موسوعة اللغة العربية

تَمهيدٌ


لِتَراجِمِ العُلَماءِ أهَمِّيَّةٌ كُبرَى في العُلومِ، والتَّراجِمُ فرعٌ من عِلمِ التَّاريخِ بَل من أجلِّ فُروعِه، ومنَ الكَلامِ المُحَرَّرِ النَّفيسِ في ذَلِكَ كَلامُ الشَّيخِ مُحَمَّدُ عَبدِ الحَيِّ اللكنَويِّ (ت: 1304هـ)؛ حَيثُ قالَ: (إنَّ في عِلمِ التَّاريخِ عِبرَةً لِمَنِ اعتَبِرَ، وموعِظَةً لِمَنِ افتَكرَ، وإعلامًا أنَّ من دَخلَ دارَ الدُّنيا فهو عَلَى سَفرٍ، وإحضار حالات من مَضَى وغَبرَ، ونَداءً عَلَى أنَّ كُلَّ ما في هَذِه الدَّارِ فهو مَقهورٌ تَحتَ القَضاءِ والقَدَرِ، لا يَتَأخَّرُ ساعَةً ولا يَتَقَدَّمُ لَمحَةً عَن وقتِه المُقَدَّرِ؛ فهو أجلُّ ما يُطالِعُه أربابُ العُقولِ، وأعَزُّ ما يُنفَعُ بِه الجَهولُ، وأفضَلُ ما يُعايِنُه نُقَّادُ الفُحولِ، وأعلَى ما تَبصَّر به الغَفولُ، ولَه شُعبٌ مُتَفرِّقَةٌ، وصُنوفٌ مُتَشَتِّتَةٌ، وأجَلُّها فَنُّ تراجِمِ الكِبارِ، وأخبارِ الأخيارِ؛ ففيه غيرُ ما مضَى فوائِدُ جَمَّةٌ، ومنافِعُ مُهِمَّةٌ؛ منها: الِاطِّلاعُ عَلَى مَناقِبِهم وأوصافِهم ونَباهَتِهم وجَلالَتِهم؛ ليَحصُلَ التَّأدُّبُ بِآدابِهم، والتَّخَلُّقُ بِأخلاقِهم، فيُحشَرَ في زُمرَتِهم ويَدخُلَ فيهم وإن لَم يَكُنْ منهم. ومنها: الِاطِّلاعُ عَلَى مَراتِبِهم ومَدارِجِهم، فيُؤمَنُ بِه من تَنزيلِ أعلَى الرُّتبَةِ إلَى الأدنَى، وتَعريجِ أدنَى المَرتَبَةِ إلَى الأعلَى، واختيارِ قَولِ أدناهم عَلَى أعلاهم عِندَ تَعارُضِ أقوالِهم وإفاداتِهم. ومنها: الِاطِّلاعُ عَلَى مَواليدِهم وأعصارِهم ووفيَاتِهم وأزمانِهم، فيَحصُلُ الأمنُ مِن جَعلِ القَديمِ حَديثًا، والحَديثِ قَديمًا، والمُتَقَدِّمِ مُتَأخِّرًا، والمُتَأخِّرِ مُتَقَدِّمًا. ومنها: الاطِّلاعُ عَلَى آثارِهم وحِكاياتِهم وفُيوضِهم وتَصنيفاتِهم، فيَتَحَرَّكُ عِرقُ الشَّوقِ إلَى الِاهتِداءِ بِهَدْيِهم، والِاقتِداءِ بسِيَرِهم) [1] يُنظر: ((الفوائد البهية في تراجم الحنفية)) للكنوي (ص: 2). .
ولَمَّا كانَ أهلُ العَرَبيَّةِ من أعلَى النَّاسِ شَأنًا، وأرفَعِهم شَأوًا، وأرقاهم بَيانًا، وأعلَمِهم لِما في كِتابِ اللهِ من غَيرِهم؛ اقتَضَى الأمرُ أن تَبقَى في الأنامِ آثارُهم، فاكتَظَّتْ كُتُبُ السِّيَرِ بِتَراجِمِهم وذِكرِ مَناقِبِهم، وطَلَبِهمُ العِلمَ وانتِفاعِهم بِه، وحِرصِهم عَلَى الطَّلَبِ مَعَ ضَربِ أكبادِ الإبلِ وإنهاكِ الجَسَدِ وإتعابِ المُقَلِ؛ ليَتَرَحَّمَ عَلَيهم من تَتَلْمَذَ عَلَى أيديهم من قارِئٍ لِكِتابٍ، أو مُتَّبِعٍ لِمَذهَبٍ، أو مُنتَفِعٍ بِخَبرٍ منهم، ولتَنبَعِثَ الهِمَمُ في النُّفوسِ فتَقوى عَلَى دَرْبِها، وتَتَصَبَّرُ بِما تُلاقي بِقِراءَةِ أخبارِها، ولِتَعلَمَ أنَّ العِلمَ صَعبُ الْمِراسِ، لَه منَ الأَنَفةِ والكِبرِ ما لا يَخضَعُ مَعَ مُتَعالِمٍ أو كَسولٍ، بَل لا يُعطيكَ بَعضُه حَتَّى تُعطيَه كُلَّكَ.
وقَد وعَى ذَلِكَ أئِمَّةُ التَّراجِمِ فأثبَتوا في أسفارِهم تَراجِمَ أئِمَّةِ النَّحوِ واللُّغَةِ، كَما اعتَنَوا بِأئِمَّةِ الحَديثِ والفِقهِ، بَل خَصَّصَ بَعضُهم منَ التَّصانيفِ لِتَراجِمِ أئِمَّةِ اللُّغَةِ وحدَهم، وفي ذَلِكَ بَيانٌ لِفضلِهم، واعتِرافٌ بِجَميلِهم، وفيما يَأتي تَراجِمُ لِأشهَرِ النَّحويِّينَ واللُّغَويينَ عَلَى مَرِّ العُصورِ، وبَيانٌ لِبَعضِ جُهودِهم في خِدمَةِ العَرَبيَّةِ لُغَةِ القُرآنِ الكَريمِ.
المَنهَجُ المُتَّبَعُ في التَّراجِمِ ومَعاييرُ انتِقاءِ الأعلامِ:
يَتَلَخَّصُ المَنهَجُ الَّذي اختَرْناه في صُنعِ هَذِه التَّراجِمِ، في النِّقاطِ الآتيَةِ:
- انتِقاءُ أشهَرِ أعلامِ النَّحوِ واللُّغَةِ عَلَى مَرِّ العُصورِ مِمَّن عُرِفَ بِكَثرَةِ الذِّكرِ منَ الأعلامِ في الكُتُبِ اللُّغَويَّةِ والنَّحْويَّةِ خاصَّةً، وكُتُبِ الفُنونِ الأخرَى عامَّةً؛ فحَرَصنا عَلَى ذِكرِ الأعلامِ الَّذينَ راجَت أسماؤُهم في كُتُبِ أهلِ العَرَبيَّةِ، مَعَ المَذكورِ أيضًا في كُتُبِ التَّراجِمِ من أنَّه منَ العُلَماءِ بِالنَّحوِ والعَرَبيَّةِ، وبخاصَّةٍ إذا كانت له مُؤلفات في اللُّغة.
- التَّرجَمَةُ المُختَصَرَةُ لِلعَلَمِ، بِذِكرِ اسمِه ونَسَبِه، ومَولِدِه، وأهَمِّ صِفاتِه، وأبرَزِ شُيوخِه وتَلاميذِه، وأهَمِّ مُصَنَّفاتِه وآثارِه.
- تَرْكُ ذِكرِ ما يُروى في ذَمِّ بَعضِ الأعلامِ مِمَّا ليس له أثَرٌ في عِلمِه لِعَدَمِ الفائِدَةِ، وتَجَنُّبًا لِلإطالَةِ، وإنَّما ذَكَرنا الَّذي له أثَرٌ في عِلمِه، كَضَعفِ أبي عُبَيدةَ في النَّحوِ مَثَلًا.
- ذِكْرُ ما يَتَعَلَّقُ بِعَقيدَةِ العَلَمِ إن وُجِدَ في كُتُبِ التَّراجِمِ واشتَهرَ عنه الِانتِسابُ إلَى مَذهَبٍ مُعَيَّنٍ، أو كانَ مَتَّهَمًا بِشَيءٍ لَم يَثبُت عَنه.
- التَّعليقُ عَلَى ما ظاهِرُه طَعنٌ في الصِّناعةِ العَربيَّةِ والتَّنبيهُ عَلَى خَطئِه، كَما في تَرجَمةِ ابنِ مضاءٍ، وكَذا ما رُوِيَ في طَعنِ بَعضِ المُتَرْجَمِ لَهم.
- عِندَ ذِكرِ شُيوخِ العَلَمِ، رُوعِيَ الأكثَرُ شُهرَةً وتَأثيرًا في العَلَمِ المُتَرجَمِ لَه، وكَذَلِكَ تَلاميذُه.
- تَرتيبُ الأعلامِ المُتَرجَمِ لها حَسَبَ تاريخِ الوَفيَاتِ.
- ذِكْرُ مَراجِعِ التَّرجَمَةِ مَجموعَةً في آخر كُلِّ تَرجَمَةٍ.

انظر أيضا: