موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ السَّادِسُ: الشِّعْرُ الدِّينيُّ


لجأ أكثَرُ الشُّعَراءِ إلى الزُّهدِ والتَّصوُّفِ حتَّى صار ذلك السِّمةَ الغالبةَ لشِعرِ تلك الفترةِ، وإنَّما كان صنيعُهم ذلك فرارًا من الواقِعِ من ناحيةٍ، ونتيجةً للعوامِلِ السِّياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّةِ الواقِعةِ عليهم من ناحيةٍ أُخرى. وقد شجَّع العُلَماءُ والشُّعَراءُ عمومَ النَّاسِ على ذلك. فهذا الشَّيخُ ابنُ القَمَّاحِ يقولُ [56] يُنظَر: ((طبقات الشافعية الكبرى)) لتاج الدين السبكي (9/93). : الكامل
اصْبِرْ على حُلْوِ القَضاءِ ومُرِّهِ
واعلَمْ بأنَّ اللهَ بالِغُ أمْرِهِ
فالصَّدرُ مَن يَلقَى الخُطوبَ بصَدْرِهِ
وبصَبْرِهِ وبحَمْدِهِ وبشُكرِهِ
الحُرُّ سَيفٌ والذُّنوبُ لصَفْوِهِ
صَدَأٌ وصَيْقَلُهُ نَوائِبُ دَهْرِهِ
ليس الحَوادِثُ غَيرَ أعمَالِ امرِئٍ
يُجزَى بها مِن خَيرِهِ أو شَرِّهِ
فإذا أُصِبْتَ بما أُصِبْتَ فلا تَقُلْ
أُوذِيتُ مِن زَيدِ الزَّمانِ وعَمْرِهِ
واثْبُتْ فكَم أمْرٍ أقَضَّكَ عُسْرُهُ
لَيلًا فبَشَّرَكَ الصَّباحُ بيُسْرِهِ
ولكَمْ على ناسٍ أتى فَرَجُ الفَتى
مِن سِرِّ غَيْبٍ لا يَمُرُّ بفِكْرِهِ
فاضْرَعْ إلى اللهِ الكَريمِ ولا تَسَلْ
بَشَرًا فليس سِواهُ كاشِفَ ضُرِّهِ
واعْجَبْ لِنَظْمي والهُمومُ شَواغِلٌ
يُلْهِينَ عَن نَظْمِ الكلامِ ونَثْرِهِ
وفي شَبيهٍ بهذا المعنى قال ابنُ نُباتةَ المِصريُّ [57] ((ديوان ابن نباتة)) (ص: 225، 226). :
لا تَخْشَ مِن غَمٍّ كغَيْمٍ عارِضٍ
فلسوف يُسفِرُ عن إضاءةِ بَدْرِهِ
إنْ تُمْسِ عن عَبَّاسِ حالِكَ راوِيًا
فكأنَّني بكَ راوِيًا عن بِشْرِهِ
ولقد تَمُرُّ الحادِثاتُ على الفَتَى
وتَزُولُ حتَّى ما تَمُرُّ بِفِكْرِهِ
هَوِّنْ عليك فرُبَّ خَطْبٍ هائِلٍ
دُفِعَتْ قُواهُ بدافِعٍ لم تَدْرِهِ
ولرُبَّ لَيلٍ بالهُمومِ كَدُمَّلٍ
صابَرْتَهُ حتَّى ظَفِرْتَ بفَجْرِهِ
وقال صفيُّ الدِّينِ بنِ عبدِ المُؤمِنِ البَغداديِّ [58] يُنظَر: ((شذرات الذهب في أخبار من ذهب)) لابن العماد (8/214). : السريع
لا تَرْجُ غيرَ اللهِ سُبحانَهُ
واقطَعْ عُرَى الآمالِ مِن خَلْقِهِ
لا تطلُبَنَّ الفَضلَ مِن غيرهِ
واضْنَنْ بماءِ الوجهِ واسْتَبْقِهِ
فالرِّزْقُ مقسومٌ وما لامرئٍ
سوى الذي قُدِّرَ مِن رِزقهِ
والفَقرُ خَيرٌ للفتى من غِنًى
يكونُ طولَ الدَّهْرِ في رِقِّهِ
ويدخُلُ في الشِّعْرِ الدِّينيِّ كذلك تلك المدائِحُ التي نَظَمها الشُّعَراءُ في مَدحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهي ظاهرةٌ متفشِّيةٌ جِدًّا في شِعرِ العَصرِ المملوكيِّ، فكَم من شاعرٍ أفرد دواوينَ في مدحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وآلِ بيتِه! كابنِ سَيِّدِ النَّاسِ المِصريِّ، وشِهابِ الدِّينِ محمَّدٍ الدِّمَشقيِّ، وأكثَرَ غيرُهم من ذلك النَّوعِ من الشِّعْرِ الدِّينيِّ، كالبُوصِيريِّ، بل إنَّ السَّلاطينَ والأُمراءَ كذلك شاركوا الشُّعَراءَ في مِثلِ هذا التَّوجُّهِ؛ فللسُّلطانِ عبدِ الحميدِ الأوَّلِ قَصيدةٌ سمَّاها (القصيدةَ الحُجْريَّة في مَدحِ خَيرِ البَرِيَّة صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)، أهداها إلى حُجرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وأكثَرُ تلك القصائدِ يعتريها ما يعتري شِعرَ الصُّوفيَّةِ ونحوِهم من مظاهِرِ الشِّركِ، وإطراءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على نحوٍ يخالِفُ قولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تُطْروني كما أَطْرَتِ النَّصارى ابنَ مَريمَ)) [59] أخرجه البخاري (3445). .
فمن ذلك قولُ صَفيِّ الدِّينِ الحِلِّيِّ [60] يُنظَر: ((ديوان صفي الدين الحلي)) (ص: 691). : البسيط
محمدُ المُصطفى الهادي النَّبيُّ أَجَلُّ
المُرسَلين ابنُ عبدِ اللهِ ذي الكَرَمِ
الطَّاهِرُ الشِّيَمِ ابنُ الطَّاهرِ الشِّيَمِ
ابنِ الطَّاهرِ الشِّيمِ ابنِ الطَّاهِرِ الشِّيَمِ
خيرُ النَّبيِّينَ والبُرهانُ مُتَّضِحٌ
في الحجْرِ عَقلًا ونقلًا واضِحَ اللَّقَمِ
كم بَيْنَ مَن أقسَم اللهُ العَليُّ به
وبَينَ مَن جاء باسمِ اللهِ في القَسَمِ
أمِيُّ خَطٍّ أبان اللهُ مُعْجِزَهُ
بطاعةِ الماضِيَينِ: السَّيفِ والقَلَمِ
مؤيَّدُ العزمِ والأبطالُ في قَلَقٍ
مُؤَمَّلُ الصَّفْحِ، والهَيجاءُ في ضَرَمِ
نَفسٌ مؤيَّدَةٌ بالحَقِّ تَعْضُدُها
عنايةٌ صدَرَت عن بارئِ النَّسَمِ
أبدى العجائِبَ فالأعمى بنَفْثَتِهِ
غدا بصيرًا وفي الحَربِ البَصيرُ عَمِي
له السَّلامُ من اللهِ السَّلامِ وفي
دارِ السَّلامِ تراه شافعَ الأُمَمِ
كم قد جَلَتْ جُنْحَ ليلِ النَّقعِ طَلْعَتُهُ
والشُّهْبُ أَحْلَكُ ألوانًا من الدُّهُمِ [61] النَّقعُ: الغُبارُ المُرْتَفعُ. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (1/175). والدُّهمُ: جمعُ الأدهَمِ، وهو الأسوَدُ من الخيلِ. يُنظَر: ((العين)) للخليل بن أحمد (4/31).
في مَعْرَكٍ لا تُثِيرُ الخيلُ عِثْيَرَهُ
ممَّا تُرَوَّى المواضي تُربَه بِدَمِ [62] معنى البيتِ أنَّ الخيلَ لا تُثيرُ الغُبارَ؛ لأنَّ السُّيوفَ القواطِعَ قد روَت الأرضَ بالدَّمِ، فاستقَرَّ الغُبارُ بها.
عزيزُ جارٍ لو اللَّيلُ استجارَ به
من الصَّباحِ لعاش النَّاسُ في الظُّلَمِ
كأنَّ مَرْآهُ بَدرٌ غيرُ مُستتِرٍ
وطِيبَ رَيَّاهُ مِسكٌ غيرُ مُكتَتَمِ
لا يَهدِمُ المَنُّ مِنهُ عُمْرَ مَكرُمةٍ
ولا يَسوءُ أذاه نفسَ مُؤْتَهِمِ
يُولي الموالِينَ مِن جدوى شفاعتِه
مُلكًا كبيرًا عدا ما في نُفوسهِمِ
كأنَّما قَلبُ (معنٍ) مِلْءُ فيه فلم
يَقُلْ لسائِلِه يومًا سِوى نَعَمِ
إنْ حَلَّ أرضَ أُناسٍ شدَّ أَزرَهُمُ
بما أتاح لهم من حَطِّ وِزْرهِمِ
آراؤه وعطاياه ونِقمَتُه
وعَفوُه رحمةٌ للنَّاسِ كُلِّهِمِ
فجُودُ كَفَّيهِ لم تُقلِعْ سَحائبُه
عن العِبادِ وجُودُ السُّحْبِ لم يُقِمِ
ومنه قولُ البُوصِيريِّ في بُرْدَتِه الشَّهيرةِ [63] يُنظَر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 165). : البسيط
ظَلَمْتُ سُنَّةَ مَنْ أحيا الظَّلامَ إلى
أنِ اشْتَكَتْ قَدَماهُ الضُّرَّ مِن ورَمِ
وشَدَّ مِن سَغَبٍ أحشاءَهُ وطَوَى
تحتَ الحِجارةِ كَشْحًا مُترَفَ الأدَمِ [64] السَّغَبُ: الجوعُ. يُنظَر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/3387). والكَشْحُ: ما بَيْنَ ضِلعِ الإنسانِ إلى خاصرتِه من جنبَيه. يُنظَر: ((العين) للخليل بن أحمد (2/57). ومُترَفُ الأدَمِ: يريدُ أنَّه لم يؤثِّرْ ذلك على قُوَّتِه وصِحَّتِه، بل كان جِلْدُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أشدَّ تَرَفًا ونضارةً من المنعَّمينَ في الدُّنيا.
وراودَتْهُ الجبالُ الشُّمُّ من ذَهَبٍ
عن نفسهِ فأَراها أيَّما شَمَمِ
محمَّدٌ سيدُّ الكونَينِ والثَّقَلَيْنِ
والفريقَينِ من عُربٍ ومن عَجَمِ
نبيُّنا الآمرُ النَّاهي فلا أحدٌ
أبَرَّ في قَوْلِ «لا» مِنهُ ولا «نَعَمِ»
هُوَ الحَبيبُ الذي تُرْجَى شَفاعَتُهُ
لِكلِّ هَوْلٍ مِنَ الأهوالِ مُقْتَحَمِ
دعا إلى اللهِ فالمُستَمسِكونَ بهِ
مُستَمسِكونَ بحَبلٍ غيرِ مُنفَصِمِ
فاقَ النَّبيِّينَ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ
ولمْ يدانوهُ في عِلمٍ ولا كَرَمِ
وكلُّهمْ من رَسولِ اللهِ مُلتَمِسٌ
غَرْفًا مِنَ البَحْرِ أو رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ [65] الدِّيَمُ: جمعُ دِيمَةٍ، وهي المطَرُ الذي ينزِلُ بلا رَعدٍ أو بَرقٍ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (5/1924).
وواقِفونَ لديهِ عندَ حَدِّهمِ
من نقطةِ العِلمِ أو منْ شَكلةِ الحِكَمِ
فهْوَ الذي تَمَّ معناهُ وصُورَتُه
ثمَّ اصطفاهُ حبيبًا بارِئُ النَّسَمِ
مُنَزَّهٌ عن شريكٍ في محاسِنِهِ
فجوهَرُ الحُسنِ فيهِ غيرُ منقَسِمِ
إنْ لم يكُنْ في مَعادي آخذًا بيدي
فضلًا وإلَّا فقُلْ يا زَلَّةَ القَدَمِ
يا أكرَمَ الخَلقِ ما لي مَن ألوذُ به
سِواك عِندَ حُلولِ الحادِثِ العَمَمِ
فإنَّ مِن جُودِك الدُّنيا وضَرَّتَها
ومِن عُلومِك عِلمُ اللَّوحِ والقَلَمِ
ولا يخفى ما بعضِ هذه الأبياتِ من الغُلُوِّ في مَدحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ويدخُلُ في الشِّعْرِ الدِّيني كذلك أشعارُ المتصَوِّفةِ وما يُعبِّرون به عن اعتقادِهم، على اختلافِ مذاهِبِهم بَيْنَ العِشقِ الإلهيِّ والقَولِ بوَحدةِ الوُجودِ والحُلولِ والاتِّحادِ وغيرِ ذلك من الشِّرْكيَّاتِ التي ذهبَت إليها فلاسِفةُ المتصَوِّفةِ.
ومن ذلك قولُ العفيفِ التِّلمسانيِّ [66] يُنظَر: ((فوات الوفيات)) لابن شاكر (2/73). : الطويل
وَقْفنا على المَغْنى القديمِ فما أغنى
ولا دلَّت الألفاظُ منه على معنى
وكم فيه أمسَينا وبِتْنا برَبعِه
حيارى وأصبَحْنا حيارى كما بِتْنا
ثَمِلْنا ومِلْنا والدُّموعُ مُدامُنا
ولولا التَّصابي ما ثَمِلْنا ولا مِلْنا [67] ثَمِلْنا: سَكِرْنا. يُنظَر: ((العين)) للخيل بن أحمد (8/229). والمُدامةُ: الخَمرُ. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (14/148).
فلم نَرَ للغِيدِ الحِسانِ به سَنَا
وهم من بدورِ التَّمِّ في حُسنِها أسْنَا [68] الغِيدُ: جمعُ غادةٍ، وهي النَّاعمةُ اللَّيِّنةُ من الفتَياتِ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 232). والسَّنا: ضوءُ القَمَرِ. أو ضوءُ البَرقِ. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (13/54).
نُسائِلُ باناتِ الحِمى عن قُدودِهم
ولا سِيَّما في لينِها البانةُ الغَنَّا [69] البانةُ: واحِدةُ شَجَرِ البانِ، وهو شجرٌ طويلٌ يُشَبَّه به اعتدالُ القوامِ ولينُ العُودِ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (34/289).
ونَلثَمُ تُرْبَ الأرضِ أنْ قد مشَت بها
سُلَيمى ولُبنى لا سُلَيمى ولا لُبنى
فوا أسَفَا فيه على يوسُفِ الحِمَى
ويَعقوبِه تبيَّضُ أعيُنُه حُزْنَا
وليس الشَّجِيُّ مِثلَ الخَليِّ لأجْلِ ذا
به نحن نُحنا والحمامُ به غَنَّى
ينادي مُناديهم ونُصغي إلى الصَّدى
فيَسألُهم عنَّا بمِثلِ الذي قُلْنا

انظر أيضا: