خَلقَ اللهُ تعالى النَّاسَ وجَعَلَهم سَواسيةً، ولَم يَجعَلْ لأحَدِهم فضلًا على أحَدٍ بشَيءٍ، سَواءٌ بالمالِ أوِ المَنصِبِ أوِ الحَسَبِ والنَّسَبِ، وإنَّما جَعَلَ سُبحانَه مِعيارَ التَّفاضُلِ عِندَه هو الإيمانَ والتَّقوى والعَمَلَ الصَّالحَ؛ ولهذا جاءَتِ النُّصوصُ بالتَّحذيرِ مِنَ التَّفاخُرِ على النَّاسِ والتَّعالي عليهم، فكُلُّ النَّاسِ أولادُ آدَمَ وحَوَّاءَ عليهما السَّلامُ، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
[الحجرات: 13] . وقد بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ حَقيقةَ التَّفاضُلِ هو بالتَّقوى؛ يَقولُ أبو نَضرةَ، وهو أحَدُ التَّابِعينَ: حَدَّثَني مَن سَمِعَ، أي: مِنَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم، خُطبةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في وسَطِ أيَّامِ التَّشريقِ، أي: في اليَومِ الثَّاني عَشَرَ مِن ذي الحِجَّةِ؛ فأيَّامُ التَّشريقِ اليَومُ الحادي عَشَرَ، والثَّاني عَشَرَ، والثَّالِثَ عَشَرَ مِن ذي الحِجَّةِ، وسُمِّيَت بأيَّامِ التَّشريقِ؛ لأنَّ لُحومَ الأضاحيِّ تُشرَّقُ فيها، أي: تُنشَرُ في الشَّمسِ. فقال: يا أيُّها النَّاسُ، ألا إنَّ رَبَّكُم واحِدٌ، أي: اعلَموا أنَّ رَبَّكُم وخالِقَكُم إلَهٌ واحِدٌ لا شَريكَ له، وإنَّ أباكُم واحِدٌ، أي: أصلُكُم تَرجِعونَ إلى أبٍ واحِدٍ وهو آدَم عليه السَّلامُ. وهذه مُقدِّمةٌ لنَفيِ فَضلِ البَعضِ على البَعضِ بالحَسَبِ والنَّسَبِ، كما كان في زَمَنِ الجاهليَّةِ؛ لأنَّه إذا كان الرَّبُّ واحِدًا، وأبو الكُلِّ واحِدًا، لَم يَبقَ لدَعوى الفَضلِ بغَيرِ التَّقوى موجِبٌ. ألَا، أي: اعلَموا وانتَبِهوا، لا فضلَ، أي: لا ميزةَ ولا شَرَفَ، لعَرَبيٍّ -وهو مَن يَتَكَلَّمُ العَرَبيَّةَ- على عَجَميٍّ. وهو مِنَ العَجَمِ الذي لا يَتَكَلَّمونَ العَرَبيَّةَ، ولا لعَجَميِّ على عَرَبيٍّ. ولا أحمَرَ، أي: مَن لَونُ بَشَرَتِه فيها حُمرةٌ، على أُسودَ، وهو مَن لَونُ بَشَرَتِه أسوَدُ، ولا أسودَ على أحمَرَ. وقيلَ: أرادَ بالأحمَرِ الأبيَضَ مُطلَقًا؛ فإنَّ العَرَبَ تَقولُ: امرَأةٌ حَمراءُ، أي: بَيضاءُ. إلَّا بالتَّقوى، أي: أنَّ حَقيقةَ المُفاضَلةِ هيَ بالتَّقوى، وذلك بأن يَجعَلَ المَرءُ بَينَه وبَينَ المَعاصي حاجِزًا يَقيه الوُقوعَ فيها. أبلَّغتُ؟ أي: هَل بَلَّغتُكُم ذلك وعَرَفتُموه؟ فقال الحاضِرونَ: بَلَّغَ رَسولُ اللهِ، أي: إنَّك قد بَلَّغتَنا بذلك. ثُمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ يَومٍ هذا؟ أي: هَل تَعلَمونَ اسمَ هذا اليَومِ؟ فقالوا: يَومٌ حَرامٌ. وهو يَومُ النَّحرِ، وإنَّما سَألَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ اليَومِ، وهو عالمٌ به؛ لتكونَ الخُطبةُ أوقَعَ في قُلوبِهم وأثبَتَ، ثُمَّ قال: أيُّ شَهرٍ هذا؟ أي: هَل تَعلَمونَ اسمَ هذا الشَّهرِ الذي نَحنُ فيه؟ فقالوا: شَهرٌ حَرامٌ، أي: هو مِنَ الأشهُرِ الحُرُمِ، وهو ذو الحِجَّةِ. ثُمَّ قال رَسولُ اللهِ: أيُّ بَلَدٍ هذا؟ أي: هَل تَعلَمونَ اسمَ هذا البَلَدِ الذي أنتُم فيه؟ فقالوا: بَلَدٌ حَرامٌ، أي: الذي حَرَّمَ اللهُ فيه القِتالَ. ثُمَّ بَعدَ أن قَرَّرَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَظَمةِ هذه الأُمورِ الثَّلاثةِ يَومُ النَّحرِ، وذو الحِجَّةِ الشَّهرُ الحَرامُ، والبَلَدُ الحَرامُ، أخبَرَهم بأنَّ هناكَ ما هو أعظَمُ حُرمةً مِنها، فقال: فإنَّ اللَّهَ قد حَرَّمَ بَينَكُم دِماءَكُم، أي: سَفْكَ دِمائِكُم. وأموالَكُم، أي: أخْذَها والاعتِداءَ عليها. ثُمَّ شَكَّ الرَّاوي: هَل قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أو أعراضَكُم، أم لا؟ وقد جاءَ في رِواياتٍ أُخرى بَيانُ ذِكرِ هذه الثَّلاثِ: الدِّماءِ والأموالِ والأعراضِ. فهيَ مُحَرَّمةٌ بَينَكُم مُتَأكِّدةُ التَّحريمِ شَديدَتُه كحُرمةِ يَومِكُم هذا، أي: يَومِ النَّحرِ، في شَهرِكُم هذا، أي: ذي الحِجَّةِ. في بَلَدِكُم هذا، أي: مَكَّةَ. أبلَّغتُ؟ أي: هَل بَلَّغتُكُم ذلك وعَرَفتُموه؟ فقال الحاضِرونَ: بَلَّغَ رَسولُ اللهِ، أي: إنَّك قد بَلَّغتَنا بذلك. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ليُبلِّغِ الشَّاهِدُ الغائِبَ، أي: إذَن فليُخبِرْ مَن شَهدَ وسَمِعَ هذه الخُطبةَ مَن غابَ عنها ولَم يَحضُرْها.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ خُطبةِ الإمامِ النَّاسَ في وسَطِ أيَّامِ التَّشريقِ.
وفيه أنَّ المِعيارَ الحَقيقيَّ لتَفاضُلِ النَّاسِ هو تَقوى اللهِ تعالى.
وفيه تَعظيمُ حُرمةِ دَمِ المُسلمِ ومالِه وعِرضِه.
وفيه مَشروعيَّةُ ضَربِ المَثَلِ وإلحاقِ النَّظيرِ بالنَّظيرِ؛ ليَكونَ أوضَحَ للسَّامِعِ.
وفيه مَشروعيَّةُ تَبليغِ العِلمِ لمَن لَم يَحضُرْ .