موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الأوَّلُ: المَدْحُ


المَدْحُ من الأغراضِ التي لا تنقَرِضُ مع مرورِ الزَّمانِ؛ فحاجةُ الإنسانِ إلى شُكرِ المتفَضِّلِ عليه فطريَّةٌ فيه، خاصَّةً عِندَ الشُّعَراءِ ومُرهَفي الحِسِّ، لا سِيَّما إذا كان ذلك الممدوحُ ممَّن استحقَّ المَدْحَ، وكان فضلُه ظاهرًا على الخَلقِ.
وقد اكتَسَب المماليكُ محبَّةَ الشَّعبِ وإجلالَه؛ لردِّهم خَطَرَ التَّتارِ ذلك العَدوِّ الذي قضى على الخلافةِ العبَّاسيَّةِ في بغدادَ، وشتَّت شَمْلَ المُسلِمين، وقَهَر الإماراتِ الإسلاميَّةَ وأذلَّه؛. ولهذا كان من أصدَقِ المَدْحِ ما وُجِّه للسُّلطانِ المُظَفَّرِ قُطُز حينَ عاد من عينِ جالوتَ مُنتَصِرًا على التَّتارِ؛ فمنه قولُ بعضِ شُعَراءِ دِمَشقَ [10] يُنظَر: ((ذيل مرآة الزمان)) لليونيني (1/ 367)، ((المختصر في أخبار البشر)) لأبي الفداء (3/ 206). : الخفيف
هلك الكُفرُ في الشَّآمِ جميعًا
واستجَدَّ الإسلامُ بَعدَ دُحوضِهْ
بالمليكِ المُظَفَّرِ المَلكِ الأر
وَعِ سَيفِ الإسلامِ عِندَ نُهوضِهْ
مَلِكٌ جاءنا بعَزمٍ وحَزمٍ
فاعتزَزْنا بسُمْرِه وبِبِيضِهْ [11] السُّمْرُ: الرِّماحُ، والبِيضُ: الدُّروعُ.
أوجبَ اللهُ شُكْرَ ذاك علينا
دائمًا مِثلَ واجِباتِ فُروضِهْ
وحينَ دخل الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ إلى البِيرةِ بَعدَ أن كَسَر جُموعَ التَّتارِ عِندَ شطِّ الفُراتِ، قال الشَّيخُ أبو الثَّناءِ شِهابُ الدِّينِ محمودٌ [12] يُنظَر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (17/ 505)، ((النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)) لابن تغري بردي (7/ 159). : الكامل
لَمَّا تَراقَصَتِ الرُّؤوسُ تَحَرَّكَت
مِن مُطْرِبَاتِ قِسِيِّكَ الأوتارُ
خُضْتَ الفُراتَ بعَسكَرٍ أفضى به
موجُ الفُراتِ كما أتى الآثارُ
حَمَلَتْكَ أموَجُ الفُرَاتِ ومَن رَأى
بَحرًا سِواكَ تُقِلُّهُ الأنهارُ
وتَقَطَّعَتْ فَرَقًا ولم يَكُ طَودَها
إذْ ذَاكَ إلَّا جَيشُكَ الجَرَّارُ [13] الطَّودُ: الجَبَلُ العظيمُ، والشَّاعِرُ يحاكي بذلك قولَه تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ [الشعراء: 63] .
رَشَّتْ دِمَاؤُهمُ الصَّعِيدَ فلم يَطِرْ
مِنهم على الجَيشِ السَّعِيدِ غُبارُ
شَكَرَتْ مَسَاعِيكَ المَعَاقِلُ والوَرى
والتُّرْبُ والآسادُ والأطيارُ
هَذي مَنَعْتَ وهؤلاء حَمَيتَهم
وسَقَيتَ تلك وعَمَّ ذا الإيسارُ
فلَأملَأنَّ الدَّهرَ فيكَ مَدائِحًا
تَبقى بَقِيتَ وتَذْهَبُ الأعصارُ
‌وقال صَفِيُّ الدِّينِ الحِلِّيُّ في مَدحِ السُّلطانِ النَّاصِرِ محمَّدِ بنِ قَلاوونَ، يعارِضُ بها قصيدةَ المتَنَبِّي الشَّهيرةَ التي مَطلَعُها: الكامل
بأبي ‌الشُّموسُ ‌الجانِحاتُ غَواربَا
اللَّابساتُ من الحَريرِ جَلابِبَا [14] يُنظَر: ((ديوان المتنبي)) (ص: 99).
فقال:
مَلِكٌ يرى تَعَبَ المكارِمِ راحةً
ويَعُدُّ راحاتِ الفَراغِ مَتَاعِبَا
لم تخلُ أرضٌ مِن ثناه وإن خَلَتْ
من ذِكْرِه مُلِئَتْ قَنًا وقواضِبَا [15] القَنَا: جمعُ قَناةٍ، وهي الرُّمحُ. يُنظَر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (6/568). والقواضِبُ: جمعُ قاضِبٍ، أي: قاطِعٍ، وصفٌ للسَّيفِ. يُنظَر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/355).
بمكارمٍ تَذَرُ السَّباسِبَ أبحُرًا
وعزائمٍ تَذَرُ البِحارَ سباسِبَا [16] السَّباسِبُ: الصَّحاري، واحِدتُها: سَبْسَبٌ. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (12/220).
تُرجى مَواهبُه ويُرهَبُ بطشُه
مِثلَ الزَّمانِ مُسالِمًا ومحارِبَا
فإذا سَطا ملأَ القُلوبَ مهابةً
وإذا سَخا ملأَ العُيونَ مَواهِبا
كالغَيثِ يَبعَثُ مِن عَطاه نائلًا
سَبَطًا ويُرسِلُ مِن سَطاه حاصِبَا
كاللَّيثِ يحمي غابَه بزَئيرِه
طوَرًا ويُنشِبُ في القنيصِ مَخالِبَا
كالسَّيفِ يُبدي للنَّواظِرِ مَنظرًا
طَلْقًا ويَمضي في الهِياجِ مُضارِبَا
كالسَّيلِ يُحمدُ منه عَذبًا واصِلًا
ويَعُدُّه قومٌ عَذابًا واصِبَا
كالبَحرِ يُهدي للنُّفوسِ نفائسًا
منه ويُبدي للعُيونِ عَجائِبَا
فإذا نظَرْتَ ندى يَدَيه ورأيِه
لم تَلْقَ إلَّا صيِّبًا أو صائِبَا [17] يُنظَر: ((ديوان صفي الدين الحلي)) (ص: 95).
ولا يعني ذلك اندِثارَ المَدْحِ المقصودِ منه التَّكسُّبُ؛ فقد كان ذلك ديدَنَ كثيرٍ من الشُّعَراءِ على مَرِّ العُصورِ؛ فهذا ابنُ نُباتةَ يمدَحُ المَلِكَ المؤَيَّدَ صاحِبَ حماةٍ، مُصرِّحًا بطَلَبِ العَطاءِ منه، فيقولُ [18] يُنظَر: ((ديوان ابن نباتة المصري)) (ص: 379، 380). : الكامل
شَكَرَتْ لُهَاكَ فما أشُكُّ بأنَّني
ثقَّلْتُ وهْيَ مُطيقةٌ أثقالَها
أغنَيْتَني عن كلِّ ذي قَلَمٍ فلم
أفتَحْ يدًا لسِوى نَداكَ ولا لها
وكفَيْتَني حتَّى قفَوتُ معاشِرًا
كُثْرَ النَّدَى فاسْتكثَرَتْ أطفالَها
أيَّامَ ما لي غيرُ قصدِكَ حيلةٌ
تُنجي وتُنجِحُ في الوَرى بطَّالَها
لا زِلتَ مَقصودَ الحِمى بقصائدٍ
أصبَحْتَ عِصمةَ أمرِها وثِمالَها [19] الثِّمالُ: الذي يقومُ بأمرِ القومِ ويحميهم. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (28/167).
لولاكَ لم يخطُرْ ببالِي نَظْمُها
لا والذي يلقاك أنعَمَ بالَها
سأَلَتْ رواياتُ النَّدى فتأخَّرَتْ
عنها الورَى وأجَزْتَ أنت سُؤالَها

انظر أيضا: