذا مِن بابِ التَّعزيرِ والعُقوباتِ الماليَّةِ الرَّاجِعةِ إلى اجتِهادِ الأئِمَّةِ؛ فإنَّه حَرَقَ وتَرَكَ، وكذلك خُلَفاؤُه مِن بَعدِه، ونَظيرُ هذا قَتلُ شارِبِ الخَمرِ في الثَّالِثةِ أوِ الرَّابِعةِ، فليس بحَدٍّ، ولا مَنسوخٍ، وإنَّما هو تَعزيرٌ يَتَعَلَّقُ باجتِهادِ الإمامِ). ((أضواء البيان)) (2/97). ، وابنِ عُثَيمين
[1177] قال ابنُ عُثَيمين: (وهذا الذي ذَكَرَه شَيخُ الإسلامِ هو الصَّحيحُ... وعلى هذا فالقَولُ الرَّاجِحُ أنَّ النَّاسَ إذا لم يَنتَهوا بدونِ القَتلِ فإنَّه يُقتَلُ مَن شَرِب في الرَّابِعةِ وهو يُعاقَبُ في كُلِّ مَرَّةٍ). ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (5/ 415). ، والألبانيِّ
[1178] قال الألبانيُّ: (وقد قيلَ: إنَّه حَديثٌ مَنسوخٌ، ولا دَليلَ على ذلك، بَل هو مُحكَمٌ غَيرُ مَنسوخٍ كَما حَقَّقَه العَلَّامةُ أحمد شاكِر في تَعليقِه على "المُسنَدِ" (9 / 49 - 92)، واستَقصى هناكَ الكَلامَ على طُرُقِه بما لا مَزيدَ عليه، ولَكِنَّا نَرى أنَّه مِن بابِ التَّعزيزِ، إذا رَأى الإمامُ قَتَل، وإن لم يَرَه لم يَقتُلْ، بخِلافِ الجَلدِ؛ فإنَّه لا بُدَّ مِنه في كُلِّ مَرَّةٍ، وهو الذي اختارَه الإمامُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تعالى). ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3/ 348). .
الأدِلَّة:ِ أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عن مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إذا شَرِبوا الخَمرَ فاجلِدوهم، ثُمَّ إذا شَرِبوا فاجلِدوهم، ثُمَّ إذا شَرِبوا فاجلِدوهم، ثُمَّ إذا شَرِبوا فاقتُلوهم )) [1179] أخرجه أبو داود (4482)، والترمذي (1444)، وابن ماجه (2573) واللَّفظُ له. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (4446)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2573)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4482). .
2- عن أبى هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن شَرِبَ الخَمرَ فاجلِدوه، ثُمَّ إذا شَرِبَ فاجلِدوه، ثُمَّ إذا شَرِبَ فاجلِدوه، ثُمَّ إذا شَرِبَ في الرَّابِعةِ -ذَكَرَ كَلِمةً مَعناها- فاقتُلوهـ)) [1180] أخرجه أحمد (7762)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5277) واللفظ له، والحاكم (8116). قال ابنُ حَزمٍ في ((المحلى)) (11/366): في نِهايةِ الصِّحَّةِ، وحَسَّنه الوادِعيُّ على شَرط مُسلِم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (2/305)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (14/184)، وشُعَيب الأرناؤوط على شَرط مُسلِم في تَخريج ((مسند أحمد)) (7762). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه يُمكِنُ حَملُ أحاديثِ القَتلِ في المَرَّةِ الرَّابِعةِ على هذا القَولِ، وتَقييدُها بما إذا أُيِسَ مِن صَلاحِه ولَم يَندَفِعْ إلَّا بالقَتلِ
[1181] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (5/ 415). .
ثانيًا: أنَّه إذا استَمَرَّ على شُربِ الخَمرِ مَعَ كَونِه يُعاقَبُ ويُجلَدُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، صارَ مِنَ المُفسِدينَ في الأرضِ الذينَ يُحارِبونَ اللَّهَ ورَسولَه، وهؤلاء يُقتلونَ أو يُصَلَّبونَ أو تُقَطَّعُ أيديهم وأرجُلُهم مِن خِلافٍ أو يُنفَوا مِنَ الأرضِ، إمَّا على حَسَبِ نَظَرِ الإمامِ، وإمَّا على حَسَبِ الجَريمةِ
[1182] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (5/ 415). .