موسوعة اللغة العربية

الفَصلُ الأوَّلُ: أبو الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ (ت: 69 هـ)


أبو الأَسْوَدِ، ظَالِم بن عَمرِو بن سُفْيَان بن جَنْدَل بن يَعْمَر بن حِلْس بن نُفَاثَة بن عَدِيِّ بن الدُّئِل بن بَكْر بن عَبْدِ مَنَاةَ بنِ كِنَانَةَ، الدُّؤَلي أو الدِّيلي، العَلَّامة، الفاضل، قاضي البَصرةِ. مَشهورٌ بكُنْيتِه.
سكن البَصْرةَ، وشَهِد مع عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه وقْعَةَ صِفِّين.
مَولِدُه:
وُلِد في أيَّامِ النُّبوَّةِ.
إسلامُه:
أسلم في حياةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لكنَّه لم يَرَه ولم يَلْقَه؛ ولذلك فهو من المُخَضْرَمِين، وليس من الصَّحابةِ، وهو معدودٌ في طَبَقةِ كِبَارِ التَّابِعينَ.
مِن مشايخِه:
عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، وعُثمانُ بنُ عَفَّانَ، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ، رَضِيَ اللهُ عنهم أَجْمَعِينَ.
ومِن تلامِذَتِه:
وَلَدُه أبو حَرْبٍ، ويَحيى بنُ يَعْمَرَ، ونَصْرُ بنُ عَاصِمٍ.
عَقيدتُه:
قال محمَّدُ بنُ سَلَّامٍ: (وكان عَلَوِيَّ الرَّأيِ) [2] ينظر: ((طبقات فحول الشعراء)) لمحمد بن سلام (1/ 12). . وليس ذلك قَدْحًا في عَقيدتِه، وإنَّما معناه أنَّه كان يُوالي آلَ البَيتِ، ويرى الحقَّ مع عليٍّ في خِلافِه مع مُعاوِيةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ويحارِبُ في صَفِّه.
واتَّهَمه البعضُ بالقولِ بالقدَرِ، وسارع إلى ذلك القاضي عبْدُ الجبَّارِ فنَسَبه إليهم [3] ينظر: ((طبقات المعتزلة)) للقاضي عبد الجبار (ص: 133). ، وزعَمَ أبو هِلالٍ العسكريُّ أنَّه أوَّلُ مَن قال بالقدَرِ [4] ينظر: ((الأوائل)) للعسكري (ص: 371). ، إلَّا أنَّ تلك التُّهمةَ أبعدُ ما تكونُ عنه؛ فهو تلميذُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما وكاتبُه، وقد أخرَجَ له الجماعةُ واتَّفَقوا على تَوثيقِه والاحتجاجِ به، ولم يَذكُرْ أحدٌ مِن أهلِ الحديثِ عنه ذلك، بلْ روى له أهلُ الحديثِ ما يُثبِتُ حُسنَ اعتقادِه وإيمانَه بالقَدَرِ؛ روى الإمامُ مسلمٌ عنه قال: قال لي عِمْرانُ بنُ الحُصَيْنِ: أرَأَيْتَ ما يَعمَلُ النَّاسُ اليومَ ويَكْدَحونَ فيه، أشَيْءٌ قُضِيَ عليْهم ومَضَى عليْهم مِن قَدَرِ ما سَبَقَ أو فِيما يُستَقبَلُون به ممَّا أتاهُم به نَبِيُّهم، وثَبَتَت الحُجَّةُ عليهِم؟ فقُلتُ: بلْ شَيْءٌ قُضِيَ عليهِم، ومَضَى عليهِم، قال: فقالَ: أفَلَا يكونُ ظُلْمًا؟ قال: ففَزِعْتُ مِن ذلكَ فزَعًا شدِيدًا، وقلْتُ: كلُّ شَيْءٍ خَلْقُ اللهِ ومِلْكُ يدِه، فلا يُسْأَلُ عمَّا يَفعَلُ وهُم يُسأَلونَ، فقال لي: يَرْحَمُكَ اللهُ إنِّي لمْ أُرِدْ بمَا سَأَلْتُكَ إلَّا لِأَحْزِرَ عَقْلَكَ...» [5] رواه مسلم (2650). .
وكذلك فإنَّ بعضَ أبياتهِ تَنفي عنه تلك التُّهمةَ صَراحةً؛ فمِن شِعرِه قولُه لابنِه [6] ينظر: ((ديوان أبي الأسود الدؤلي)) (ص: 325). :
وما طَلبُ المَعيشةِ بالتَّمنِّي
ولكنْ أَلْقِ دَلْوَك في الدِّلَاءِ
تَجِيءُ بملئِها طَورًا وطَورًا
تَجِيءُ بحمْأَةٍ وقَليلِ ماءِ
ولا تَقعُدْ على كَسَلِ التَّمَنِّي
تُحِيلُ على المقادِرِ والقَضاءِ
فإنَّ مَقَادِرَ الرَّحمنِ تَجْري
بأرزاقِ العبادِ مِن السَّماءِ
مُقَدَّرَةً بقَبْضٍ أو ببَسطٍ
وعَجْزُ المرْءِ مِن سَببِ البَلاءِ
مَنزِلتُه ومكانتُه:
كان أبو الأَسْوَدِ الدُّؤَلي مَعدودًا في الفُقَهاءِ والشُّعَرَاء، والمحدِّثينَ، والأشرافِ والفُرسانِ والأُمَراءِ، والدُّهَاةِ، والنُّحَاةِ، والحاضِري الجوابِ، والنُّبَلَاءِ. وقد وَثَّقه يحيى بنُ مَعِينٍ في روايةِ الحديثِ.
قال ابنُ عبدِ البَرِّ رحمه الله: (أمُّه قُرَشيةٌ مِن بني عبدِ الدَّارِ بنِ قُصَيٍّ، كان ذا عَقْلٍ ودِين، ولِسَانٍ وبَيَانٍ، وفَهْم وذَكَاءٍ وحَزْمٍ).
وهو أوَّلُ مَن أسَّس العربيَّةَ، ووضَعَ قياسَها، ونَقَط المصاحِفَ؛ وذلك حين اضطرب كلامُ العربِ، وصار وُجَهاءُ النَّاسِ يَلْحَنون؛ فوضَع باب الفاعِلِ، والمفعولِ به، والمضافِ، وحروفِ النصبِ والرفعِ، والجرِّ والجزمِ.
وقيل: إنَّ الذي جعَله يَضَعُ عِلمَ النحوِ ابنتُه؛ إذ قعدت معه في يومٍ قائظٍ شديدِ الحرِّ، فأرادت التعجُّبَ مِن شدَّةِ الحرِّ، فقالت: (ما أشدُّ الحرِّ!) فقال أبوها: القَيظُ، وهو ما نحن فيه يا بُنيَّةُ. جوابًا عن كلامِها؛ لأنَّه استفهامٌ. فتحيَّرت وظهر لها خطؤُها، فعَلِم أبو الأسوَدِ أنها أرادت التعجُّبَ، فقال لها: قُولي يا بُنيَّةُ: (ما أشدَّ الحرَّ!)، فعَمِل بابَ التعجُّبِ، وباب الفَاعِل، والمَفْعُول به، وغيرَها مِن الأبوابِ.
وقيل: إنما سُمِّي النَّحْوُ نحْوًا؛ لأنَّ أبا الأسودِ قال: (استأذنتُ علِيَّ بنَ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أن أضَعَ نحْوَ ما وضَعَ، فسُمِّي لذلك نحْوًا).
وله شِعْرٌ حَسَن، وجَوَابٌ حَاضِرٌ، وأخبارُه مشهورةٌ، وكلامُه كثيرُ الحِكَم والأَمْثَال.
ومِن لطيفِ قَولِ أبي الأسوَدِ: ليس السَّائِلُ المُلْحِفُ خَيرًا مِن المانِعِ الحابِسِ.
ومن عجائِبِ أجوبَتِه وبليغِها: أنَّه قيل: أبو الأسوَدِ أظرَفُ النَّاسِ لولا بُخْلٌ فيه. فقال: لا خيرَ في ظَرْفٍ لا يُمسِكُ ما فيه!
ومن مَحَاسِنِ الحِكَم في شِعْرِه:
لَا تُرْسِلَنَّ مَقَالَةً مَشْهُورَةً
لَا تَسْتَطِيعُ إِذَا مَضتْ إِدْرَاكَهَا
لا تُبْدِيَنَّ نَمِيمَةً نُبِّئْتَهَا
وَتَحَفَّظَنَّ مِن الَّذِي أَنْباكَها
وقَولُه السَّائِرُ:
مَا كُلُّ ذي لُبٍّ بِمُؤتِيكَ نُصحَهُ
وَما كُلُّ مُؤتٍ نُصحَهُ بِلَبِيبِ
وَلَكِن إِذَا ما استَجمَعا عِندَ واحِدٍ
فَحقٌّ لَهُ مِن طاعَةٍ بِنَصيبِ
وفاتُه: تُوفِّي سنةَ تِسعٍ وسِتِّينَ في طاعونِ الجارفِ، وهو ابنُ خمسٍ وثمانينَ سنةً. وقيل: تُوفِّي في خلافةِ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحمه الله، لكِنْ خطَّأ الذَّهَبِيُّ والصَّفَدِيُّ هذا القَولَ [7] يُنظَر: ((الجرح والتعديل)) لابن أبي حاتم (4/ 503)، ((طبقات النحويين واللغويين)) لمحمد بن الحسن الزُّبَيدي (ص: 21)، ((تاريخ العلماء النحويين)) للتَّنُوخي (ص 166)، ((الاستغناء في معرفة المشهورين من حملة العلم بالكنى)) لابن عبد البر (1/ 400)، ((أسد الغابة)) لابن الأثير (2/ 485)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (2/ 535)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (4/ 81)، ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (16/ 305)، ((الإصابة)) لابن حجر (3/ 563)، ((الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة)) لمجموعة باحثين (2/ 1089) .

انظر أيضا: