موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّالِثُ: أقسامُ السَّجْعِ


ينقَسِمُ السَّجْعُ مِن حَيثُ طُولُ فِقراتِه وقِصَرُها إلى نَوعَينِ:
- السَّجْعُ القَصيرُ: وهو أن تكونَ كُلُّ فِقْرةٍ مِن فِقْراتِ السَّجْعِ مُؤَلَّفةً مِن كَلِماتٍ قَليلةٍ، وكُلَّما قلَّتِ الألفاظُ كان ذلك أحسَنَ؛ لقُربِ الفواصِلِ المسجوعةِ مِن سَمعِ السَّامِعِ. وهذا النَّوعُ أصعَبُ مِن أخيه؛ لأنَّه أوعَرُ مَسلَكًا؛ إذ يَعِزُّ على المُتكَلِّمِ أن يجِدَ في قِلَّةِ ألفاظِه تمامَ المعنى وتحقُّقَ السَّجْعِ في تلك الكَلِماتِ، بخِلافِ السَّجْعِ الطَّويلِ؛ حَيثُ يتحقَّقُ له ذلك بسُهولةٍ دونَ تكَلُّفٍ أو عَناءٍ.
ومِثالُ ذلك قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 1-5] ، وقَولُه تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 1-4] ، وقد يَزيدُ عَدَدُ كَلِماتِ فِقْراتِه أحيانًا إلَّا أنَّها لا تَبلُغُ عَشْرَ كَلِماتٍ في الفِقْرةِ الواحِدةِ، كقَولِه تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ [القمر: 1-4].
- السَّجْعُ الطَّويلُ: وهو ما زادت كَلِماتُ كُلِّ فِقْرةٍ فيه على عَشْرِ كَلِماتٍ، مِثلُ قَولِه تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: 9، 10]، وقَولِه تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التَّوبة: 128، 129].
وقد تَزيدُ كَلِماتُ تلك الفِقْراتِ إلى عَدَدٍ كَبيرٍ، غَيرَ أنَّ أقصى ما ورد مِنَ السَّجْعِ في القُرآنِ عِشرونَ كَلِمةً، كقَولِه تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الأنفال: 43، 44] [124] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 235)، ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (2/ 308). .
مَراتِبُ السَّجْعِ بحَسَبِ اختِلافِ الفِقْراتِ في الطُّولِ:
يَنقَسِمُ السَّجْعُ بحَسَبِ اختِلافِ فِقْراتِه إلى:
- سَجعٍ مُتساوي الفِقْراتِ: تتساوى فيه الفِقْراتُ في الطُّولِ، لا تَزيدُ إحَداهما على الأخْرى. وهو أفضَلُ أنواعِ السَّجْعِ للاعتِدالِ الَّذي فيه. وأمْثالُ ذلك في القُرآنِ كَثيرةٌ، مِثلُ قَولِه تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى: 7-10]؛ فالآيتانِ الأُولَيانِ كُلُّ واحِدةٍ منهما تشتَمِلُ على ثلاثِ كَلِماتٍ ولها سَجعٌ واحِدٌ، والآيتانِ الأُخْرَيانِ كُلُّ واحِدةٍ فيهما من أربَعِ كَلِماتٍ، ولها سَجعٌ واحِدٌ أيضًا. وقَولِه تعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا [العاديات: 1-5] .
- سَجْعٍ فِقْرتُه الثَّانيةُ أطوَلُ مِنَ الأُولى قَليلًا: فإنَّه لو طالت جِدًّا لخرج ذلك عن السَّجْعِ الحَسَنِ، ولكان مُستَكرَهًا وعَيبًا. ومِن أمثِلةِ ما جاءت الفِقْرةُ الثَّانيةُ أطوَلَ بقَليلٍ مِنَ الأُولى قَولُه تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان: 11-13] ؛ فالآيةُ الأُولى جاءت في ثماني كَلِماتٍ، في حينِ جاءت الثَّانيةُ والثَّالِثةُ على تِسْعِ كَلِماتٍ في كُلِّ واحِدةٍ.
وإذا كان الكَلامُ مُكَوَّنًا من ثَلاثِ فِقْراتٍ، فإنَّ الأُولى والثَّانيةَ تُعتَبَرانِ فِقْرةً واحِدةً؛ ففي قَولِه تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم: 88-90] ، تُجعَلُ الآيةُ الأُولى والثَّانيةُ بمَثابةِ فِقْرةٍ واحِدةٍ، فيَكونُ مَجموعُهما ثمانيَ كَلِماتٍ، والآيةُ الثَّالِثةُ فِقْرةٌ أخرى ومجموعُها تِسْعُ كَلِماتٍ.
- سَجْعٍ فِقْرَتُه الأُولى أطوَلُ مِنَ الثَّانيةِ: وهذا مختَلَفٌ في حُسْنِه وقُبْحِه؛ حَيثُ ذهب أكثَرُ العُلَماءِ إلى قُبحِه، وسَبَبُ ذلك أنَّ السَّجْعَ يكونُ قد استوفى أمَدَه مِنَ الفَصْلِ الأوَّلِ بحُكمِ طُولِه، ثُمَّ يجيءُ الفَصْلُ الثَّاني قَصيرًا عن الأوَّلِ، فيكونُ كالشَّيءِ المبتورِ، فيَبقى الإنسانُ عِنْدَ سَماعِه كمَن يُريدُ الانتِهاءَ إلى غايةٍ فيَعثُرُ دونَها. وذهب أبو هِلالٍ العَسْكَريُّ إلى تحسينِه، بدعوى أنَّه وقع في القُرآنِ الكريمِ منه، كقَولِه تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الأنفال: 43-44] ؛ فالآيةُ الأُولى عِشْرونَ كَلِمةً، والثَّانيةُ تِسْعَ عَشْرةَ كَلِمةً، كما أنَّه وقع في الحديثِ الشَّريفِ منه شيءٌ كثيرٌ، كقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للأنصارِ: ((إنَّكم لَتَكْثُرونَ عِنْدَ الفَزَع، وتَقِلُّون عِنْدَ الطَّمَع)) [125] أخرجه العسكري في ((الأمثال)) كما في ((كنز العمال)) للمتقي الهندي (14/66) ، وغَيرِه مِنَ الأحاديثِ الشَّريفةِ [126] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 233). ويُنظَر: أنواعُ السَّجْعِ الأخرى في مَبحَثِ السَّجْع، مِن عِلمِ البلاغةِ في هذه الموسوعةِ. .

انظر أيضا: