موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الثَّاني: الرِّثاءُ


الرِّثاءُ أصدَقُ الأغراضِ الشِّعْريَّةِ، وأكثَرُها ارتباطًا بالعواطِفِ الإنسانيَّةِ؛ إذ لا يَطمَعُ الرَّاثي في نَيْلِ شيءٍ من الميِّتِ، وإنَّما دفَعه إلى ذلك محبَّتُه وتقديرُه، وذلك ثابتٌ في جميعِ العُصورِ ومختَلِفِ البُلدانِ.
وقد استشرى الرِّثاءُ في عَصرِ المماليكِ، وألهبَتِ الحُروبُ وما يُفقَدُ فيها مشاعرَ الأُدَباءِ في رثاءِ ذوي الهيئاتِ من السَّلاطينِ والقادةِ والأمَراءِ، فضلًا عن مراثي العُلَماءِ والفُقَهاءِ والقُضاةِ وغَيرِهم، بَلْهَ المراثيَ التي يَرثي فيها الشَّاعرُ أخاه أو ابنَه أو ولدَه أو زوجَه أو صديقَه، ونحوَ ذلك.
فمِن رثاءِ السَّلاطينِ قولُ ابنِ نُباتةَ المِصريُّ في رثاءِ المُؤَيَّدِ والأفضَلِ [20] يُنظَر: ((ديوان ابن نباتة)) (ص: 15). : الكامل
يا جَفْنُ أمزِجْ أدمُعي بدِمائي
وأشهِدْ بها لمُلوكِنا الشُّهَداءِ
لهَفي على مَلِكَينِ جادَ عليهما
في كلِّ أرضٍ أفْقُ كلِّ سماءِ
لَهَفي لإسماعيلَ قبلَ محمَّدٍ
لم ألقَ يومَ رَدَاهما لفِداءِ
أَمَّا ذبيحا مُقلَتي ومَدامعي
لهما فما وَفَيا بفَيضِ دِماءِ
بَحرانِ أسنَدُ عن يزيدَ وواصلٍ
لهما وأروي عن رَجا وعَطاءِ
ذَهَبَا فلا ذَهَبٌ أناديه سِوى
ما صاغَ خدِّي باحمرارِ بُكائي
نَمْ يا محمَّدُ مَعْ أبيكَ فإنَّه
ما رثَّ لا وأبيكَ عَهدُ رِثائي
ومن مراثي الأعلامِ قولُ الشَّيخِ ابنِ الشِّحْنةِ في رثاءِ القاضي علاءِ الدِّينِ عليِّ ابنِ خَطيبِ النَّاصِريَّةِ، يقول: الكامل
ناحت على سُلطانِها العُلَماءُ
وبَكَتْ لفقدِ عَلائِها الشَّهْباءُ
وانهدَّ ركنٌ أيُّ ركنٍ شامخٍ
للمُسلِمين ويُتِّمَ الفُقَهاءُ
فلئِنْ رأينا الشُّهْبَ يومَ مماتِه
لا بِدْعَ لمَّا أن تغيبَ ذُكاءُ
واللَّهِ مات العِلْمُ في حَلَبٍ به
يا مَن له طلبٌ ومنه ذَكاءُ
مِن بَعدِ شيخِ المُسلِمين وحَبرِهم
قاضي القُضاةِ سيُرفَعُ السُّفَهاءُ
مَن للمدارسِ بَعدَه علَّامةً
مَن للفتاوى إن بُغِي إفتاءُ
جَلَّ المصابُ به وعَمَّ فموتُه
قَسَمًا مُصابٌ ليس عنه عَزاءُ
اللهُ أكبَرُ يا لها من ثُلْمةٍ
في دينِ أحمدَ ما لها إرفاءُ||hamish||21||/hamish||
ولما مات الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ العَسْقلانيُّ رحمه اللهُ، أكثَرَ الشُّعَراءُ من مراثيهم فيه، ومِن بديعِها قولُ الشِّهابِ الحِجازيِّ [22] يُنظَر: ((الجواهر والدرر)) للسخاوي (3/ 1234)، ((حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة)) للسيوطي (1/364). وقد أورَد السَّخاويُّ في البابِ العاشِرِ من ((الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر)) ما عَلِمَه من مراثي أدباءِ العَصرِ فيه مرتِّبًا لهم على حُروفِ المعجَمِ. : الكامل
كلُّ البَريَّةِ للمَنِيَّةِ صائرَه
وقُفُولُها شَيئًا فشَيئًا سَائِرَهْ
والنَّفسُ إنْ رَضِيَتْ بذا رَبِحَتْ وإنْ
لم تَرْضَ كانت عِندَ ذلك خَاسِرَهْ
وأنا الَّذي راضٍ بأحكَامٍ مَضَتْ
عَن ربِّنَا البَرِّ المُهَيمِنِ صَادِرَهْ
لَكِنْ سَئِمتُ العَيشَ مِن بَعدِ الذي
قد خَلَّفَ الأفكارَ مِنَّا حَائِرَهْ
هو شَيخُ الِاسْلامِ المعَظَّمُ قَدْرُهُ
مَنْ كان أوحَدَ عَصْرِهِ والنَّادِرَهْ
قاضي القُضَةِ العَسْقَلاني الذي
لم ترفَعِ الدُّنيا خَصيمًا ناظَرَهْ
وشهابُ دينِ اللهِ ذي الفَضْلِ الذي
أرْبَى على عَدَدِ النُّجومِ مُكاثَرَهْ
لا تَعجَبوا لِعُلُوِّهِ فأبُوهُ مِن
قَبلُ عَليٌّ في الدُّنَا والآخِرهْ
هو كيمياءُ العِلْمِ كَمْ مِن طالِبٍ
بالكَسْرِ جَاءَ له فأضْحَى جابِرَهْ
لا بِدْعَ إنْ عَادَت عُلُوم الكِيميا
مِن بَعْدِ ذَا الحَجَرِ المُكَرَّمِ بائِرَهْ
لَهَفِي على مَنْ أورثَتْني حَسرَةً
رأسُ الرُّؤوسِ عليه إذْ هِيَ حَاسِرَهْ

انظر أيضا: