موسوعة اللغة العربية

المبحثُ السَّادِسَ عَشَرَ: أمثلةٌ تطبيقيةٌ


1- قال المنفلوطيُّ: "كَذِبُ اللِّسانِ مِن فُضولِ كَذِبِ القَلبِ؛ فلا تأمَنِ الكاذِبَ على وُدٍّ، ولا تَثِقْ منه بعهْدٍ، واهرُبْ من وَجْهِه الهرَبَ كُلَّه، وأخوَفُ ما أخاف عليك مِن خُلطائِك وسُجَرائِك [106] السَّجِيرُ: الخليلُ الصَّفِيُّ. ج: سُجَراءُ. يُنظَر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص 404). الرَّجُلُ الكاذِبُ.
عرَّف الحُكماءُ الكَذِبَ بأنَّه مخالفةُ الكلامِ للواقِعِ، ولعَلَّهم جارَوْا في هذا التعريفِ الحقيقةَ العُرفيةَ، ولو شاؤوا لأضافوا إلى كَذِبِ الأقوالِ كَذِبَ الأفعالِ.
لا فرْقَ بين كَذِبِ الأقوالِ وكَذِبِ الأفعالِ في تضليلِ العُقولِ، والعَبثِ بالأهواءِ، وخِذلانِ الحَقِّ، واستعلاءِ الباطِلِ عليه، ولا فرْقَ بين أن يكذِبَ الرَّجُلُ فيقولَ: (إني ثقةٌ أمينٌ، لا أخونُ ولا أغدِرُ؛ فأقرِضْني مالًا أؤدِّه إليك)، ثمَّ لا يؤدِّيه بعد ذلك، وأن يأتيَك بسُبحةٍ يُهَمْهِمُ بها، فتَنطِقُ سُبْحتُه بما سكت عنه لسانُه من دعوى الأمانةِ والوفاءِ، فيَخدَعُك في الثَّانية كما خدعك في الأولى! لا، بل يستطيعُ كاذِبُ الأفعالِ أن يخدَعَك ألفَ مَرَّةٍ قبل أن يخدَعَك كاذِبُ الأقوالِ مرَّةً واحدةً؛ لأنه لا يكتفي بقولِ الزُّورِ بلسانِه حتى يقيمَ على قضيَّتِه بينةً كاذبةً من أحوالِه وأطوارِه.
ليس الكَذِبُ شيئًا يُستهانُ به؛ فهو أُسُّ الشُّرورِ ورَذيلةُ الرَّذائِلِ، فكأنَّه أصلٌ، والرَّذائِلُ فروعٌ له، بل هو الرذائِلُ نَفْسُها، وإنَّما يأتي في أشكالٍ مختلفةٍ، ويتمثَّلُ في صُوَرٍ مُتَنَوِّعةٍ.
المنافِقُ كاذِبٌ؛ لأنَّ لسانَه ينطِقُ بغيرِ ما في قَلْبِه، والمتكبِّرُ كاذِبٌ؛ لأنَّه يدَّعي لنَفْسِه منزلةً غيرَ منزلتِه، والفاسِقُ كاذِبٌ؛ لأنَّه كَذَب في دعوى الإيمانِ، ونَقَض ما عاهد اللهَ عليه، والنَّمَّامُ كاذِبٌ؛ لأنَّه لم يتَّقِ اللهَ في فِتنتِه، فيتحرَّى الصِّدقَ في نَميمتِه، والمتملِّقُ كاذِبٌ؛ لأنَّ ظاهِرَه ينفَعُك، وباطنَه يَلذَعُك.
لقد هان على النَّاسِ أمرُ الكَذِبِ، حتى إنَّك لَتَجِدُ الرَّجُلَ الصَّادِقَ، فتَعرِضُ على النَّاسِ أمْرَه وتُطرِفُهم [107] أَطْرَفَ الرَّجُلُ: جاء بِطُرْفةٍ. وهي ما يُستمْلَحُ ويُستظْرَفُ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (4/ 1394)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 371). بحديثِه، كأنَّك تَعرِضُ عجائبَ المخلوقاتِ، وتتحَدَّثَ بخوارقِ العاداتِ!
فويلٌ للرَّجُلِ الصَّادِقِ من حياةٍ نَكِدةٍ لا يجِدُ فيها حقيقةً مُستقيمةً، وويلٌ له من صديقٍ يخونُ العَهْدَ، ورفيقٍ يَكذِبُ الوُدَّ، ومستشارٍ غيرِ أمينٍ، وجاهلٍ يُفشِي السِّرَّ، وعالمٍ يحرِّف الكَلِمَ عن مواضِعِه، وشيخٍ يدَّعي الوَلايةَ كذبًا، وتاجرٍ يغُشُّ في سِلعتِه، ويحنَثُ في أيمانِه، وصُحُفيٍّ يتَّجِرُ بعُقولِ الأحرارِ كما يتَّجِرُ النُّخَّاسُ بالعبيدِ والإماءِ، ويَكذِبُ على نَفْسِه، وعلى اللهِ، وعلى النَّاسِ في كُلِّ صباحٍ ومساءٍ!" [108] ((النظرات)) للمنفلوطي (ص: 165 - 166). .
2- اشترى رجلٌ مِن رجُل عَقَارًا له، فوجَد الرَّجُلُ الذي اشترى العَقَارَ في عَقَارِه جَرَّةً فيها ذَهَبٌ، فقال له الذي اشْتَرى العَقَارَ: خُذْ ذهَبَك مني؛ إنَّما اشتريتُ منك الأرضَ، ولم أبْتَعْ منك الذَّهَبَ! وقال الَّذي له الأرضُ: إنَّما بِعتُك الأرضَ وما فيها! فتَحاكما إلى رجُلٍ، فقال الذي تَحاكَما إليه: ألَكُما وَلَدٌ؟ قال أحدُهما: لي غلامٌ، وقال الآخَرُ: لي جاريةٌ، قال: أنْكِحوا الغُلامَ الجاريةَ، وأنْفِقوا على أنفُسِهما منه، وتَصدَّقا [109] أخرجه البخاري (3472) واللفظ له، ومسلم (1721) من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. .
3- قال القلقشندي في ((صُبْح الأعشى)): (النوعُ السَّادِسُ: حِفظُ كتاب العزيز. وفيه مَقصَدانِ!
المقصَدُ الأوَّلُ: في بيانِ احتياجِ الكاتِبِ إلى ذلك في كِتابتِه!
قال في ((حُسنِ التوسُّل)): «ولا بُد للكاتِبِ من حِفظِ كِتابِ اللهِ تعالى، وإدامةِ قِراءتِه، وملازَمةِ دَرْسِه، وتدبُّرِ مَعانيه، حتى لا يزالَ مُصوَّرًا في فِكرِه، دائرًا على لسانِه، مُمثَّلًا في قَلْبِه؛ ليكونَ ذاكرًا له في كلامِه وكلِّ ما يَرِد عليه من الوقائِعِ التي يَحتاجُ إلى الاستشهادِ به فيها، ويَفتقِرُ إلى قيامِ قواطِعِ الأدِلَّةِ عليها؛ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام: 149] ، وكفى بذلك مُعينًا له على قصْدِه ومُغْنيًا له عن غيرِه؛ قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ، وقال جَلَّ وعَزَّ: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ... وقد أُخرِجَ من الكتابِ العزيزِ شواهِدُ لكُلِّ ما يدورُ بين النَّاسِ في حواراتهم ومخاطباتهم، مع قُصورِ كُلِّ لفظٍ ومعنًى عنه، وعجْزِ الإنسِ والجِنِّ عن الإتيانِ بسُورةٍ مِن مِثْلِه، كما حُكِيَ أنَّ سائلًا سأل بعضَ العُلَماءِ: أين تجِدُ في كتابِ اللهِ معنى قولهم: "الجارُ قبل الدَّارِ"؟ قال: في قَولِه تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم: 11] ؛ فطَلَبَت الجارَ قبلَ الدَّارِ، ونظائِرُ ذلك كثيرةٌ») [110] ((صبح الأعشى)) للقلقشندي (1/ 228 - 229). .

انظر أيضا: