الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الثَّالِثُ: القَذفُ بلَفظِ التَّعريضِ


اختَلَف الفُقَهاءُ في إقامةِ حَدِّ القَذفِ إذا كان بلَفظِ التَّعريضِ [868] التَّعريضُ هو: لَفظٌ استُعمِلَ في مَعناه ليُلَوحَ بغَيرِه. كَأن يَقولَ شَخصٌ لآخَرَ: لَستُ زانيًا، ولا أُمِّي زانيةً. يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (8/ 312)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (2/ 348). ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: إذا كان القَذفُ بلَفظِ التَّعريضِ فلا يُحَدُّ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ [869] ((المبسوط)) للسرخسي (9/ 102)، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (3/ 199). ، والشَّافِعيَّةِ [870] ((روضة الطالبين)) للنووي (8/ 312)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/ 369). ، والحَنابِلةِ [871] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 411)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 217). ، والظَّاهِريَّةِ [872] قال ابنُ حَزمٍ: (لا حَدَّ في التَّعريضِ، يَقولُ سُفيانُ الثَّوريُّ، وابنُ شُبرُمةَ، والحَسَنُ بنُ حَيٍّ، وأبو حَنيفةَ، والشَّافِعيُّ، وأبو سُلَيمانَ، وأصحابُهم...: وصَحَّ أنْ لا حَدَّ في التَّعريضِ أصلًا). ((المحلى بالآثار)) (12/ 241). ، وقال به بَعضُ السَّلَفِ [873] قال ابنُ قُدامةَ: (وهو ظاهرُ كَلامِ الخِرَقيِّ، واختيارُ أبي بَكرٍ. وبه قال عَطاءٌ، وعَمرُو بنُ دينارٍ، وقتادةُ، والثَّوريُّ، والشَّافِعيُّ، وأبو ثَورٍ، وأصحابُ الرَّأيِ، وابنُ المُنذِرِ). ((المغني)) (9/ 89). ويُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 199). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
قَولُه تَعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة: 235] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الشَّارِعَ لم يَعتَبِرْ مِثلَ التَّعريضِ بالقَذفِ؛ حَيثُ حَرَّمَ صَريحَ خِطبةِ المُتَوفَّى عنها في العِدَّةِ، وأباحَ التَّعريضَ، فإذا ثَبَتَ في الشَّرعِ نَفيُ اتِّحادِ حُكمِهما في غَيرِ الحَدِّ، لم يَجُزْ أن يُعتَبَرَ مِثلُه على وجهٍ يُوجِبُ الحَدَّ المُحتاطَ في دَرئِه [874] يُنظر: ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (3/ 199). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي هرَيرةَ، قال: ((جاءَ رَجُلٌ مِن بَني فَزارةَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّ امرَأتي ولَدَت غُلامًا أسودَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَل لَكَ مِن إبِلٍ؟ قال: نَعَم، قال: فما ألوانُها؟ قال: حُمرٌ، قال: هَل فيها مِن أورَقَ؟ قال: إنَّ فيها لَوُرْقًا، قال: فأنَّى أتاها ذلك؟ قال: عَسى أن يَكونَ نَزَعَه عِرقٌ، قال: وهذا عَسى أن يَكونَ نَزَعَه عِرقٌ)) [875] أخرجه البخاري (5305)، ومسلم (1500) واللفظ له. . وفي رِواية: وهو حينَئِذٍ يُعَرِّضُ بأن يَنفيَه [876] أخرجها مسلم (1500). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُقِمِ الحَدَّ عليه، وقد عَرَّضَ بنَفيِ الولَدِ [877] يُنظر: ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (3/ 199).  .
ثالِثًا: لأنَّ كُلَّ كَلامٍ يَحتَمِلُ مَعنَيَينِ لم يَكُنْ قَذفًا، كقَولِه: يا فاسِقُ [878] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 89).  .
القَولُ الثَّاني: إذا كان القَذفُ بلَفظِ التَّعريضِ وظَهَرَت قَرينةٌ تَدُلُّ على إرادةِ القَذفِ فإنَّه يُحَدُّ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [879] ((التاج والإكليل)) للمواق (8/ 405)، ((منح الجليل)) لعليش (9/ 276). ، ورِوايةٌ للحَنابِلةِ [880] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 411)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 217). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
 1- عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه: (أنَّ رَجُلًا قال لرَجُلٍ: واللهِ ما أنا بزانٍ ولا ابنِ زانٍ، فرُفِعَ إلى عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه، فضَرَبَه الحَدَّ تامًّا) [881] أخرجه ابنُ أبي ذئب ((كما في مسند الفاروق)) (702)، والبيهقي في ((معرفة السنن والآثار)) (15154). صَحَّحه الألباني في ((الإرواء)) (2371)، وقال ابن كثير في ((مسند الفاروق)) (702): هذا إسنادٌ صَحيحٌ. .
2- عن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ، قال: (مَن عَرَّضَ عَرَضْنا لَه بالسَّوطِ) [882] أخرجه ابن حزم في ((المحلى)) (11/277). .
3- عن عَمرِو بنِ دينارٍ، عن أبي صالِحٍ الغِفاريِّ أنَّ عَمرَو بنَ العاصِ جَلَدَ رَجُلًا الحَدَّ كامِلًا في أن قال لآخَرَ: يا ابنَ ذاتِ الدَّايةِ [883] أخرجه ابن حزم في ((المحلى)) (11/276). .
ثانيًا: أنَّه إذا عُرِف المُرادُ بدَليلِه مِنَ القَرينةِ صارَ كالصَّريحِ [884] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 199). .

انظر أيضا: