المَبحَثُ الثَّالثُ: اللهجة التميمية وأهميتها
ليست الفُصحى هي اللَّهجةَ القُرَشيَّةَ وحدَها، بَل هيَ مَجموعة اللَّهَجاتِ التي اتَّحدَت وكوَّنَت لَنا اللُّغةَ المُشتَرَكةَ (الفُصحى)، ومن بَينِ اللَّهَجاتِ اللَّهجةُ التَّميميَّةُ التي تفرَّدَت بخَصائِصِها اللُّغَويَّةِ، كالهمزِ والإبدالِ والإدغامِ، فتَحقيقُ الهمزِ مَثَلًا نَجِدُه في الفُصحى، رغم ذلك، نهلَت الفُصحى منَ التَّميميَّةِ كثيرًا منَ الأساليبِ والتَّعبيراتِ، كصيغَتَي: نِعْمَ وبِئْسَ؛ بكَسرِ الفاءِ وإسكانِ العَينِ؛ فالأوَّلُ فِعلٌ للمَدْحِ، والثَّاني للذَّمِّ، وسَنسوق أمثِلة على هذا النحو.
وقال
سِيبَوَيه مُبيِّنًا فَضلَ لُغةِ تَميمٍ على العَرَبِ: (كأنَّ عامَّةَ العَربِ اتَّفَقوا على لُغةِ تَميمٍ)
، وهذا دَليلٌ قاطِعٌ على الصِّلةِ الوطيدة بَينَ اللَّهجةِ التَّميميَّةِ والفُصحى.
وفي البابِ الذي وضعه
ابنُ جِنِّي في (خَصائِصِهـ) لتَعارُضِ السَّماعِ والقياسِ، يُقِرُّ بأنَّ التَّميميَّةَ تراعِي القياس أكثر منَ القُرَشيَّةِ، ويُوضح الفَرقَ بَينَ الأقوى قياسًا والأكثَر استِعمالًا، فيَقولُ: (وإنْ شَذَّ الشَّيءُ في الاستِعمالِ وقَوِيَ في القياسِ كان استِعمالُ ما كَثُرَ استِعمالُه أَولى... فمَتى رابَكَ في الحِجازيَّةِ رَيبٌ من تَقديمِ خَبرٍ، أو نَقضِ النَّفْيِ، فَزِعْتَ إذ ذاكَ إلى التَّميميَّةِ، فكَأنَّكَ منَ الحِجازيَّةِ على حَرْدٍ
، وإنْ كَثُرَت في النَّظْمِ والنَّثْرِ)
.
وقد أورد
ابنُ جِنِّي (ما) التَّميميَّةِ وأنها أقوى قياسًا منَ الحِجازيَّةِ، والمعروف أنَّ النّحويّين يَقسِمونَ ما "النَّافيةَ" إلى حِجازيَّةٍ وتَميميَّةٍ، فالخَبَرُ مَنصوبٌ في الحِجازيَّةِ، ومرفوعٌ في التَّميميَّةِ، والقُرآنُ في قَولِه:
مَا هَذَا بَشَرًا [يوسف: 31] جاء على لهجةِ الحِجازِ
.
ويتضح من كُلِّ ما جاء في مُؤَلَّفاتِ القُدامى أنَّ لهجةَ الحِجازِ تُقابِلُ لَهْجةَ تَميمٍ، وإن كانت كلتاهما تَقَعُ في الإطارِ العامِّ لخَصائِصِ الفُصحى
.
وأقدَمُ مَن أدرك هذا التَّقابُلَ بَينَ اللَّهجَتَينِ هو
سِيبَوَيه؛ حيث أورَد الكثير منَ الحالاتِ الإعرابيَّةِ في اللَّهجَتَينِ
.
وأفردَ
السُّيوطيُّ فَصْلًا في كِتابِه باسم: (ذِكْرُ ألفاظٍ اختَلَفَ فيها لُغةُ الحِجازِ ولُغةُ تَميمٍ).
ومن ذلك:
أهلُ الحِجازِ (يَبطِشُ)، وتَميمٌ (يَبطُشُ).
تَمِيمٌ (هَيْهات)، وأهلُ الحِجازِ (أَيْهات).
أهلُ الحِجازِ (تَخِذْتَ ووَخَذْتَ)، وتَميمٌ (اتَّخَذْتَ)
.
وهذا التَّقابُلُ بَينَ اللَّهجَتَينِ يرجع إلى تباين البيئةِ؛ نَشَأت لَهْجةُ تَميمٍ في الباديةِ، ونشأت الحِجازُ في الحاضِرةِ.
وتجتمع مَواطِنُ الخِلافِ بَينَ اللهجتين في قَواعِدِ البِنْيةِ والأصَواتِ والدَّلالاتِ، وسَنُشيرُ إلى بَعضِها:
1- حَرَكةُ أحرُفِ المُضارَعةِ:لا يَكسِر أهلُ الحِجازِ حَرفَ المُضارَعةِ، فيَقولونَ: (تَعْلَمُ) بفَتحِ التاء، وتَميمٌ تَكسِرُ، فتَقولُ: (تِعْلَمُ)، وتُسمَّى هذه الظاهرة (التلتلة)، وتُنسب إلى قبيلة بهراء.
2- (ما): يُعمِلُ أهلُ الحِجازِ (ما) عَمَلَ (ليس)؛ لذا سُمِّيَت (ما الحِجازيَّةَ) فيَقولونَ: ما زيدٌ مُنطَلِقًا.
وتَميمٌ لا تُعمِلُها، فتَقولُ: ما زيدٌ مُنطَلِقٌ.
3- خَبَر (ليس) إذا اقتَرنَ بـ(إلَّا):ينصِب أهلُ الحِجازِ الخَبَرَ في قَولِه: (ليس الطِّيبُ إلَّا المِسْكَ).
وتَرفعُ تَميمٌ هذا الخَبَرَ حَملًا لـ(ليس) على (ما) النَّافيةِ فتَقولُ: (ليس الطِّيبُ إلَّا المِسْكُ).
4- الإدغامُ:يفكُّ أهلُ الحِجازِ إدغامَ الفِعل الثُّلاثيِّ في حالاتِ الأمرِ والجَزمِ والوَقفِ، يَقولونَ: اردُدْ ولْيَردُدْ، واغْضُضْ طَرْفَك، واشدُدْ على الأعداءِ.
وتُدغِمُ تميمٌ في هذه الحالاتِ كلّها، تقولُ: رُدَّ، ولم يَرُدَّ، وغُضَّ، وشُدَّ.
5- اسمُ المفعولِ من الأجوَفِ:يقول أهلُ الحِجازِ: مَبِيعٌ، ومَعِيبٌ، ومَخِيطٌ، ومَكِيلٌ، فهم يُعِلُّون بالحَذفِ.
وتقولُ تميمٌ: مَبْيوعٌ، ومَعْيوبٌ، ومَخْيوطٌ، ومَكْيولٌ، فهم يُتِمُّون مفعولًا من الياءِ.
6- صيغةُ فَعالِ عَلَمًا لمؤنَّثٍ:يُبنَى هذا الاسمَ على الكَسْرِ مُطلقًا عند أهلِ الحِجازِ، ويقولون: هذه حَذامِ، ورأيتُ حَذامِ، ومررتُ بحَذامِ.
ويُعرِبونَه بعضُ التَّميميِّينَ إعرابَ ما لا يَنصَرِفُ في الحالاتِ جميعها إلَّا إذا خُتِمَ بالرَّاءِ فإنَّهم يَبنونَه على الكَسرِ، كحَضارِ وجَعارِ، يَقولونَ: هذه حَذامُ؛ لأنَّها مَعدولةٌ عن (حاذِمةٍ).
7- الهمزُ والتَّسهيلُ:يُسهِّل أهلُ الحِجازِ الهمزةَ ولا يَنبرُونَها، فيَقولونَ: تَوضَّيتُ، وراسٌ، وفاسٌ، دون همزٍ.
وتَنبرُ تَميمٌ الهَمزةَ، أي: تُحَقِّقُها وتَلتَزِمُ النُّطقَ بها، تَقولُ: رَأْس، وفَأْس، بالهمز.
8- عُكاظٌ بين الصَّرْفِ والمنْعِ:صرَف أهل الحجاز عُكاظًا، وقالوا: زُرْتُ عُكاظًا، هذه عُكاظٌ، ومرَرْتُ بعُكاظٍ، بالتنوينِ فيها جميعًا.
ومنعوها تميمٌ من الصَّرْفِ؛ قالوا: رأيتُ عُكاظَ، وهذه عُكاظُ، ومررتُ بعُكاظَ، دونِ تنوينٍ في جميعِها.
9- مبْرورًا مأجورًا:يقول أهلُ الحِجازِ: مبْرورًا مأجورًا، فيَنصِبون على: اذهَبْ مبْرورًا مأجورًا.
وتقولُ تميمٌ: مبرورٌ مأجورٌ، فتَرفَعُ على إضمارِ (أنت).
10- جمعُ فُعْلةٍ على فُعُلاتٍ:يَضُمُّ الحجازيُّون العَيْنَ إِتْباعًا للفاءِ في جمعِ فُعْلةٍ، فيقولونَ: فُعُلات، مِثلُ: غُرْفة وغُرُفات، وخُطْوة وخُطُوات، وشُرْفة وشُرُفات.
وتُسَكِّنُ تميمٌ العينَ فتَقولُ: فُعْلات: غُرْفات، وخُطْوات، وشُرْفات
.
وممَّا ورد في القرآنِ الكريمِ بلَهجةِ تميمٍ
:
1-
أَأَنْذَرْتَهُمْ:
قَولُه تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6] ، قُرِئَت
أَأَنْذَرْتَهُمْ بهمزَتَينِ مُحَقَّقَتَينِ بَيْنَهما ألفٌ، وبِهمزَتَينِ مُحَقَّقَتَينِ دون ألفٍ بَيْنَهما، وهيَ لُغةُ تَميمٍ، وأن تَكونَ الأُولى قَويَّةً، والألِفُ بَيْنَهما، وتَخفيفُ الثَّانيةِ بَينَ بَينِ، وهيَ لُغةُ الحِجازِ
.
2-
فَاجْنَحْ:
قَولُه تعالى:
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لها [الأنفال: 61] ، قرأ الجُمهورُ
فَاجْنَحْ بفتح النونِ، وهي لغةُ تميمٍ، وقرأ الأشهَبُ العقيليُّ
فَاجْنُحْ بضَمِّ النونِ، وهي لغةُ قَيسٍ، قال
ابنُ جِنِّي: وهذه اللُّغةُ هيَ القياسُ
.
3-
أَصْلَابِكُمْ:
قَولُه تعالى:
وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ [النساء: 23] أصلاب: جمْعُ صُلْب، وهو الظَّهْرُ، سُمِّيَ بذلك لقوَّتِه، اشتقاقًا من الصَّلابةِ، وأفصَحُ لُغتَيه (صُلْب) بضَمِّ الفاءِ وسُكونِ العينِ، وهي لُغةُ الحِجازيين، ويقول بنو تميمٍ وأسَد: (صَلَبًا) بفَتْحِهما، نقل ذلك الفَرَّاءُ عنهم في كِتابِ
((لُغاتِ القُرآنِ))، ونَقله عنه السَّمينُ الحَلبيُّ في
((الدُّرِّ المصونِ)) وابنُ عادِل في
((اللُّبابِ))
.