كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَحيمًا رَقيقًا، وكان يُحِبُّ أصحابَه مَهما حَصَلَ مِنهم مَن تَقصيرٍ أو خَطَأٍ ويُكرِمُهم، ويُثني عليهم، ويَنهى عن سَبِّهم لِما عِندَهم مِنَ الإيمانِ ومَحَبَّةِ اللهِ ورَسولِه، وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَجُلًا، أي: مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كان يُلَقَّبُ حِمارًا، أي: يُلَقِّبونَه باسمِ الحِمارِ -الحَيَوانِ المَعروفِ-، وفي رِوايةٍ: أنَّ اسمَه عَبدُ اللَّهِ، وكان هذا الرَّجُلُ يُهدي لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العُكَّةَ مِنَ السَّمنِ والعُكَّةَ مِنَ العَسَلِ. والعُكَّةُ: هيَ وِعاءٌ مِن جُلودٍ مُستَديرٌ، يَختَصُّ بالسَّمنِ والعَسَلِ، فإذا جاءَ صاحِبُه يَتَقاضاه، أي: إذا جاءَ صاحِبُ السَّمنِ والعَسَلِ يُريدُ ثَمَنَ السَّمنِ والعَسَلِ مِنَ الرَّجُلِ، جاءَ به إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: أتى الرَّجُلُ -المُلَقَّبُ بحِمارٍ- بصاحِبِ السَّمنِ والعَسَلِ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أعطِ هذا ثَمَنَ مَتاعِه! أي: ناوِلْه قيمةَ عُكَّةِ السَّمنِ والعَسَلِ، والمَعنى: أنَّ هذا الرَّجُلَ كان يَشتَري مِن غَيرِه السَّمنَ والعَسَلَ ولا يُعطيه الثَّمَنَ، ثُمَّ يُهدي هذه العُكَّةَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعِندَما يَحينُ وقتُ سَدادِ الثَّمَنِ يَذهَبُ الرَّجُلُ بصاحِبِ العُكَّةِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى يَقضيَه! فما يَزيدُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَبتَسِمَ! أي: مِن فِعلِ هذا الرَّجُلِ كَيف أنَّه يُهدي له شَيئًا ثُمَّ يَأتي يُطالِبُ بثَمَنِه؟! ويَأمُرَ به فيُعطى، أي: يَأمُرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لصاحِبِ العُكَّةِ أن يُعطى ثَمَنَ عُكَّتِه، ثُمَّ إنَّه جيءَ به، أي: بالرَّجُلِ -المُلَقَّبِ بحِمارٍ- إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد شَرِبَ الخَمرَ، أي: أحضَروه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى يُقيمَ عليه حَدَّ شُربِ الخَمرِ، فقال رَجُلٌ أي: مِنَ الصَّحابةِ الحاضِرينَ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي رِوايةٍ أُخرى أنَّه عُمَرُ: اللهُمَّ العَنْه! واللَّعنُ: الدُّعاءُ بالطَّردِ والإبعادِ مِن رَحمةِ اللهِ. ما أكثَرَ ما يُؤتى به إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! والمَعنى: أنَّه كَثيرُ الشُّربِ للخَمرِ؛ فلِذلك دائِمًا يُؤتى به للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَجلِدُه، وفي رِوايةٍ أُخرى بَيانُ أنَّ اللَّعنَ وقَعَ بَعدَ جَلدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَه. فلَمَّا سَمِعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك قال: دَعوه، أي: لا تَلعَنوه؛ فإنَّه يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه، أي: مِمَّن يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه، وإن وَقَع في المَعصيةِ.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ تَعريفِ الشَّخصِ باللَّقَبِ ولَو كان قَبيحًا.
وفيه قَبولُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للهَديَّةِ.
وفيه حُسنُ خُلُقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَ أصحابِه.
وفيه بَيانُ اجتِماعِ الإيمانِ مَعَ المَعصيةِ في الشَّخصِ الواحِدِ.
وفيه أنَّه لا تَنافيَ بَينَ ارتِكابِ النَّهيِ وثُبوتِ محَبَّةِ اللَّهِ ورَسولِه في قَلبِ المُرتَكِبِ.
وفيه أنَّ مَن تَكَرَّرَت مِنه المَعصيةُ لا تُنزَعُ مِنه مَحَبَّةُ اللهِ ورَسولِه.
وفيه عَدَمُ زَوالِ الإيمانِ عن شارِبِ الخَمرِ بالكُلِّيَّةِ.
وفيه عَدَمُ لَعنِ شارِبِ الخَمرِ.
وفيه مَنقَبةٌ لهذا الصَّحابيِّ رَضِيَ اللهُ عنه.
وفيه إنكارُ المُنكَرِ بالقَولِ.
وفيه ثَناءُ الإمامِ أوِ العالِمِ على مَن يَعرِفُ مِن أصحابِه إذا حَصَلَ مِنهم تَقصيرٌ أو خَطَأٌ .