موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الأوَّلُ: تعريفُ السَّجْعِ وأهمِّيَّتُه


إنَّ ممَّا ينبغي على من يَرومُ الكِتابةَ الأدَبِيَّةَ أن يُحسِنَ مَعرِفةَ السَّجْعِ، وطُرُقَ اسْتِخْدامِه، وأحسَنَ الأسجاعِ فيَستخدِمَها، ويجتَنِبَ ما توافَقَ الأُدَباءُ على استِهجانِه وتَرْكِه.
والسَّجْعُ: هو "تواطُؤُ الفواصِلِ مِنَ الكَلامِ المنثورِ على وَزنٍ واحِدٍ"، والعِبرةُ في السَّجْعِ على الإسكانِ؛ فإنَّ مَوضوعَ حُكمِ السَّجْعِ أن تكونَ كَلِماتُ الأسجاعِ ساكِنةَ الأعجازِ؛ ففي قَولِك: "ما أبعَدَ ما فاتْ، وما أقرَبَ ما هو آتْ" لا يتحقَّقُ السَّجْعُ بالوَصْلِ لاختِلافِ الحرَكاتِ في نهايةِ كَلِمَتَيِ الفاصِلةِ، وإنَّما يتحَقَّقُ ذلك بالوَقْفِ على كُلِّ فاصِلةٍ وتَسكينِها.
والسَّجْعُ لا يمكِنُ أن يَسْتَغنيَ الكاتِبُ عنه؛ قال أبو هِلالٍ العَسكَريُّ: (لا يَحسُنُ مَنثورُ الكَلامِ ولا يحلو حتَّى يكونَ مُزدَوِجًا، ولا تكادُ تَجِدُ لبَليغٍ كَلامًا يخلو مِنَ الازدواجِ، ولو استغنى كَلامٌ عنِ الازدواجِ لكان القُرآنُ؛ لأنَّه في نَظْمِه خارِجٌ من كَلامِ الخَلْقِ، وقد كَثُر الازدواجُ فيه حتَّى حصل في أوساطِ الآياتِ فَضْلًا عمَّا تزاوجَ في الفواصِلِ منه، كقَولِ اللهِ تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] ، وقَولِه تعالى: أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [الأعراف: 100] ، وقَولِه تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة: 267] ، وقَولِه تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] .. إلى غَيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.
وأمَّا ما زُوُوِجَ بَيْنَه بالفواصِلِ فهو كثيرٌ؛ مِثْلُ قَولِه تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح: 7، 8]، وقَولِه سُبحانَه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى: 9، 10]، وقَولِه تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 1، 2]، وقَولِه تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم: 43، 44]) [114] يُنظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 260). .
وهذا في القُرآنِ كَثيرٌ جِدًّا؛ فإنَّك لا تجِدُ سُورةً قد خَلَت فواصِلُها مِنَ السَّجْعِ، بل قد تأتي السُّورةُ بكامِلِها على حَرفٍ واحِدٍ مِنَ السَّجْعِ، مِثْلُ: القَمَرِ، والرَّحْمَنِ، وغَيرِهما.
وكثيرٌ من أحاديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كذلك، كقَولِه: ((يا أيُّها النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلام، وأطْعِموا الطَّعام، وصِلُوا الأرْحام، وصَلُّوا باللَّيْلِ والنَّاسُ نِيام؛ تَدْخُلوا الجنَّةَ بسَلام )) [115] أخرجه الترمذي (2485)، وابن ماجه (3251) واللفظ له من حديث عبدالله بن سلام رضي الله عنه .
ولو لم يَكُنْ للسَّجْعِ دَورٌ في الكَلامِ لَمَّا غيَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعْضَ الكَلِماتِ لتتوافَقَ مع سائِرِ أخواتِها في السَّجْعِ، كقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أعوذُ بكَلِماتِ اللَّهِ التَّامَّة، مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ وهَامَّة، ومِنْ كُلِّ عَينٍ لامَّة )) [116] أخرجه البخاري (3371) ؛ فإنَّه أراد: المُلِمَّة؛ لأنَّها مِنَ الفِعْلِ: "ألَمَّ"، لكِنَّه عَدَل إلى "لامَّة"؛ لِمُناسَبةِ: "التَّامَّة، هامَّة". وهذا دليلٌ على أفضَلِيَّةِ السَّجْعِ وأهمِّيَّتِه.
وأمَّا ما ورد في ذَمِّ السَّجْعِ، كقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أسَجْعٌ كَسَجْعِ الأعْرابِ؟!)) [117] أخرجه مسلم (1682) من حديث المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وفي حديثِ أبي هُرَيرةَ: ((إنَّما هذا مِنْ إخْوانِ الكُهَّانِ )) [118] أخرجه البخاري (5758)، ومسلم (1681) ؛ فليس فيه ذمٌّ للسَّجْعِ، وإنَّما استِقباحٌ لِما أتى به المُتكَلِّمُ؛ حَيثُ تكَلَّف التَّسجيعَ والإتيانَ به على غَيرِ الطَّبعِ والسَّليقةِ، وإنَّما يُعابُ السَّجعُ إذا احتاج متكَلِّفُه إلى تنقيصِ المعنى أو زيادتِه، فالَّذي فاته مِنَ المعنى يَقبُحُ، وتَرْكُ السَّجْعِ لا يَقبُحُ، فيكونُ حينَئِذٍ السَّجعُ قَبيحًا لاستلزامِ القُبْحِ، وهو ما قال فيه الإمامُ عَبدُ القاهِرِ الجُرْجانيُّ: (ولن تجِدَ أيمَنَ طائرًا، وأحسَنَ أوَّلًا وآخِرًا، وأهدى إلى الإحسانِ، وأجلَبَ للاستِحْسانِ؛ مِن أن تُرسِلَ المعانيَ على سَجِيَّتِها، وتَدَعَها تَطلُبُ لأنفُسِها الألفاظَ؛ فإنَّها إذا تُرِكَت وما تُريدُ لم تَكْتَسِ إلَّا ما يَليقُ بها، ولم تَلْبَسْ مِنَ المَعارِضِ إلَّا ما يَزِينُها، فأمَّا أن تَضَعَ في نفْسِك أنَّه لا بُدَّ مِن أن تجَنِّسَ أو تَسجَعَ بلَفظَينِ مخصوصَينِ، فهو الَّذي أنت منه بعَرَضِ الاستِكْراهِ، وعلى خَطَرٍ مِنَ الخطَأِ والوُقوعِ في الذَّمِّ) [119] يُنظر: ((أسرار البلاغة)) لعبد القاهر الجرجاني (ص: 14). .
والحديثُ الَّذي فيه إنكارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السَّجْعَ: ما رواه أبو هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى في امْرَأتَينِ مِن هُذَيلٍ اقْتَتَلَتا، فرَمَتْ إحداهما الأُخْرى بحَجَرٍ، فأصابَ بَطْنَها وهي حامِلٌ، فقَتَلَتْ وَلَدَها الَّذي في بَطْنِها، فاخْتَصَموا إلى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقَضَى أنَّ دِيَةَ ما في بَطْنِها غُرَّةٌ؛ عبْدٌ أو أَمَةٌ، فقال وَلِيُّ المَرْأةِ الَّتي غَرِمَتْ: كيْفَ أغْرَمُ -يا رَسولَ اللهِ- مَن لا شَرِبَ وَلا أكَلْ، وَلا نَطَقَ وَلا اسْتَهَلْ، فمِثْلُ ذلكَ يُطَلْ! فقال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّما هذا مِن إخوانِ الكُهَّانِ » [120] أخرجه البخاري (5758) واللفظ له، ومسلم (1681) .
وما رواه المُغيرةُ بنُ شُعْبةَ، قال: ضرَبَتِ امرأةٌ ضَرَّتَها بعَمودِ فُسطاطٍ وهي حُبْلى، فقتَلَتْها، قال: وإحداهما لِحْيانيَّةٌ، قال: فجعل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دِيَةَ المقتولةِ على عَصَبةِ القاتِلةِ، وغُرَّةً لِما في بَطْنِها، فقال رجُلٌ مِن عَصَبةِ القاتِلةِ: أنغْرَمُ دِيةَ مَن لا أكَل ولا شَرِبَ ولا استهَلَّ؟ فمِثْلُ ذلك يُطَلُّ! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أسَجْعٌ كسَجْعِ الأعرابِ؟!» قال: وجَعَل عليهم الدِّيَةَ [121] أخرجه مسلم (1682) .
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما عاب عليه ذلك لِما في كَلامِه مِن تكلُّفٍ في الألفاظِ لمُراعاةِ السَّجْعِ على حِسابِ المعنى، فَضْلًا عن ردِّه لقَضاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكَلامِه، وإلَّا فلو كان السَّجْعُ باطلًا في نَفْسِه لَمَا قال: "أسَجْعًا كسَجْعِ الأعرابِ؟"، بل لقال: "أسَجْعًا؟!"، فقَيَّده بكَونِه مِثْلَ سَجعِ الأعرابِ [122] يُنظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 260)، ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (2/ 302). .

انظر أيضا: