الموسوعة الفقهية

المَسألةُ الرَّابعةُ: اشتِراطُ اتِّحادِ المَجلِسِ للشَّهادةِ على الزِّنا   


اختَلف الفُقَهاءُ في اشتِراطِ اتِّحادِ المَجلِسِ للشَّهادةِ على الزِّنا، على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يُشتَرَطُ في الشَّهادةِ على الزِّنا أن تَكونَ في مَجلسٍ واحِدٍ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ [448] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 165)، ((الفتاوى الهندية)) (2/ 151). ، والمالِكيَّةِ [449] ((التاج والإكليل)) للمواق (8/ 206)، ((الشرح الكبير)) للدردير (4 / 185). ، والحَنابِلةِ [450] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/74)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6 / 100). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عن أبى عُثمانَ النَّهديِّ، قال: (جاءَ رَجُلٌ إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه فشَهدَ على المُغيرةِ بنِ شُعبةَ فتَغَيَّر لونُ عَمَرَ، ثُمَّ جاءَ آخَرُ فشَهِدَ فتَغَيَّر لونُ عَمَرَ، ثُمَّ جاءَ آخَرُ فشَهِدَ فتَغَيَّر لونُ عَمَرَ، حتَّى عَرَفنا ذلك فيه، وأنكَرَ لذلك، وجاءَ آخَرُ يُحَرِّكُ بيَدَيه، فقال: ما عِندَك يا سَلخَ العُقابِ؟! وصاحَ أبو عُثمانَ صَيحةً تُشبِهُها صَيحةُ عُمَرَ، حتَّى كَرَبتُ أن يُغشى عَلَيَّ، قال: رَأيتُ أمرًا قَبيحًا، قال: الحَمدُ للهِ الذي لم يُشمِتِ الشَّيطانَ بأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَر بأولئِكَ النَّفَرِ فجُلِدوا) [451] أخرجه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (6134). صحَّح إسنادَه الألباني في ((إرواء الغليل)) (8/28). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الثَّلاثةَ لمَّا شَهِدوا على المُغيرةِ بنِ شُعبةَ بالزِّنا بَينَ يَدَي عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، وامتَنَعَ زِيادٌ، أقامَ الحَدَّ على الثَّلاثةِ، ولم يَنتَظِرْ مَجيءَ رابعٍ ليَشهَدَ عليه بالزِّنا، فلو كان اختِلافُ المَجلسِ غَيرَ مُؤَثِّرٍ في هذه الشَّهادةِ لانتَظَرَ مَجيءَ رابعٍ ليَدرَأَ به الحَدَّ عنِ الثَّلاثةِ [452] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/ 90).  .
ثانيًا: لأنَّ الشَّهادةَ على الزِّنا قَذفٌ في الحَقيقةِ، ولكِن بتَكامُلِ العَدَدِ يَتَغَيَّرُ حُكمُها، فيَصيرُ حُجَّةً للحَدِّ، فيَخرُجُ مِن أن يَكونَ قَذفًا به [453] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/ 90)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 165).  .
ثالثًا: لأنَّه لمَّا كانتِ الفضيحةُ فيها أشنَعَ مِن سائِرِ المَعاصي شَدَّدَ الشَّارِعُ فيها طَلبًا للسَّترِ، فيَشهَدونَ عِندَ الحاكِمِ، ويَجتَمِعونَ لها في وقتٍ واحِدٍ [454] يُنظر: ((الشرح الكبير)) للدردير (4 / 185).  .
رابعًا: لأنَّ الشَّهادةَ فيه مُعتَبَرةٌ بكَمالِ الأداءِ وكَمالِ العَدَدِ، فلمَّا كان تَفريقُ الأداءِ في مَجلسٍ -ذُكِر في أحَدِهما أنَّه زِنًا، ووُصِف في الآخَرِ الزِّنا- يَمنَعُ مِن صِحَّةِ الشَّهادةِ، وجَبَ أن يَكونَ تَفريقُ العَدَدِ في مَجلسَينِ مانِعًا مِن صِحَّةِ الشَّهادةِ [455] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/ 228).  .
خامِسًا: لأنَّ حَدَّ الزِّنا ثَبَتَ بالإقرارِ تارةً، وبالشَّهادةِ أُخرى، ثُمَّ تَغلَّظ الإقرارُ مِن وجهَينِ: تَصريحٌ بصِفةٍ، وعَدَد في تَكرارِه، وجَبَ أن تتغَلَّظَ الشَّهادةُ فيه مِن وجهَينِ: زيادةِ عَدَدٍ، واجتِماعٍ في مَجلسٍ [456] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/ 228).  .
القَولُ الثَّاني: لا يُشتَرَطُ في الشَّهادةِ على الزِّنا أن تَكونَ في مَجلسٍ واحِدٍ، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [457] ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/ 228)، ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (13/ 326). ، وهو اختيارُ عَبدِ المَلِكِ الماجِشونِ [458] ((الأوسط)) لابن المنذر (12/ 551). ، وأبي ثَورٍ [459] يُنظر: ((الإشراف)) لابن المنذر (7/ 302)، ((الأوسط)) لابن المنذر (12/ 551). ، وعُثمانَ البَتِّيِّ [460] يُنظر: ((الإشراف)) لابن المنذر (7/ 302)، ((الأوسط)) لابن المنذر (12/ 551)، ((المغني)) لابن قدامة (9/ 71). ، وابنِ المُنذِرِ [461] قال ابنُ المُنذِرِ: (اختَلف أهلُ العِلمِ في شُهودِ الزِّنا إذا جاؤوا مُتَفرِّقينَ، وكانوا أربَعةً؛ فقالت طائِفةٌ: يُقبَلُ ذلك مِنهم. هذا قَولُ البَتِّيِّ، وأبي ثَورٍ. وقال ابنُ الحَسَنِ: لا تَجوزُ شَهادَتُهم. قال أبو بَكرٍ: وبقَولِ البَتِّي أقولُ). ((الإشراف)) (7/ 302). ، والشِّنقيطيِّ [462] قال الشِّنقيطيُّ: (أظهَرُ القَولينِ عِندي دليلًا هو قَبولُ شَهادَتِهم ولو جاؤوا مُتَفرِّقينَ في مَجالسَ مُتَعَدِّدةٍ). ((أضواء البيان)) (5/377). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور: 4] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الآيةُ لم تُفرِّقْ، فيَكونُ الحُكمُ على عُمومِه [463] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/ 228)، ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (13/ 326).  .
ثانيًا: لأنَّ كُلَّ حَقٍّ يَثبُتُ بالشُّهودِ إذا شَهِدوا به في مَجلسٍ، ثَبَتَ وإن شَهِدوا به في مَجالِسَ، كسائِرِ الحُقوقِ [464] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/ 228)، ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (13/ 326).  .
ثالثًا: لأنَّ كُلَّ شَهادةٍ يَجِبُ الحُكمُ بها إذا تَكامَل عَدَدُها في مَجلسٍ، وجَبَ الحُكمُ بها إذا تَكامَل عَدَدُها في مَجلسَينِ، ووجَبَ الحُكمُ إذا تَكامَل عَدَدُها في مَجالِسَ؛ قياسًا على سائِرِ الشَّهاداتِ [465] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/ 228).  .
رابعًا: لأنَّ شَهادةَ الحُقوقِ نَوعانِ: للَّهِ، وللآدَميِّينَ، وليس يُعتَبَرُ في واحِدٍ مِنهما اجتِماعُ الشُّهودِ؛ فوجَبَ أن يَكونَ الزِّنا مُلحَقًا بأحَدِهما [466] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/ 228).  .
خامِسًا: لأنَّ شَهادةَ الواحِدِ إذا تَقدَّمَت لم يَخلُ مِن أن يَكونَ فيها شاهدًا أو قاذِفًا، فإن كان شاهدًا لم يَصِرْ قاذِفًا بتَأخُّرِ غَيرِه، وإن كان قاذِفًا لم يَصِرْ شاهِدًا بشَهادةِ غَيرِه [467] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/ 228).  .
سادِسًا: لأنَّه ليس في تَفرُّقِ الشَّهادةِ في مَجلسَينِ أكثَرُ مِن تَباعُدِ ما بَينَ الزَّمانيَّينِ، وهذا لا يُؤَثِّرُ في الشَّهادةِ، كما لوِ استَدامَ المَجلِسُ في جَميعِ اليَومِ، فشَهدَ بَعضُهم في أوَّلِه، وبَعضُهم في آخِرِه [468] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/ 228).  .
سابعًا: لأنَّ تَفرُّقَ الشُّهودِ أنفى للرِّيبةِ وأمنَعُ مِنَ التَّواطُؤِ والمُتابَعةِ؛ لأنَّ الاستِرابةَ بالشُّهودِ تَقتَضي تَفريقًا ليُختَبَرَ بالتَّفريقِ رُتبَتُهم، فكان افتِراقُهم أَولى أن يُعتَبَرَ مِنِ اجتِماعِهم [469] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/ 228).  .

انظر أيضا: