الفرعُ الثاني: التبَرُّكُ البِدْعيُّ
تمهيدهو التبَرُّكُ بما لم يَرِدْ دليلٌ شَرعيٌّ على جوازِ التبَرُّكِ به، مُعتَقِدًا أنَّ اللهَ جَعَل فيه بركةً، أو التبَرُّكُ بالشَّيءِ في غيرِ مَوضِعِه المأذونِ به شرعًا، فهذا تَبَرُّكٌ محَرَّمٌ؛ لإحداثِه عبادةً لا دليلَ عليها، وهو من الشِّرْكِ الأصغَرِ؛ لأنَّه جَعَل ما ليس بسَبَبٍ سَببًا، كما أنَّه قد يؤدِّي إلى الوُقوعِ في الشِّرْكِ الأكبَرِ
.
المسألةُ الأولى: التبَرُّكُ البِدْعيُّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد وفاتِه
1- مِنَ التبَرُّكِ البِدْعِيِّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد وفاتِه: التبَرُّكُ بقَبْرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمومن أبرَزِ مَظاهِرِ التبَرُّكِ بقَبْرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يلي:
- طَلَبُ الدُّعاءِ أو الشَّفاعةِ مِنَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندَ قَبْرِه:إنَّ هذا العَمَلَ مِن أنواعِ
التَّوسُّلِ غيرِ المشروعِ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ
التَّوسُّلَ مَشروعٌ ونافِعٌ في حياتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقط، وبشفاعتِه يومَ القيامةِ.
قال
ابنُ تيميَّةَ مُبَيِّنًا حُكمَ الدُّعاءِ عند القَبرِ النَّبَويِّ: (لا يَقِفُ عند القَبرِ للدُّعاءِ لنَفْسِه؛ فإنَّ هذا بدعةٌ، ولم يكُنْ أحدٌ مِن الصَّحابةِ يَقِفُ عِندَه يدعو لنَفْسِه، ولكِنْ كانوا يَستَقبِلونَ القِبْلةَ، ويَدْعونَ في مَسجِدِهـ)
.
وقال
ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (ليس عندَهم عن نبيِّهم نَقلٌ بذلك، ولا فَعَل هذا أحدٌ مِن أصحابِ نَبيِّهم والتَّابعين لهم بإحسانٍ، ولا استَحَبَّ ذلك أحدٌ مِن أئمَّةِ المسلمين، لا الأئمَّةُ الأربعةُ، ولا غَيرُهم، ولا ذَكَر أحدٌ مِن الأئمَّةِ لا في مناسِكِ الحَجِّ ولا غيرِها أنَّه يُستحَبُّ لأحَدٍ أن يسألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند قَبْرِه أن يشفَعَ له، أو يدعوَ لأمَّتِه، أو يشكو إليه ما نَزَل بأمَّتِه مِن مصائِبِ الدُّنيا والدِّينِ، وكان أصحابُه يُبتَلَون بأنواع ٍمنِ البلاءِ بعد موتِه؛ فتارةً بالجَدْبِ، وتارةً بنَقصِ الرِّزقِ، وتارةً بالخَوفِ وقُوَّةٍ بالعَدُوِّ، وتارةً بالذُّنوبِ والمعاصي، ولم يكُنْ أحدٌ منهم يأتي إلى قبرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا قبر الخليلِ، ولا قَبرِ أحدٍ مِن الأنبياءِ، فيقولُ: نشكو إليك جَدْبَ الزَّمانِ، أو قوَّةَ العَدُوِّ، أو كثرةَ الذُّنوبِ، ولا يقولُ: سَلِ اللهَ لنا أو لأمَّتِك أن يرزُقَهم أو ينصُرَهم أو يغفِرَ لهم، بل هذا وما يُشبِهُه من البِدَعِ المحْدَثةِ التي لم يَستحِبَّها أحدٌ من أئمَّةِ المسلمين، فليست واجِبةً ولا مُستحَبَّةً باتِّفاقِ أئمَّةِ المسلمين)
.
أمَّا سؤالُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد وفاتِه حاجةً، أو الاستغاثةُ به لكَشْفِ كُربةٍ ونحوِ ذلك، فهذا شِرْكٌ باللهِ تعالى.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (اللهُ تعالى لم يأذَنْ لنا أن نسألَ مَيِّتًا حاجةً؛ لا نبيًّا ولا غيرَه، ولا يُطلَب منه جَلْبُ منفعةٍ ولا دَفْعُ مَضَرَّةٍ، ولا أن نَقصِدَ بزيارةِ قَبْرِه إجابةَ دُعائِنا، بل شَرَع لنا الإيمانَ بهم وبما جاؤُوا به، والسَّلامَ عليهم)
.
وقال أيضًا: (من نَقَل عن
مالكٍ أنَّه جَوَّز سؤالَ الرَّسولِ أو غيرِه بعد موتِهم، أو نَقَل ذلك عن إمامٍ مِن أئمَّةِ المسلمين غيرِ
مالكٍ، ك
الشَّافعيِّ و
أحمَدَ وغيرِهما؛ فقد كَذَب عليهم، ولكِنْ بعضُ الجُهَّالِ يَنقُلُ هذا عن
مالكٍ، ويستَنِدُ إلى حكايةٍ مكذوبةٍ عن
مالكٍ، ولو كانت صحيحةً لم يكُنِ
التَّوسُّلُ الذي فيها هو هذا، بل هو
التَّوسُّلُ بشفاعتِه يومَ القيامةِ، ولكِنْ مِنَ النَّاسِ مَن يُحَرِّفُ نَقْلَها، وأصلُها ضعيفٌ)
.
وقال أيضًا: (أمَّا دُعاءُ الرَّسولِ وطَلَبُ الحوائِجِ منه، وطَلَبُ شفاعتِه عند قبرِه أو بعد موتِه؛ فهذا لم يفعَلْه أحدٌ مِن السَّلَفِ، ومعلومٌ أنَّه لو كان قَصْدُ الدُّعاءِ عند القبرِ مشروعًا لفَعَله الصَّحابةُ والتابعون، وكذلك السُّؤالُ به، فكيف بدُعائِه وسُؤالِه بعد موته؟! فدَلَّ ذلك على أنَّ ما في الحكايةِ المُنقَطِعةِ مِن قَولِه: "استَقْبِلْه واستَشفِعْ به" كَذِبٌ على
مالكٍ، مخالِفٌ لأقواِله وأقوالِ الصَّحابةِ والتابعين وأفعالِهم التي يفعَلُها
مالكٌ وأصحابُه، ونَقَلها سائرُ العُلَماءِ؛ إذ كان أحَدٌ منهم لم يستقبِلِ القَبرَ للدُّعاءِ لنَفْسِه فضلًا عن أن يستقبِلَه وَيستَشفِعَ به، يقولُ له: يا رَسولَ اللهِ، اشفَعْ لي أو ادْعُ لي، أو يشتكي إليه مصائِبَ الدِّينِ والدُّنيا، أو يطلُبُ منه أو من غيرِه من الموتى مِن الأنبياءِ والصَّالحينَ أو من الملائكةِ الذين لا يراهم أن يَشفَعوا له، أو يشتكي إليهم المصائِبَ؛ فإنَّ هذا كُلَّه مِن فِعْلِ النَّصارى وغيرِهم من المُشْرِكينَ ومن ضاهاهم من مُبتَدِعةِ هذه الأمَّةِ، ليس هذا مِن فِعلِ السَّابقينَ الأوَّلينَ مِن المهاجِرينَ والأنصارِ والذين اتَّبَعوهم بإحسانٍ، ولا ممَّا أَمَر به أحَدٌ مِن أئمَّةِ المُسلِمينَ)
.
وقال
ابنُ عبد الهادي: (السَّلَفُ كُلُّهم مُتَّفِقونَ على أنَّ الزَّائِرَ لا يسألُه شيئًا، ولا يطلُبُ منه ما يُطلَبُ منه في حياتِه، ويُطلَبُ منه يومَ القيامةِ، لا شفاعةً ولا استِغفارًا ولا غيرَ ذلك)
.
وقال عبدُ اللهِ أبا بطين: (أمَّا امتِناعُ طَلَبِ الدُّعاءِ منه بعد موتِه شَرعًا؛ فلِأنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم، وهم أعلَمُ باللهِ وبرَسولِه مِمَّن بَعْدَهم، لا يأتونَ إلى قَبْرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَطلُبونَ منه أن يدعوَ لهم، ويستسقيَ لهم، ويستنصِرَ لهم؛ لعِلْمِهم أنَّ هذا ممتَنِعٌ بعد موتِه، ولم يأتِ أحدٌ منهم يستفتيه في قَبْرِه في مسائِلَ كثيرةٍ أَشكَلت عليهم.
قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: «ثلاثٌ وَدِدْتُ أنِّي سألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنها»، واستسقى بالعَبَّاسِ، ولم يأت إلى قَبْرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليستسقيَ لهم، وكان النَّاسُ يجيئون إلى
أمِّ المؤمنين عائشةَ يَستفتونَها عند قَبْرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو مع ذلك يَسمَعُهم، ويجيبُهم لو سألوه -على مُقتَضى زَعْمِ الغُلاةِ!- هذا من المحالِ، بل نُهُوا عن تحَرِّي دُعاءِ اللهِ عند قَبْرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ولَمَّا رأى
عليُّ بنُ الحُسَينِ -رحمه الله- رجلًا كان يجيءُ إلى فُرجةٍ كانت عند قبرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيدخُلُ فيها فيدعو، فنهاه، وقال:
((ألَا أُحَدِّثُكم حديثًا سمعتُه من أبي عن جَدِّي، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: لا تتَّخِذوا قبري عيدًا، ولا بيوتَكم قُبورًا؛ فإنَّ تسليمَكم يَبلُغُني أينَما كنتُم) )
؛ فرأيُ
عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ رحمه الله: أنَّ ذلك من اتخاذِه عِيدًا)
.
وقال
ابنُ باز: (أمَّا الأمواتُ فلا يُطلَبُ منهم شيءٌ، لا الشَّفاعةُ ولا غيرُها، سواءٌ كانوا أنبياءَ أو غيرَ أنبياءَ؛ لأنَّ ذلك لم يُشرَعْ، ولأنَّ الميِّتَ قد انقَطَع عمَلُه إلَّا ممَّا استثناه الشَّارعُ)
.
وسُئِلَ
ابنُ عُثَيمين: (هل يجوزُ طَلَبُ الشَّفاعةِ من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم، وهو الآنَ في قَبْرِه، بأن يقولَ: أريدُ منك شفاعةً يا رَسولَ اللهِ! وأنا عبدٌ مُذنِبٌ كَلِفٌ تحت يديك؟!
فأجاب: لا يجوزُ، هذا حرامٌ، بل قد يكونُ مِن الشِّركِ؛ لأنَّ هذا دعاءٌ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبدلًا من أن يقولَ: أسألُك يا رَسولَ اللهِ أن تشفَعَ لي، يقولُ: يا رَبِّ، شَفِّعْ فيَّ رَسولَك؛ حتى يكونَ الدُّعاءُ مُوَجَّهًا إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ، أمَّا الرَّسولُ الآنَ لا يستطيعُ أن يشفَعَ لك، ثمَّ حتى يومَ القيامةِ لا يستطيعُ أن يشفَعَ لأحدٍ إلَّا بإذنِ اللهِ، فهذه الكَلِمةُ حرامٌ، وقد تكونُ شِركًا باللهِ عزَّ وجَلَّ)
.
- أداءُ بَعضِ العِباداتِ عندَ القَبرِ النَّبَويِّ:فمِنَ البِدَعِ التعَبُّدُ عند القبرِ النبَويِّ بالصَّلاةِ والجُلوسِ عندَ القَبرِ أو حَولَه؛ لتلاوةِ القُرآنِ الكريمِ، وذِكْرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ
.
قال أبو العبَّاسِ القُرْطبيُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أولئك إذا كان فيهم الرَّجُلُ الصَّالحُ فمات، بَنَوا على قَبْرِه مَسجِدًا، وصَوَّروا تلك الصُّوَرَ ))
... إنَّما فَعَل ذلك أوائِلُهم؛ ليتأَنَّسوا برؤيةِ تلك الصُّورةِ، ويتذكَّروا بها أحوالَهم الصَّالحةَ، فيَجتَهِدونَ كاجتِهادِهم، ويعبُدون اللهَ تعالى عند قبورِهم، فمَضَت لهم بذلك أزمانٌ، ثمَّ إنَّهم خَلَف مِن بَعْدِهم خَلْفٌ جَهِلوا أغراضَهم، ووَسْوَسَ لهم
الشَّيطانُ أنَّ آباءَهم وأجدادَهم كانوا يَعبُدونَ هذه الصُّوَرَ ويُعَظِّمونَها، فعَبَدوها؛ فحَذَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن مِثْلِ ذلك، وشَدَّد النكيرَ والوعيدَ على فِعلِ ذلك، وسَدَّ الذَّرائِعَ المؤدِّيةَ إلى ذلك، فقال:
((اشتَدَّ غَضَبُ اللهِ على قَومٍ اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجِدَ؛ فلا تتَّخِذوا القُبورَ مَساجِدَ ))
، أي: أنهاكم عن ذلك. وقال:
((لَعَن اللهُ اليهودَ والنَّصارى اتَّخَذوا قبورَ أنبيائِهم وصالحِيهم مساجِدَ))
، وقال:
((اللهُمَّ لا تجعَلْ قَبْري وَثَنًا يُعبَدُ))
؛ ولهذا بالَغَ المسلِمونَ في سَدِّ الذَّريعةِ في قَبرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأعْلَوا حيطانَ تُربتِه، وسَدُّوا المداخِلَ إليها، وجَعَلوها مُحْدِقةً بقَبرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ خافوا أن يُتَّخَذَ موضِعُ قَبرِه قِبلةً؛ إذ كان مُستقبَلَ المصَلِّينَ، فتتَصَوَّرُ الصلاةُ إليه بصورةِ العبادةِ؛ فبَنَوا جدارينِ مِن رُكنَيِ القَبرِ الشَّماليَّينِ، وحَرَفوهما حتى التَقَيا على زاويةِ مُثَلَّثٍ من ناحيةِ الشِّمالِ؛ حتى لا يتمكَّنَ أحدٌ مِن استقبالِ قَبْرِه؛ ولهذا الذي ذكَرْناه كلَّه قالت
عائشةُ: «ولولا ذلك لأُبْرِزَ قَبْرُه»
)
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (
المرتبةُ الثَّانيةُ: أن يَظُنَّ أنَّ الدُّعاءَ عند قَبْرِه مستجابٌ، أو أنَّه أفضَلُ من الدُّعاءِ في المساجدِ والبُيوتِ، فيَقصِدُ زيارتَه لذلك، أو للصَّلاةِ عِندَه، أو لأجْلِ طَلَبِ حوائجِه منه؛ فهذا أيضًا من المنكَراتِ المُبتَدَعةِ باتِّفاقِ أئمَّةِ المسلمين، وهي محرَّمةٌ، وما عَلِمتُ في ذلك نزاعًا بين أئمَّةِ الدِّينِ)
.
وقال
ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (لو كان للأعمالِ عندَ القَبْرِ فَضيلةٌ لفُتِحَ للمسلمين بابُ الحُجرةِ، فلَّما مُنِعوا من الوصولِ إلى القَبرِ، وأُمِروا بالعبادةِ في المسجِدِ؛ عُلِمَ أنَّ فَضيلةَ العَمَلِ فيه لكَونِه في مَسجِدِه، كما أنَّ صلاةً في مَسجِدِه بألْفِ صلاةٍ فيما سِواه، ولم يأمُرْ قَطُّ بأن يُقصَدَ بعَمَلٍ صالحٍ أن يُفعَلَ عندَ قَبْرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
.
- مسُّ القَبرِ والتمَسُّحُ به أو تقبيلُه، ونحوُ ذلك:إنَّ التمَسُّحَ بحائِطِ قَبْرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باليَدِ أو غيرِها، أو تقبيلَه؛ رجاءَ الخَيرِ والبركةِ ونحوِ ذلك: مَظهَرٌ مِن مظاهِرِ البِدَعِ ووسِيلةٌ مِن وسائلِ الشِّركِ .
قال خليل المالكيُّ : (روى ابنُ وهبٍ في المختصَرِ قال: سُئِلَ
مالكٌ: من أين يقِفُ من أراد التَّسليمَ؟ فقال: مِن عندِ الزاويةِ التي تلي القِبلةَ مِمَّا يلي المِنبرَ، ويَستقبِلُ القبلةَ، ولا أحِبُّ أن يمسَّ القبرَ بيَدِهـ)
.
وقال الزَّعفرانيُّ: (وضعُ اليد على القَبرِ ومَسُّه وتقبيلُه: مِن البِدَعِ التي تُنكَرُ شرعًا... ، وقد أنكره
مالكٌ والشافعيُّ و
أحمدُ أشدَّ الإنكارِ)
.
وقال
الغزاليُّ الشافعيُّ: (أمَّا زيارةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فينبغي أن تَقِفَ بين يديه كما وصَفْنا وتزورَه مَيِّتًا كما تَزورُه حَيًّا، ولا تَقرُبْ من قَبْرِه إلَّا كما كنت تَقرُب من شَخْصِه الكريمِ لو كان حيًّا، وكما كنتَ ترى الحُرمةَ في ألَّا تَمَسَّ شَخْصَه ولا تُقَبِّلَه، بل تَقِفُ من بُعدٍ ماثلًا بين يديه، فكذلك فافعَلْ؛ فإنَّ المسَّ والتقبيلَ للمَشاهِدِ عادةُ النَّصارى واليهودِ)
.
وقال أيضًا: (ليس مِن السُّنةِ أنْ يَمسَّ الجدارَ، ولا أن يُقَبِّله، بل الوقوفُ مِن بُعد أقربُ للاحترامِ)
وقال أبو بَكرٍ الطُّرْطوشيُّ: (لا يُتمَسَّحُ بقبرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يُمسَحُ كذلك المِنبَرُ)
.
وقال
عبدُ القادِرِ الجيلانيُّ: (وإذا زار قبرًا لا يَضَع يدَه عليه، ولا يُقَبِّله؛ فإنَّها عادةُ اليهودِ)
.
وقال نصيرُ الدِّينِ السَّامريُّ الحنبليُّ: (ثمَّ يأتي حائِطَ القَبرِ أي: قَبْرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يمسُّه، ولا يُلصِقُ به صَدْرَه؛ لأنَّ ذلك من عادةِ اليهودِ. قال
الأثرَمُ: ذلك مِن فِعْلِ الجاهليَّةِ)
.
وقال
ابنُ قُدامةَ: (لا يُستحَبُّ التمَسُّحُ بحائطِ قَبرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا تقبيلُه؛ قال
أحمَدُ: ما أعرِفُ هذا. قال
الأثرَمُ: رأيتُ أهلَ العِلمِ مِن أهلِ المدينةِ لا يمسُّونَ قَبْرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يقومون من ناحيةِ فيُسَلِّمونَ)
.
وقال أبو شامة المقدسيُّ الشافعيُّ: (حكى الإمامُ الحَلِيميُّ عَن بعض أهل الْعلم أَنه نهى عَن إلصاقِ الْبَطنِ وَالظّهْر بجدارِ الْقَبْر ومَسْحِه بِالْيَدِ، وَذكر أَن ذَلِك من البدَعِ)
.
وقال
النَّوويُّ: (قالوا: ويُكرَهُ مسْحُه -أي: قَبْر النبيِّ- باليد وتقبيلُه،... ولا يُغتَر بمخالفةِ كثيرين مِن العوامِّ وفعلِهم ذلك؛ فإنَّ الاقتداءَ والعملَ إنما يكونُ بالأحاديثِ الصحيحةِ وأقوالِ العلماء، ولا يُلتَفَت إلى مُحدَثاتِ العوامِّ وغيرِهم، وجَهالاتِهم،... ومَن خطَر بباله أنَّ المسحَ باليدِ ونحوه أبلَغُ في البَركة؛ فهو من جَهالتِه وغفلتِه؛ لأنَّ البركةَ إنما هي فيما وافَقَ الشرعَ)
.
وقال
ابنُ تَيميَّة : (لا يُسَنُّ باتِّفاقِ الأئمَّة: أن يُقَبِّلَ الرَّجُلُ أو يستَلِمَ رُكنَيِ البيت اللَّذين يَليانِ الحِجْرَ، ولا جُدرانَ البيتِ، ولا مَقامَ إبراهيم، ولا صخرةَ بيت المَقدِس، ولا قَبْرَ أحدٍ مِن الأنبياءِ والصَّالحينَ،... وأمَّا التمَسُّحُ بقبرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم وتقبيلُه، فكُلُّهم كَرِهَ ذلك ونهى عنه؛ وذلك لأنَّهم عَلِموا ما قَصَده النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم مِن حَسْمِ مادَّةِ الشِّركِ، وتحقيقِ التَّوحيدِ، وإخلاصِ الدِّينِ للهِ رَبِّ العالَمينَ)
وقال أيضًا: (قال العُلَماءُ: من زار قَبْرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فإنَّه لا يَستَلِمُه، ولا يقَبِّلُه، ولا يُشبَّهُ بيتُ المخلوقِ ببيتِ الخالِقِ الذي يُستلَمُ، ويُقبَّلُ منه الرُّكنُ الأسوَدُ، ويُستلَمُ الرُّكنُ اليَماني؛ ولهذا اتَّفق العُلَماءُ على أنَّه لا يُشرَعُ تقبيلُ شيءٍ مِن الأحجارِ ولا استلامُه إلَّا الركنانِ اليمانيَّانِ، حتَّى مقامُ إبراهيمَ الذي بمكَّةَ لا يُقبَّلُ، ولا يُتمَسَّحُ به، فكيف بما سِواه من المقاماتِ والمشاهِدِ؟!)
.
وقال
ابنُ الحاج المالكيُّ : (فترَى مَن لا عِلمَ عنده يطوفُ بالقبرِ الشريفِ كما يطوفُ بالكعبةِ الحرامِ، ويتمسَّحُ به، ويُقَبِّله، ويُلقون عليه مَناديلَهم وثيابَهم؛ يَقصِدون به التبَرُّكَ! وذلك كلُّه من البِدعِ؛ لأنَّ التبركَ إنما يكون بالاتِّباعِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلام، وما كان سَببُ عبادة الجاهلية للأصنام إلَّا مِن هذا الباب)
.
وقال
تقيُّ الدِّين السبكيُّ الشافعيُّ: (... وإنَّما التمسُّحُ بالقبر وتقبيله، والسجودُ عليه، ونحو ذلك: فإنَّما يَفْعَلُه بَعضُ الجهال، ومَن فعَل ذلك يُنكَر عليه فِعلُه ذلك، ويُعَلَّم آدابَ الزِّيارة...)
.
وقال أبو البقاء محمَّد الضياء المكيُّ الحنفيُّ: (ليس مِن السُّنة أن يَمَسَّ الجدارَ أو يُقبِّلَه، بل الوقوفُ من البُعدِ أقرَبُ إلى الاحترامِ. ومن الآدابِ: ألَّا يَرفعَ صوتَه بالتسليم، ولا يَمسَّ القبرَ بيدِه، ولا يَقِفَ عندَ القبرِ طويلًا)
.
وقال
السيوطيُّ الشافعيُّ: (ومِن البِدع أيضًا:... طوافُهم بالقبرِ الشريف، ولا يحلُّ ذلك، وكذلك إلصاقُهم بُطونَهم وظُهورَهم بجدارِ القَبر، وتقبيلُهم إيَّاه بالصُّندوق الذي عند رأسِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومسْحُه باليد؛ وكل ذلك مَنهيٌّ عنهـ)
.
وقال قطبُ الدِّين النهرواني الحنفيُّ : (ليس مِن السُّنَّةِ أن يمسَّ الجدار أو يقبِّلَهـ)
.
وقال
مُلا علي القاري الحَنفيُّ في مناسكه: (قوله: «ولا يَمسّ عند الزِّيارة الجِدارَ» أي: لأنَّه خِلافُ الأدبِ في مقام الوقار، وكذا لا يُقَبِّله؛ لأنَّ الاستلامَ والقُبلةَ من خَواصِّ بعض أركانِ الكعبةِ)
.
وقال مرعي بن يوسف الحنبليُّ: (أمَّا تَقبيلُ القبورِ والتمَسُّحُ بها، فهو بِدعةٌ باتِّفاق السَّلف؛ فيشَدَّدُ النكيرُ على مَن يفعل ذلك، ممَّن تَزيَّا بزيِّ أهل العِلم؛ خوفَ الافتِتان به، والاقتداءِ بفِعلِهـ)
.
وقال البُهوتيُّ الحنبليُّ: (لا يَمسَح قَبرَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا حائطَه، ولا يُلصق به صَدْرَه، ولا يُقَبِّلهـ)
.
وقال عبد الرحمن العِماديُّ النقشبنديُّ : (يَتجنَّبُ مَسَّ الشِّباك ومسْحَه بيدِه ثُم المسْح على وجْهِه للتبرُّك؛ فإنَّ ذلك من عادة أهلِ الكِتاب، ولم يُنقَل ذلك عن أحدٍ من الأئمَّة المجتهدين، ولا مِن العلماء المعتَمَدين)
.
وقال أحمد الطحطاويُّ الحنفيُّ : (ولا يَمسَّ القبرَ، ولا يُقَبِّله؛ فإنَّه مِن عادةِ أهل الكتاب، ولم يُعهَدِ الاستلامُ إلَّا للحَجَرِ الأسود، والركْنِ اليَماني خاصةً)
.
ونقَل عبدُ الله بن الغازي المكيُّ الحنفيُّ في كتابه (إفادة الأنام) فتوى لعُلماء المدينةِ وقَّع عليها مُفتو المذاهب الأربعة آنذاك
مع أكثر من عشرة من علماء المدينة المنورة، جاء فيها: (وأمَّا التوجُّهُ إلى حُجرة النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند الدُّعاء؛ فالأولى منْعُه، كما هو معروفٌ من مُعتَبرات كتُبِ المذهب
، ولأنَّ أفضلَ الجِهات جِهةُ القِبلة، وأمَّا الطوافُ بها والتمسُّحُ بها وتَقبيلُها، فهو ممنوعٌ مُطلقًا)
.
وقال محمَّد بنُ يوسُفَ التونسي المالكي: (في الدُّرِّ المنظَّمِ أيضًا: يُكرَهُ الانحناءُ للقَبرِ الشَّريفِ، وأقبَحُ منه تقبيلُ الأرضِ، ذَكَره
ابنُ جماعةَ، ولفظُه: قال العُلَماءُ: إنَّ ذلك من البِدَعِ، أي: القبيحةِ، ويظُنُّ من لا عِلمَ له أنَّه من شِعارِ التعظيمِ، وأقبَحُ منه تقبيلُ الأرضِ له؛ لأنَّه لم يفعَلْه السَّلَفُ الصَّالحُ، والخيرُ كُلُّه في اتِّباعِهم، ومَن خَطَر ببالِه أنَّ تقبيلَ الأرضِ أبلَغُ في البركةِ فهو من جَهالتِه وغَفلتِه؛ لأنَّ البركةَ إنما هي فيما وافق الشَّرعَ وأقوالَ السَّلَفِ وعَمَلَهم، وليس عجبي ممَّن جَهِلَ ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى بتحسينِه مع عِلْمِه، أي: لو تأمَّل قُبحَه ومخالفَتَه لعَمَلِ السَّلَفِ، واستشهد لذلك بالشِّعرِ، قال السَّيِّد: ولقد شاهَدْتُ بعضَ جُهَّالِ القُضاةِ فعل ذلك بحضرةِ الملأِ، وزاد بوَضعِ الجَبهةِ كهيئةِ السَّاجِدِ، فتَبِعَه العوامُّ. وقال خليل المالكيُّ في مناسِكِه: ولْيَحذرْ ممَّا يفعلُه بعضُهم من طوافِه بقبره -عليه الصَّلاة والسَّلام- وكذلك أيضًا: تمسُّحهم بالبِناء، ويُلقون عليه مناديلَهم وثيابهم، وذلك كلُّه من البِدَع؛ لأنَّ التبركَ إنما يكون بالاتِّباع له -عليه الصلاة والسلام- وما كانتْ عِبادةُ الجاهلية الأصنامَ إلا مِن هذا البابِ، ولأجْلِ ذلك كَرِه عُلَماؤنا التمَسُّحَ بجِدارِ الكعبةِ، أو بجِدارِ المسجِدِ، والتقبيلَ للمُصحَفِ. وتعظيمُ المصحَفِ قراءتُه والعَمَلُ بما فيه، لا تقبيلُه ولا القيامُ له، كما يفعَلُه بعضُهم في زمانِنا، والمسجِدُ تعظيمُه الصَّلاةُ فيه واحترامُه، لا التمَسُّحُ بجُدرانِه، وكذلك الورقةُ يَجِدُها الإنسانُ مطروحةً، فيها اسمٌ مِن أسمائِه تعالى أو نبيٌّ أو غيرُ ذلك ترفيعُها إزالتُها من موضِعِ المهنةِ لا تقبيلُها، وكذلك الوَلِيُّ تعظيمُه اتِّباعُه، لا تقبيلُ يَدِه. اهـ.
وقال العَلَّامة سيدي علي النوري صاحِبُ «غيث النفع» بعد أن ذكر أشياءَ مخالِفةً للشَّرعِ تُفعَلُ في حَضرةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ومن هذا المعنى التمسُّحُ بجِدارِ الكَعبة وتقبيلُها، وبالمصحَفِ الشَّريفِ، ويبالِغُ بعضُ العوامِّ حتى يفعَلَ ذلك بالمساجِدِ، وقُبورِ الأولياءِ، وليس هذا كُلُّه بتعظيمٍ شرعيٍّ، بل التعظيمُ الشَّرعيُّ للكَعبةِ الطَّوافُ بها، والصَّلاةُ إليها، والنَّظَرُ إليها، وتعظيمُ المصحَفِ قِراءتُه، والعَمَلُ بما فيه، وتعظيمُ المسجِدِ تعميرُه بالصَّلاةِ وأنواعِ العباداتِ، وتعظيمُ الوَليِّ الاقتداءُ بما كان عليه، والتضَرُّعُ إلى اللهِ تعالى في الترحُّمِ عليه، ورَفعِ دَرَجتِهـ)
.
وقال
المُعَلِّميُّ اليمانيُّ: (عُلماءُ الأُمَّة سَلَفًا وخَلَفًا مُجمِعون على أنَّ التبرُّك بالقُبور، بالاستلامِ والتمسُّح والتقبيل ووضعِ العينينِ ونحوه؛ كلُّه مُحادَّةٌ للهِ ورسولِه، وخروجٌ عن سواءِ سَبيلِه؛ فالعلماء بين مُكفِّرٍ ومُفسِّق. ولا يصِحُّ قياسُ قبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ على آثارِه؛ لأنَّ القبورَ -ولا سيَّما قُبورُ الأنبياء والصالحين- مَظِنَّةُ افتِتان الناسِ وضلالِهم)
.
2- مِنَ التبَرُّكِ البِدْعِيِّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد وفاتِه: التبَرُّكُ بالمواضِعِ التي جَلَس أو صَلَّى فيها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمالمَواضِعُ التي صلَّى فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو قام فيها بعبادةٍ أُخرى، على نوعَينِ:النَّوعُ الأوَّلُ: مواضِعُ قَصَد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التعَبُّدَ فيها لذاتِ المَكانِ.فتلك المواضِعُ يُشرَعُ تحرِّيها وقَصْدُها؛ اقتداءً بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وطلبًا للأجْرِ.
عن يزيدَ بنِ أبي عُبَيدٍ أنَّ سَلَمَةَ بنَ الأكوَعِ رَضِيَ اللهُ عنه كان يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ الأُسْطُوَانَةِ الَّتي عِنْدَ المُصْحَفِ. فَقُلتُ له: يا أبَا مُسْلِمٍ، أرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هذِه الأُسْطُوَانَةِ، قالَ: رَأَيْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا
.
وفي روايةٍ عن سَلَمةَ بنِ الأكوعِ أنَّه كانَ يَتَحَرَّى مَوْضِعَ مَكَانِ المُصْحَفِ يُسَبِّحُ فِيهِ، وذَكَرَ: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانَ يَتَحَرَّى ذلكَ المَكَانَ، وكانَ بيْنَ المِنْبَرِ والْقِبْلَةِ قَدْرُ مَمَرِّ الشَّاةِ
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (ما فعَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على وَجهِ التعَبُّدِ فهو عبادةٌ يُشرَعُ التأسِّي به فيه، فإذا خَصَّص زمانًا أو مكانًا بعبادةٍ، كان تخصيصُه بتلك العبادةِ سُنَّةً، كتخصيصِه العَشْرَ الأواخِرَ بالاعتكافِ فيها، وكتخصيصِه مقامَ إبراهيمَ بالصَّلاةِ فيه؛ فالتأسِّي به أن يُفعَلَ مِثلُ ما فَعَل على الوَجهِ الذي فَعَل)
.
وقال
ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (فأمَّا الأمكنةُ التي كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقصِدُ الصلاةَ أو الدُّعاءَ عِندَها، فقَصْدُ الصَّلاةِ فيها أو الدُّعاءِ سُنَّةٌ؛ اقتداءً برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واتِّباعًا له، كما إذا تحرَّى الصَّلاةَ أو الدُّعاءَ في وَقتٍ مِن الأوقاتِ؛ فإنَّ قَصْدَ الصَّلاةِ أو الدُّعاءِ في ذلك الوَقتِ: سُنَّةٌ كسائِرِ عباداتِه، وسائِرِ الأفعالِ التي فعَلَها على وَجهِ التقَرُّبِ)
.
النَّوعُ الثَّاني: مواضِعُ تعَبَّد فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دونَ قَصْدِه لذاتِ المَكانِ.الأماكِنُ التي مَرَّ بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو تعَبَّد للهِ فيها اتِّفاقًا من غيرِ قَصدٍ لها لذاتِها، وإنَّما لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان موجودًا في هذه الأماكِنِ وَقتَ تعَبُّدِه للهِ تعالى بهذه العِبادةِ، ولم يَرِدْ دليلٌ شَرعيٌّ يدُلُّ على فَضْلِها، كجَبَلِ ثورٍ، وغارِ حراءٍ، وجَبَلِ عَرَفاتٍ، والأماكِنِ التي مَرَّ بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أسفارِه، والمساجدِ السَّبعةِ التي قُرْبَ الخندَقِ، وغيرِ ذلك- لا يجوزُ قَصْدُ زيارتِها للتعَبُّدِ للهِ تعالى عندَها، بصلاةٍ أو دُعاءٍ أو غيرِ ذلك، كما لا يجوزُ التمَسُّحُ بشَيءٍ مِن هذه الأماكنِ لطَلَبِ البركةِ، ولا يُشرَعُ صعودُ تلك الجِبالِ في أيَّامِ الحَجِّ ولا في غَيرِها، وحتى جَبَلُ عَرَفاتٍ لا يُشرَعُ صُعودُه في يومِ عَرَفةَ ولا غيرِه، ولا التمَسُّحُ بالعمودِ الذي فَوقَه، وإنَّما يُشرَعُ الوقوفُ عند الصَّخَراتِ القَريبةِ منه إن تيسَّر، وإلَّا وَقف الحاجُّ في أيِّ مكانٍ مِن عَرَفاتٍ
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا قَصدُ الصَّلاةِ والدُّعاءِ والعِبادةِ في مكانٍ لم يقصِدِ الأنبياءُ فيه الصَّلاةَ والعبادةَ، بل رُوِيَ أنَّهم مَرُّوا به ونزلوا فيه أو سَكَنوه، فهذا كما تقَدَّم لم يكُنِ
ابنُ عُمَرَ ولا غَيرُه يفعَلُه؛ فإنَّه ليس فيه متابعتُهم لا في عَمَلٍ عَمِلوه ولا قَصْدٍ قَصَدوه، ومعلومٌ أنَّ الأمكنةَ التي كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يحُلُّ فيها إمَّا في سَفَرِه وإمَّا في مَقامِه؛ مِثلُ طُرُقِه في حَجِّه وغَزَواتِه، ومَنازلِه في أسفارِه، ومِثلُ بُيوتِه التي كان يَسكُنُها، والبُيوتِ التي كان يأتي إليها أحيانًا ... ولو كان هذا مُستَحَبًّا لكان يُستحَبُّ للصَّحابةِ والتَّابعين أن يُصَلُّوا في جميعِ حُجَرِ أزواجِه، وفي كُلِّ مكانٍ نَزَل فيه في غَزَواتِه أو أسفارِه، ولكان يُستحَبُّ أن يَبنُوا هناك مساجِدَ، ولم يفعَلِ السَّلَفُ شيئًا من ذلك، ولم يَشرَعِ اللهُ تعالى للمُسلمين مكانًا يُقصَدُ للصَّلاةِ إلَّا المسجِدَ، ولا مكانًا يُقصَدُ للعبادةِ إلَّا المشاعِرَ؛ فمَشاعِرُ الحجِّ، كعَرَفةَ ومُزدَلِفةَ ومِنًى، تُقصَدُ بالذِّكرِ والدُّعاءِ والتَّكبيرِ لا الصَّلاةِ، بخِلافِ المساجِدِ؛ فإنَّها هي التي تُقصَدُ للصَّلاةِ، وما ثَمَّ مكانٌ يُقصَدُ بعَينِه إلَّا المساجِدُ والمشاعِرُ، وفيها الصَّلاةُ والنُّسُكُ؛ قال تعالى:
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وما سِوى ذلك من البِقاعِ فإنَّه لا يُستحَبُّ قَصدُ بُقعةٍ بعَينِها للصَّلاةِ ولا الدُّعاءِ ولا الذِّكرِ؛ إذ لم يأتِ في شَرعِ اللهِ ورَسولِه قَصْدُها لذلك، وإن كان مَسكَنًا لنبيٍّ أو مَنزِلًا أو ممَرًّا؛ فإنَّ الدِّينَ أصلُه مُتابعةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومُوافقتُه بفِعلِ ما أَمَرَنا به وشَرَعَه لنا وسَنَّه لنا، ونقتدي به في أفعالِه التي شَرَع لنا الاقتداءَ به فيها، بخِلافِ ما كان من خصائِصِه، فأمَّا الفِعلُ الذي لم يَشرَعْه هو لنا، ولا أمَرَنا به، ولا فعَلَه فِعلًا سَنَّ لنا أن نتأسَّى به فيه، فهذا ليس من العباداتِ والقُرَبِ، فاتِّخاذُ هذا قُربةً مخالَفةٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
.
فالتبَرُّكُ بالمواضِعِ التي لم يتحرَّها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غيرُ مَشروعٍ مُطلَقًا؛ لأنَّه لا يُوجَدُ دليلٌ مِن النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ يفيدُ جوازَ ذلك الفِعلِ أو استحبابَه، والجلوسُ في تلك المواضِعِ للصَّلاةِ أو الدُّعاءِ أو الذِّكرِ ونحوِ ذلك قُربةً وتَبَرُّكًا من أنواعِ العبادةِ، والعِباداتُ مبناها على الاتِّباعِ لا على الابتِداعِ، ولم يُنقَلْ عن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أنَّهم تَبَرَّكوا بشَيءٍ من المواضِعِ التي جلس فيها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو البُقَعِ التي صلَّى فيها عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن غيرِ قَصدٍ منه، وهم أحرَصُ النَّاسِ على التبَرُّكِ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مع عِلْمِهم بتلك المواضِعِ، وشِدَّةِ محَبَّتِهم للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتعظيمِهم له، واتِّباعِهم لسُنَّتِه
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (فأمَّا قَصدُ الصَّلاةِ في تلك البِقاعِ التي صَلَّى فيها اتِّفاقًا، فهذا لم يُنقَلْ عن غيرِ
ابنِ عُمَرَ من الصَّحابةِ
، بل كان
أبو بكرٍ وعُمَرُ وعُثمانُ وعَلِيٌّ، وسائِرُ السَّابقين الأوَّلين من المهاجِرين والأنصارِ يَذهَبونَ من المدينةِ إلى مكَّةَ حُجَّاجًا وعُمَّارًا ومسافِرين، ولم يُنقَلْ عن أحَدٍ منهم أنَّه تحرَّى الصَّلاةَ في مُصَلَّياتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعلومٌ أنَّ هذا لو كان عندهم مُستحَبًّا لكانوا إليه أسبَقَ؛ فإنَّهم أعلَمُ بسُنَّتِه وأتبَعُ لها من غيرِهم، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((عليكم بسُنَّتي، وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْديِّينَ مِن بَعْدي، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كُلَّ مُحدَثةٍ بِدعةٌ، وكُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ))
، وتحَرِّي هذا ليس مِن سُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشدين، بل هو ممَّا ابتُدِع، وقَولُ الصَّحابي إذا خالفه نظيرُه: ليس بحُجَّةٍ، فكيف إذا انفَرَد به عن جماهيرِ الصَّحابةِ؟
أيضًا: فإنَّ تحَرِّي الصَّلاةِ فيها ذريعةٌ إلى اتخاذِها مساجِدَ، والتشبُّهِ بأهلِ الكِتابِ مِمَّا نُهِينا عن التشَبُّهِ بهم فيه، وذلك ذريعةٌ إلى الشِّرْكِ باللهِ، والشَّارعُ قد حَسَم هذه المادَّةَ بالنَّهيِ عن الصَّلاةِ عند طُلوعِ الشَّمسِ، وعند غُروبِها، وبالنَّهيِ عن اتِّخاذِ القُبورِ مَساجِدَ، فإذا كان قد نهى عن الصَّلاةِ المشروعةِ في هذا المكانِ وهذا الزَّمانِ؛ سَدًّا للذَّريعةِ، فكيف يُستحَبُّ قَصدُ الصَّلاةِ والدُّعاءِ في مكانٍ اتَّفق قيامُهم فيه، أو صلاتُهم فيه، من غيِر أن يكونوا قد قَصَدوه للصَّلاةِ فيه والدُّعاءِ فيه؟ ولو ساغ هذا لاستُحِبَّ قَصدُ جَبلِ حِراءٍ والصَّلاةُ فيه، وقَصْدُ جَبَلِ ثورٍ والصَّلاةُ فيه، وقَصْدُ الأماكنِ التي يقال: إنَّ الأنبياءَ قاموا فيها؛ كالمقامَينِ اللَّذين بطريقِ جَبَلِ قاسِيون بدِمَشقَ، اللَّذَين يقال: إنَّهما مقامُ إبراهيمَ وعيسى، والمقامِ الذي يقالُ: إنَّه مغارةُ دَمِ قابيلَ، وأمثالِ ذلك من البقاعِ التي بالحِجازِ والشَّامِ وغيرِهما، ثمَّ ذلك يُفضي إلى ما أفضَتْ إليه مفاسِدُ القُبورِ، فإنَّه يقال: إنَّ هذا مقامُ نبيٍّ، أو قبرُ نبيٍّ أو وليٍّ، بخبَرٍ لا يُعرَفُ قائِلُه، أو بمنامٍ لا تُعرَفُ حقيقتُه، ثمَّ يترتَّبُ على ذلك اتخاذُه مَسجِدًا، فيصيرُ وَثَنًا يُعبَدُ مِن دونِ اللهِ تعالى. شِرْكٌ مَبنيٌّ على إفكٍ)
.
وقد أنكَرَ السَّلَفُ ومَن بَعْدَهم هذا النَّوعَ مِن التبَرُّكِ.قال ابنُ وضَّاحٍ: (كان
مالِكُ بنُ أنَسٍ وغَيرُه من عُلَماءِ المدينةِ يَكرَهون إتيانَ تلك المساجدِ، وتلك الآثارِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ما عدا قباءً وأُحُدًا، وسَمِعتُهم يذكُرون أنَّ
سُفيانَ الثَّوريَّ دَخَل مسجِدَ بيتِ المقدِسِ فصَلَّى فيه، ولم يتَّبِعْ تلك الآثارَ ولا الصَّلاةَ فيها، وكذلك فَعَل غيرُه أيضًا ممن يُقتَدَى به، وقَدِمَ وكيعٌ أيضًا مَسجِدَ بيتِ المقدِسِ، فلم يَعْدُ فِعْلَ
سُفيانَ؛ فعليكم بالاتِّباعِ لأئمَّةِ الهُدى المعروفين)
.
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا ما فَعَله بحُكمِ الاتِّفاقِ ولم يَقصِدْه؛ مِثلُ أن يَنزِلَ بمكانٍ ويصَلِّيَ فيه؛ لكَونِه نَزَله، لا قَصدًا لتخصيصِه به بالصَّلاةِ والنُّزولِ فيه، فإذا قصَدْنا تخصيصَ ذلك المكانِ بالصَّلاةِ فيه أو النُّزولِ لم نكُنْ متَّبِعينَ، بل هذا من البِدَعِ التي كان يَنهى عنها عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، كما ثبت بالإسنادِ الصَّحيحِ مِن حَديثِ شُعبةَ عن سُلَيمانَ التَّيميِّ عن المعرورِ بنِ سُوَيدٍ، قال: كان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ في سَفَرٍ فصَلَّى الغداةَ، ثمَّ أتى على مكانٍ، فجَعَل النَّاسُ يأتونَه فيقولون: صلَّى فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال عُمَرُ: إنَّما هَلَك أهلُ الكِتابِ أنَّهم اتَّبَعوا آثارَ أنبيائِهم فاتَّخَذوها كنائِسَ وبِيَعًا، فمن عرَضَت له الصَّلاةُ فليُصَلِّ، وإلَّا فلْيَمْضِ. فلمَّا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يقصِدْ تخصيصَه بالصَّلاةِ فيه، بل صَلَّى فيه؛ لأنَّه مَوضِعُ نُزولِه، رأى عُمَرُ أنَّ مُشاركتَه في صورةِ الفِعلِ مِن غيرِ مُوافَقةٍ له في قَصْدِه ليس متابعةً، بل تخصيصُ ذلك المكانِ بالصَّلاةِ مِن بِدَعِ أهلِ الكِتابِ التي هَلَكوا بها، ونهى المسلمين عن التشَبُّهِ بهم في ذلك)
.
ومَنْعُ هذا التبَرُّكِ يأتي أيضًا سَدًّا لذريعةِ الشِّركِ والفتنةِ واتخاذِ تلك الآثارِ مَساجِدَ، وسَدًّا لذريعةِ التشَبُّهِ بأهلِ الكِتابِ في أفعالِهم
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (قد تبَيَّن أنَّ أحدًا مِنَ السَّلَفِ لم يكُنْ يفعَلُ ذلك، إلَّا ما نُقِلَ عن
ابنِ عُمَرَ أنَّه كان يتحَرَّى النُّزولَ في المواضِعِ التي نزل فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والصَّلاةَ في المواضِعِ التي صلَّى فيها، حتى إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم توضَّأ وصَبَّ فَضْلَ وَضوئِه في أصلِ شَجَرةٍ، ففَعَل
ابنُ عُمَرَ ذلك! وهذا من
ابنِ عُمَرَ تحَرٍّ لمثلِ فِعْلِه؛ فإنَّه قَصَد أن يفعَلَ مِثلَ فِعْلِه؛ في نُزولِه وصَلاتِه، وصَبِّه للماءِ، وغيرِ ذلك، لم يَقصِدِ
ابنُ عُمَرَ الصَّلاةَ والدُّعاءَ في المواضِعِ التي نزلها)
.
وقال
ابنُ تَيميَّةَ، مُبيِّنًا أنَّ ارتيادَ جَبَلٍ حِراءٍ والغارِ ونحوِه: مِنَ البِدَعِ التي لم يفعَلْها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا صحابتُه رَضِيَ اللهُ عنهم، ولا مَن بَعْدَهم مِن السَّلَفِ: (يعلَمُ كُلُّ من كان عالِمًا بحالِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحالِ أصحابِه مِن بَعْدِه: أنَّهم لم يكونوا يقصِدون شيئًا من هذه الأمكِنةِ؛ فإنَّ جَبَلَ حِراءٍ الذي هو أطوَلُ جَبَلٍ بمكَّةَ، كانت قُرَيشٌ تنتابهُ قبل الإسلامِ وتتعَبَّدُ هناك؛ ولهذا قال أبو طالِبٍ في شِعْرِه:
وراقٍ لِيَرقَى في حِرَاءٍ ونازِلِ
وقد ثَبَت في الصَّحيحِ عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: كان أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الوَحْي الرُّؤيا الصَّادِقةَ في النَّومِ. فكان لا يرى رُؤيا إلَّا جاءت مِثْلَ فَلَقِ الصُّبحِ، ثمَّ حُبِّبَ إليه الخَلاءُ. فكان يخلو بغارِ حِراءٍ يتحَنَّثُ فيه -وهو التعَبُّدُ- اللَّياليَ أولاتِ العَدَدِ قبل أن يرجِعَ إلى أهلِه، ويتزوَّدُ لذلك ثم يرجِعُ إلى
خديجةَ فيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِها، حتى فَجِئَه الحَقُّ وهو في غارِ حِراءٍ، فجاءه الملَكُ فقال: اقرَأْ. قال:
((ما أنا بقارئٍ. قال: فأخَذَني فغَطَّني حتى بلَغَ مني الجَهْدَ، ثم أرسَلَني فقال: اقرَأْ. قال: قُلْتُ: ما أنا بقارئٍ. قال: فأخَذَني فغَطَّني حتى بلَغَ مني الجَهْدَ، ثم أرسَلَني فقال: اقرَأْ. قال: فقُلْتُ: ما أنا بقارئٍ. فأخَذَني فغَطَّني الثَّالِثةَ حتى بلغ مني الجَهْدَ ثم أرسلَني. فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1-5] ، فرجع بها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرجُفُ بوادِرُهـ)). الحديث بطُولِه
.
فتحَنُّثُه وتعَبُّدُه بغارِ حِراءٍ كان قبل المبعَثِ، ثمَّ إنَّه لَمَّا أكرَمَه اللهُ بنبُوَّتِه ورِسالتِه، وفَرَض على الخَلقِ الإيمانَ به وطاعتَه واتِّباعَه، وأقام بمكَّةَ بِضعَ عَشرةَ سَنةً هو ومَن آمَنَ به من المهاجرينَ الأوَّلينَ الذين هم أفضَلُ الخَلقِ، ولم يذهَبْ هو ولا أحدٌ من أصحابِه إلى حِراءٍ، ثمَّ هاجر إلى المدينةِ واعتَمَر أربَعَ عُمَرٍ: عُمرةُ الحُدَيبيَةِ التي صَدَّه فيها المُشْرِكون عن البيتِ -والحُدَيبِيَةُ عن يمينِك وأنت قاصِدٌ مكَّةَ إذا مرَرْتَ بالتَّنعيمِ، عند المساجِدِ التي يقالُ: إنَّها مساجِدُ عائشةَ، والجَبَلُ الذي عن يمينِك يقالُ له: جَبَلُ التنعيمِ، والحُدَيبِيَةُ غَربِيُّه-، ثمَّ إنهَّ اعتَمَر من العامِ القابِلِ عُمرةَ القَضِيَّةِ، ودَخَل مكَّةَ هو وكثيرٌ من أصحابِه، وأقاموا بها ثلاثًا، ثمَّ لَمَّا فتح مكَّةَ وذهب إلى ناحيةِ حُنَينٍ والطَّائِفِ شَرقيَّ مكَّةَ، فقاتَلَ هَوازِنَ بوادي حُنَينٍ، ثم حاصَرَ أهلَ الطَّائِفِ، وقَسَّم غنائِمَ حُنَينٍ بالجِعْرانةِ، فأتى بعُمرةٍ مِن الجِعْرانةِ إلى مكَّةَ، ثمَّ إنَّه اعتَمَر عُمرتَه الرابعةَ مع حَجَّةِ الوداعِ، وحَجَّ معه جماهيرُ المسلمين، لم يتخَلَّفْ عن الحجِّ معه إلَّا من شاء الله. وهو في ذلك كُلِّه لا هو ولا أحدٌ من أصحابِه يأتي غارَ حِرَاءٍ، ولا يزورُه، ولا شيئًا من البِقاعِ التي حولَ مكَّةَ، ولم يكن هناك عبادةٌ إلَّا بالمسجِدِ الحرامِ، وبين الصَّفا والمروةِ، وبمنًى والمزدَلِفةِ وعَرَفاتٍ، وصَلَّى الظُّهرَ والعَصْرَ ببَطنِ عُرَنةَ، وضُرِبَت له القُبَّةُ يومَ عَرَفةَ بنَمِرَةَ المجاورةِ لعَرَفةَ. ثمَّ بعده خلفاؤه الراشدون وغيرُهم من السَّابقين الأوَّلين، لم يكونوا يسيرون إلى غارِ حِراءٍ ونحوِه للصَّلاةِ فيه والدُّعاءِ، وكذلك الغارُ المذكورُ في القرآنِ في قَولِه تعالى:
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة: 40] وهو غارٌ بجَبَلِ ثورٍ، يماني مكَّةَ، لم يَشرَعْ لأمَّتِه السَّفَرَ إليه وزيارتَه والصَّلاةَ فيه والدُّعاءَ، ولا بنى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمكة مسجِدًا، غيرَ المسجِدِ الحرامِ، بل تلك المساجِدُ كُلُّها مُحدَثةٌ؛ مسجِدُ المَولِدِ وغيرُه، ولا شَرَع لأمتَّهِ زيارةَ موضِعِ المولِدِ، ولا زيارةَ موضِعِ بَيعةِ العَقَبةِ الذي خَلفَ مِنًى، وقد بُني هناك له مسجِدٌ، ومعلومٌ أنَّه لو كان هذا مشروعًا مستحبًّا يثيبُ اللهُ عليه، لكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعلمَ النَّاسِ بذلك، ولكان يُعلِمُ أصحابَه ذلك، وكان أصحابُه أعلَمَ بذلك وأرغَبَ فيه ممَّن بعدهم، فلمَّا لم يكونوا يلتفتون إلى شيءٍ من ذلك، عُلِمَ أنَّه من البِدَعِ المحْدَثةِ التي لم يكونوا يَعُدُّونها عبادةً وقُربةً وطاعةً، فمَن جعَلَها عبادةً وقُربةً وطاعةً فقد اتَّبَع غيرَ سبيلِهم، وشَرَع من الدِّينِ ما لم يأذَنْ به اللهُ.
وإذا كان هذا حُكمَ مقامِ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مِثلِ غارِ حِراءٍ الذي ابتُدِيَ فيه بالإنباءِ والإرسالِ، وأُنزِلَ عليه فيه القُرآنُ، مع أنَّه كان قبل الإسلامِ يتعَبَّدُ فيه، وفي مِثلِ الغارِ المذكورِ في القُرآنِ الذي أَنزَلَ اللهُ فيه سكينتَه عليه؛ فمن المعلومِ أنَّ مقاماتِ غَيرِه من الأنبياءِ أبعَدُ عن أن يُشرَعَ قَصْدُها والسَّفَرُ إليها لصَلاةٍ أو دُعاءٍ أو نحوِ ذلك، إذا كانت صحيحةً ثابتةً، فكيف إذا عُلِمَ أنَّها كَذِبٌ، أو لم يُعلَمْ صَحَّتُها؟... وأيضًا: فإنَّ المكانَ الذي كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصَلِّي فيه بالمدينةِ النبويَّةِ دائمًا لم يكُنْ أحدٌ مِن السَّلَفِ يَستَلِمُه ولا يقَبِّلُه، ولا المواضِعَ التي صلَّى فيها بمكَّةَ وغَيرِها، فإذا كان الموضِعُ الذي كان يطَؤُه بقَدَميه الكريمتَينِ، ويصَلِّي عليه، لم يُشرَعْ لأمَّتِه التمَسُّحُ به ولا تقبيلُه، فكيف بما يقالُ: إنَّ غَيرَه صلَّى فيه أو نام عليه؟!
وإذا كان هذا ليس بمشروعٍ في مَوضِعِ قَدَميه للصَّلاةِ، فكيف بالنَّعلِ الذي هو موضِعُ قَدَميه للمَشْيِ وغَيرِه؟ هذا إذا كان النَّعلُ صحيحًا، فكيف بما لا يُعلَمُ صِحَّتُه، أو بما يُعلَمُ أنَّه مكذوبٌ؛ كحِجارةٍ كثيرةٍ يأخُذُها الكذَّابون، ويَنحِتون فيها موضِعَ قَدَمٍ، ويَزعُمونَ عند الجُهَّالِ أنَّ هذا الموضِعَ قَدَمُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإذا كان هذا غيرَ مَشروعٍ في مَوضِعِ قَدَميه، وقَدَمَي إبراهيمَ الخليلِ الذي لا شَكَّ فيه، ونحن مع هذا قد أُمِرْنا أن نتَّخِذَه مُصَلًّى، فكيف بما يقالُ: إنَّه مَوضِعُ قَدَمَيه كَذِبًا وافتراءً عليه، كالموضِعِ الذي بصَخرةِ بيتِ المقدِسِ، وغيرِ ذلك من المقاماتِ؟
فإنْ قيل: قد أَمَر اللهُ أن نتَّخِذَ مِن مقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى، فيُقاسُ عليه غيرُه.
قيل له: هذا الحُكمُ خاصٌّ بمقامِ إبراهيمَ الذي بمكَّةَ، سواءٌ أُريدَ به المقامُ عند الكعبةِ؛ موضِعُ قيامِ إبراهيمَ، أو أُريدَ به المشاعِرُ: عَرَفةُ ومُزدَلِفةُ ومِنًى، فلا نزاعَ بين المسلمين أنَّ المشاعِرَ خُصَّت من العباداتِ بما لم يَشرَكْها فيه سائِرُ البقاعِ، كما خُصَّ البيتُ بالطَّوافِ، فما خُصَّت به تلك البِقاعُ لا يقاسُ بها غيرُها، وما لم يُشرَعْ فيها فأَولى ألَّا يُشرَعَ في غيرِها، ونحن استدلَلْنا على أنَّ ما لم يُشرَعْ هناك من التَّقبيلِ والاستلامِ أَولى ألَّا يُشرَعَ في غَيرِها، ولا يلزَمُ أن يُشرَعَ في غير تلك البِقاعِ مِثلُ ما شُرِعَ فيها)
.
3- من التبَرُّكِ البِدْعيِّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد وفاتِه: التبَرُّكُ بأثَرِ قَدَمِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:يُوجَدُ في بعضِ البِلدانِ الآنَ ما يُسَمَّى بـ (أثَرِ مَوطِئِ قَدَمِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)، وهو عبارةٌ عن حِجارةٍ عليها أثَرُ قَدَمٍ، يَزعُمُ بعضُ النَّاسِ أنَّها قَدَمُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيتبَرَّكونَ بها مَسحًا وتقبيلًا ومشاهدةً، ودعاءً عِندَها، وغيرَ ذلك. وهذا العَمَلُ باطِلٌ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: عَدَمُ ثُبوتِ صِحَّةِ ذلك بأدِلَّةٍ مُعتبَرةٍ يُعتَمَدُ عليها، وإنَّما هي مجَرَّدُ إشاعاتٍ اكتَسَبَت شُهرةً مُستفيضةً.
وقد أنكَرَ جُملةً مِن أهلِ العِلمِ المحقِّقين صِحَّةَ ذلك.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (كذلك الصَّخرةُ أي: صَخرةُ بيتِ المَقدِسِ إنَّما يُعَظِّمُها اليهودُ وبعضُ النَّصارى. وما يذكُرُه بعضُ الجُهَّالِ فيها من أنَّ هناك أثَرَ قَدَمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأثَرَ عِمامتِه وغيرَ ذلك: فكُلُّه كَذِبٌ)
.
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (كُلُّ حديثٍ في الصَّخرةِ فهو كَذِبٌ مُفتَرًى، والقدَمُ الذي فيها كَذِبٌ موضوعٌ مِمَّا عَمِلَته أيدي المزَوِّرين الذين يُرَوِّجون لها؛ لِيَكثُرَ سوادُ الزَّائرين)
.
وسُئِلَ
السُّيوطيُّ عن الأثَرِ الموجودِ بصَخرةِ بيتِ المقدِسِ المعروفِ هناك بقَدَمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صحيحٌ أو لا؟ فأجاب بأنَّه لم يقِفْ في ذلك على أصلٍ ولا سنَدٍ، ولا رأى من خَرَّجَه في شيءٍ مِن كُتُبِ الحديثِ
.
وقال محمَّدُ بنُ يوسُفَ الصَّالحيُّ الشَّاميُّ تلميذُ السُّيوطيِّ: (ذَكَر كثيرٌ مِن المُدَّاحِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا مشى على الصَّخرِ غاصت قَدَماه فيه. ولا وُجودَ لذلك في كتُبِ الحديثِ البتَّةَ. وقد أنكَرَه الإمامُ برهانُ الدِّينِ النَّاجي الدِّمَشقيُّ رحمه اللهُ تعالى وجَزَم بعَدَمِ وُرودِه، والشَّيخُ رحمه اللَّه تعالى يعني
السُّيوطيَّ في فتاويه، وقال: إنَّه لم يَقِفْ له على أصلٍ ولا سَنَدٍ، ولا رأى من خَرَّجه في شيءٍ مِن كُتُبِ الحديثِ. وناهيك باطِّلاعِ الشَّيخِ رحمه اللهُ تعالى. وقد راجَعْتُ الكُتُبَ اللَّاتي ذكرها في آخِرِ الكِتابِ فلم أرَ من ذكَرَ ذلك، فشيءٌ لا يُوجَدُ في كُتُبِ الحديثِ والتواريخِ كيف تَسوغُ نِسبتُه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟!)
.
وقال الرَّحَّالةُ العيَّاشيُّ: (عندَ رأسِ القبرِ يعني قَبْرَ السُّلطانِ قايتباي في مِصرَ حَجَرٌ مبنيٌّ عليه بناءٌ حَسَنٌ، فيه أثرُ قدَمينِ شاع عند النَّاسِ أنَّهما قدما النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهناك حَجَرٌ آخَرُ فيه أثَرُ قَدَمٍ يقالُ: إنَّها قدَمُ الخليلِ، والنَّاسُ يَزورونَها، ويذكُرونَ أنَّها من الذَّخائِرِ التي فاز بها السُّلطانُ قايتباي أيَّامَ سَلْطَنتِه، فجُعِلَت عند قبرِه رجاءَ برَكتِها، ولا يَبعُدُ ذلك؛ فقد كان مَلِكًا عظيمًا عَدْلًا موَقَّرًا مُهابًا محبَّبًا إلى الخَلقِ، ذا سِيرةٍ حَسَنةٍ في الرَّعِيَّةِ، واجتهادٍ في عبادةِ رَبِّه، إلَّا أنَّا لم نَرَ مَن نَصَّ على أنَّه ظَفِرَ بشَيءٍ مِن هذه الآثارِ مِن المؤرِّخين، بل قد ذكر جماعةٌ من حُفَّاظِ المحدِّثين أنَّ ما استفاض واشتَهَر خصوصًا على ألسِنَةِ الشُّعَراءِ والمُدَّاحِ مِن أنَّ رِجْلَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غاصت في الحَجَرِ: لا أصلَ له، ولم يذكُرْ أحدٌ أنَّ أثَرَ الخليلِ عليه السَّلامُ موجودٌ في غيرِ حَجَرِ المقامِ)
.
وقال ابنُ العجميِّ: (فلا يخفى على ذوي البصائِرِ أنَّ ما ذُكِرَ آنِفًا جميعُه من عَدَمِ ثُبوتِ نِسبةِ جميعِ تلك الأحجارِ المعَيَّنةِ بمِصرَ وغَيرِها، إنَّما الغَرَضُ منه تنزيهُ الجَنابِ الرَّفيعِ الأعلى، والمقامِ الكريمِ الأسنى، عن أن يُنسَبَ إلى حِماه الأجلِّ الأحمى ما لم يَثبُتْ عنه أصلًا، ولا ورد لا قولًا ولا فِعلًا، فلا يتوهَّمُ عاقِلٌ البتَّةَ من نفيِ ذلك نقصًا -مَعاذَ اللهِ وحاشا وكَلَّا- بل ذلك يقتضي زيادةَ رفعتِه العظيمةِ، وإنافةَ مَنزلتِه الكريمةِ، بحيث لا يُحامُ حَولَ ذلك الحمى الأعظَمِ إلَّا بما ورد عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونصَّ على ثُبوتِه من يُوثَقُ به من الأئمَّةِ الحُفَّاظِ الأعلامِ، جَهابذةِ الإسلامِ)
.
الوَجهُ الثَّاني: إذا افترَضْنا صِحَّةَ وجودِ أثَرٍ لقَدَمِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّه لا يجوزُ التبَرُّكُ به مُطلقًا؛ لِما سَبَق تقريرُه من عَدَمِ مشروعيةِ التبَرُّكِ بالمواضِعِ التي جَلَس أو صَلَّى فيها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأثَرُ القَدَمِ جزءٌ من تلك المواضِعِ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (فإذا كان الموضِعُ الذي كان يطَؤُه بقَدَميه الكريمتَينِ، ويصَلِّي عليه، لم يُشرَعْ لأمَّتِه التمَسُّحُ به ولا تقبيلُه، فكيف بما يقالُ: إنَّ غَيرَه صلَّى فيه أو نام عليه؟!
وإذا كان هذا ليس بمشروعٍ في مَوضِعِ قَدَميه للصَّلاةِ، فكيف بالنَّعلِ الذي هو موضِعُ قَدَميه للمَشْيِ وغَيرِه؟ هذا إذا كان النَّعلُ صحيحًا، فكيف بما لا يُعلَمُ صِحَّتُه، أو بما يُعلَمُ أنَّه مكذوبٌ؛ كحِجارةٍ كثيرةٍ يأخُذُها الكذَّابون، ويَنحِتون فيها موضِعَ قَدَمٍ، ويَزعُمونَ عند الجُهَّالِ أنَّ هذا الموضِعَ قَدَمُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإذا كان هذا غيرَ مَشروعٍ في مَوضِعِ قَدَميه، وقَدَمَي إبراهيمَ الخليلِ الذي لا شَكَّ فيه، ونحن مع هذا قد أُمِرْنا أن نتَّخِذَه مُصَلًّى، فكيف بما يقالُ: إنَّه مَوضِعُ قَدَمَيه كَذِبًا وافتراءً عليه، كالموضِعِ الذي بصَخرةِ بيتِ المقدِسِ، وغيرِ ذلك من المقاماتِ؟
فإنْ قيل: قد أَمَر اللهُ أن نتَّخِذَ مِن مقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى، فيُقاسُ عليه غيرُه.
قيل له: هذا الحُكمُ خاصٌّ بمقامِ إبراهيمَ الذي بمكَّةَ، سواءٌ أُريدَ به المقامُ عند الكعبةِ؛ موضِعُ قيامِ إبراهيمَ، أو أُريدَ به المشاعِرُ: عَرَفةُ ومُزدَلِفةُ ومِنًى، فلا نزاعَ بين المسلمين أنَّ المشاعِرَ خُصَّت من العباداتِ بما لم يَشرَكْها فيه سائِرُ البقاعِ، كما خُصَّ البيتُ بالطَّوافِ، فما خُصَّت به تلك البِقاعُ لا يقاسُ بها غيرُها، وما لم يُشرَعْ فيها فأَولى ألَّا يُشرَعَ في غيرِها، ونحن استدلَلْنا على أنَّ ما لم يُشرَعْ هناك من التَّقبيلِ والاستلامِ أَولى ألَّا يُشرَعَ في غَيرِها)
.
وقال أيضًا: (قد تبيَّنَ الجوابُ في سائِرِ المسائِلِ المذكورةِ بأنَّ قَصْدَ الصَّلاةِ والدُّعاءِ عندما يقالُ: إنَّه قَدَمُ نبيٍّ أو أثَرُ نبيٍّ أو قَبرُ نبيٍّ أو قَبرُ بعضِ الصَّحابةِ أو بَعضِ الشُّيوخِ أو بعضِ أهلِ البَيتِ أو الأبراجِ أو الغِيرانِ: مِنَ البِدَعِ المُحدَثةِ المُنكَرةِ في الإسلامِ، لم يَشرَعْ ذلك رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا كان السَّابِقونَ الأوَّلونَ والتَّابعون لهم بإحسانٍ يَفعَلونَه، ولا استحَبَّه أحدٌ مِن أئمَّةِ المسلمين، بل هو من أسبابِ الشِّركِ، وذرائِعِ الإفكِ)
.
4- من التبَرُّكِ البِدْعيِّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد وفاتِه: التبَرُّكُ بمكانِ وِلادةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:اختلف العُلَماءُ والمؤَرِّخون في تعيينِ مكانِ وِلادتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا تُوجَدُ أدِلَّةٌ صحيحةٌ تحدِّدُ هذا الموضِعَ على وَجهِ اليقينِ.
قال الرَّحَّالةُ العيَّاشيُّ: (قد عُلِمَ مِن كُتُبِ السِّيَرِ ما وقع مِن الاختلافِ في مَولِدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هل هو بمكَّةَ، أو بالأبواءِ، وعلى أنَّه بمكَّةَ فقِيلَ بالشِّعْبِ، وقيل بالمحَصَّبِ، إلى غيرِ ذلك مِن الأقوالِ ... والعَجَبُ أنَّهم عَيَّنوا محلًّا من الدَّارِ مِقدارَ مَضجَعٍ، وقالوا له: مَوضِعُ وِلادتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَبعُدُ عندي كُلَّ البُعدِ تعيينُ ذلك من طريقٍ صَحيحٍ أو ضعيفٍ؛ لِما تقَدَّم من الخلافِ في كونِه في مكَّةَ أو غيرِها، وعلى القَولِ بأنَّه فيها ففي أيِّ شِعابِها؟ وعلى القَولِ بتعيينِ هذا الشِّعبِ ففي أيِّ الدُّورِ؟ وعلى القَولِ بتعيينِ الدَّارِ فيَبعُدُ كُلَّ البُعدِ تعيينُ الموضِعِ من الدَّارِ، بعدَ مرورِ الأزمانِ والأعصارِ، وانقِطاعِ الآثارِ)
.
وفي اختِلافِ العُلَماءِ والمؤرِّخين في تحديدِ مَوضِعِ وِلادةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دليلٌ على عَدَمِ اهتِمامِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم بهذا الأمرِ؛ لأنَّه لا يتعَلَّقُ به عَمَلٌ شرعيٌّ، وإلَّا لنُقِلَ اتِّفاقُهم على مكانٍ مُعَيَّنٍ معروفٍ، كما تُعرَفُ أماكِنُ مَشاعِرِ الحَجِّ مَثَلًا، وحتَّى لو صَحَّت مَعرِفةُ مكانٍ ولادتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَما جاز التبَرُّكُ به.
والاستِدلالُ بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ صلَّى ليلةَ الإسراءِ في بيتِ لَحمٍ؛ لأنَّه مَوضِعُ ولادةِ عيسى عليه السَّلامُ: استِدلالٌ غيرُ صحيحٍ؛ لعَدَمِ ثُبوتِ ذلك عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحتَّى لو ثبت فإنَّه ليس بدليلٍ على جوازِ الصَّلاةِ في مكانِ وِلادةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تبرُّكًا واحتسابًا للأجر؛ لعَدَمِ صِحَّةِ القياسِ في العِباداتِ؛ لأنَّها توقيفيَّةٌ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (قد ثَبَت في الصَّحيحِ
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا أتى بيتَ المَقدِسِ ليلةَ الإسراءِ صَلَّى فيه ركعتينِ ))
، ولم يُصَلِّ بمكانٍ غيرِه ولا زارَه، وحديثُ المعراجِ فيه ما هو في الصَّحيحِ، وفيه ما هو في السُّنَنِ والمسانيدِ، وفيه ما هو ضعيفٌ، وفيه ما هو من الموضوعاتِ المُختَلَقاتِ، مِثلُ ما يَرْويه بعضُهم فيه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له
جِبْريلُ: هذا قَبرُ أبيكَ إبراهيمَ، انزِلْ فصَلِّ فيه، وهذا بَيتُ لحمٍ مَولِدُ أخيك عيسى، انزِلْ فصَلِّ فيه
... فهذا ونحوُه من الكَذِبِ المختَلَقِ باتِّفاقِ أهلِ المعرفةِ، وبيتُ لحمٍ كَنيسةٌ مِن كنائسِ النَّصارى، ليس في إتيانِها فضيلةٌ عند المسلمينَ، سواءٌ كان مَولِدَ عيسى أو لم يكُنْ، بل قَبرُ إبراهيمَ الخليلِ لم يكُنْ في الصَّحابةِ ولا التَّابعين لهم بإحسانٍ من يأتيه للصَّلاةِ عنده، ولا الدُّعاءِ، ولا كانوا يَقصِدونَه للزِّيارةِ أصلًا، وقد قَدِمَ المسلمون إلى الشَّامِ غيرَ مَرَّةٍ مع عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، واستوطن الشَّامَ خلائِقُ مِنَ الصَّحابةِ، وليس فيهم من فَعَل شيئًا مِن هذا، ولم يَبْنِ المسلمون عليه مَسجِدًا أصلًا)
.
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (قد قيلَ: إنَّه يعني النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نزلَ ببَيتِ لَحمٍ، وصَلَّى فيه، ولم يصِحَّ ذلك عنه البتَّةَ)
.
المسألةُ الثانيةُ: مِن أنواعِ التبَرُّكِ البِدْعيِّ: التبَرُّكُ بالصَّالِحينَ
لم يَرِدْ دليلٌ صحيحٌ صريحٌ على مشروعيَّةِ التبَرُّكِ بأجسادِ الصَّالحينَ أو آثارِهم، ولم يَرِدْ عن أحَدٍ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا تابعيهم أنَّهم تبَرَّكوا بجَسَدِ أو آثارِ أحدٍ مِن الصَّالحين؛ فلم يتبَرَّكوا بأفضَلِ هذه الأمَّةِ بعد نبيِّها، وهو
أبو بكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه، ولا بغَيرِه مِن العَشرةِ المبشِّرين بالجنَّةِ، ولا بأحدٍ مِن أهلِ البَيتِ ولا غَيرِهم
.
ومِن أنواعِ التبَرُّكِ المُحَرَّمِ بالصَّالحينَ:1- التمَسُّحُ بهم، ولُبسُ ثيابِهم، أو الشُّربُ بعد شُربِهم طلبًا للبَرَكةِ.
2- تقبيلُ قُبورِهم، والتمَسُّحُ بها، وأخذُ تُرابِها طلبًا للبركةِ، وقد نَصَّ كثيرٌ من العُلَماءِ على حُرمةِ كُلِّ هذا
.
قال عليُّ بنُ عبدِ اللهِ الطيالسي: (مسَحْتُ يَدي على
أحمدَ بنِ حَنبلٍ، ثمَّ مَسَحْتُ يدي على بَدَني وهو ينظُرُ، فغَضِبَ غَضَبًا شديدًا، وجعل ينفُضُ نَفْسَه، ويقولُ: عمَّن أخَذْتُم هذا؟! وأنكره إنكارًا شديدًا)
.
وقال المهَلَّبُ في سياقِ كَلامِه على التبرُّكِ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (... وأمَّا الشَّعرُ فإنما استعمله الناسُ على سبيلِ التبرُّكِ به من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةً، وليس ذلك من غيرِه بتلك المنزلةِ، وكذلك النَّعلانِ مِن بابِ التبرُّكِ أيضًا، ليس لأحدٍ في ذلك مَزِيَّةُ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يُتبَرُّكُ من غيرِه بمثلِ ذلك)
.
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (العُكوفُ على القبورِ والتمَسُّحُ بها وتقبيلُها والدُّعاءُ عندها وفيها، ونحوُ ذلك؛ هو أصلُ الشِّركِ وعبادةِ الأوثانِ؛ ولهذا قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم:
((اللَّهُمَّ لا تجعَلْ قبري وَثَنًا يُعبَدُ))
.
وقال
ابنُ الحاجِّ مُبَيِّنًا ما على العالِمِ من التحذيرِ مِنَ البِدَعِ التي تكونُ في المسجِدِ النبويِّ: (يُحَذِّرُهم من تلك البِدَعِ التي أُحدِثَت هناك، فترى مَن لا عِلْمَ عنده يطوفُ بالقَبرِ الشَّريفِ كما يطوفُ بالكعبةِ الحرامِ، ويتمَسَّحُ به ويقَبِّلُه، ويُلقون عليه مناديلَهم وثيابَهم، يَقصِدونَ به التبَرُّكَ، وذلك كُلُّه مِنَ البِدَعِ؛ لأنَّ التبَرُّكَ إنَّما يكونُ بالاتِّباعِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما كان سَبَبَ عبادةِ الجاهليَّةِ للأصنامِ إلَّا مِن هذا البابِ، ولأجْلِ ذلك كَرِه علماؤنا -رحمةُ اللهِ عليهم- التمَسُّحَ بجِدارِ الكعبةِ، أو بجدرانِ المسجِدِ، أو بالمصحَفِ، إلى غيرِ ذلك ممَّا يُتبرَّكُ به؛ سَدًّا لهذا البابِ، ولِمُخالفةِ السُّنَّةِ؛ لأنَّ صِفةَ التعظيمِ موقوفةٌ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكُلُّ ما عَظَّمَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نعَظِّمُه ونتَّبِعُه فيه، فتعظيمُ المصحَفِ قِراءتُه، والعَمَلُ بما فيه، لا تقبيلُه، ولا القيامُ إليه، كما يفعَلُ بعضُهم في هذا الزَّمانِ، وكذلك المسجِدُ تعظيمُه الصَّلاةُ فيه، لا التمَسُّحُ بجُدرانِهـ)
.
المسألةُ الثالثةُ: مِن أنواعِ التبَرُّكِ البِدْعيِّ: التبَرُّكُ بالأزمانِ والأماكنِ والأشياءِ التي لم يَرِدْ في الشَّرعِ ما يدُلُّ على فَضْلِها
كالتبَرُّكِ ببَعضِ الأشجارِ والأحجارِ والأعمِدةِ والآبارِ والعُيونِ التي يَظُنُّ بعضُ النَّاسِ أنَّ لها فضلًا؛ إمَّا لظَنِّهم أنَّ أحَدَ الأنبياءِ والأولياءِ وَقَف على ذلك الحَجَرِ، أو لاعتقادِهم أنَّ نبيًّا نام تحت تلك الشَّجَرةِ، أو يعتَقِدونَ أنَّ نبيًّا اغتَسَل في تلك البِئرِ أو العَينِ، أو أنَّ شَخْصًا اغتَسَل فيها فشُفِيَ، ونحو ذلك، فيَغْلُونَ فيها، ويَتبرَّكون بها، فيتمَسَّحون بالأشجارِ والأحجارِ، ويغتَسِلون بماءِ هذه البِئرِ أو تلك العَينِ؛ طلبًا للبَرَكةِ، ويُعَلِّقونَ بالشَّجَرةِ الثِّيابَ وغَيرَه، وهذا العَمَلُ محَرَّمٌ بإجماعِ أهلِ العِلمِ، وفيه إحداثُ عِباداتٍ ليس لها أصلٌ في الشَّرعِ، وهو من أعظَمِ أسبابِ الوُقوعِ في الشِّرْكِ الأكبَرِ
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (قد اتَّفَق العُلَماءُ على ما مضت به السُّنَّةُ، من أنَّه لا يُشرَعُ الاستِلامُ والتقبيلُ لمقامِ إبراهيمَ الذي ذكَرَه اللهُ تعالى في القُرآنِ، وقال:
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] . فإذا كان هذا بالسُّنَّةِ المتواترةِ وباتِّفاقِ الأئِمَّةِ لا يُشرَعُ تقبيلُه بالفَمِ، ولا مَسْحُه باليَدِ؛ فغَيرُه من مقاماتِ الأنبياءِ أَولى ألَّا يُشرَعَ تقبيلُها بالفَمِ، ولا مَسْحُها باليَدِ.
وأيضًا، فإنَّ المكانَ الذي كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصَلِّي فيه بالمدينةِ النبويَّةِ دائِمًا، لم يكُنْ أحدٌ مِن السَّلَفِ يَستَلِمُه ولا يُقَبِّلُه، ولا المواضِعَ التي صلَّى فيها بمكَّةَ وغَيرَها، فإذا كان الموضِعُ الذي كان يطَؤُه بقَدَمَيه الكريمتينِ، ويصَلِّي عليه، لم يَشرَعْ لأمَّتِه التمَسُّحَ به ولا تقبيلَه، فكيف بما يقالُ: إنَّ غيرَه صَلَّى فيه أو نام عليه؟)
.
وقال وليُّ الله الدهلوي: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ: المسجِدِ الحرامِ، والمسجِدِ الأقصى، ومَسْجدي هذا ))
أقول: كان أهلُ الجاهليَّةِ يقصِدون مواضِعَ مُعَظَّمةً بزَعْمِهم يزورونَها، ويتبرَّكون بها، وفيه من التحريفِ والفَسادِ ما لا يخفى، فَسَدَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الفسادَ؛ لئلَّا يَلتَحِقَ غيرُ الشَّعائرِ بالشَّعائرِ، ولئلَّا يصيَر ذريعةً لعبادةِ غيرِ اللهِ، والحَقُّ عندي أنَّ القبرَ ومحَلَّ عبادةِ وليٍّ من أولياءِ اللهِ، والطُّورَ؛ كُلُّ ذلك سواءٌ في النَّهيِ. واللهُ أعلَمُ)
.
وقال عبدُ اللطيفِ بنُ عبدِ الرَّحمن آل الشَّيخ: (أمَّا ما يفعَلُه بعضُ النَّاسِ مع من يَقدَمُ من المدينةِ؛ من الاستشفاءِ بريقِهم على الجراحِ، فهذا لا أصلَ له، ولم يجئْ فيمن أتى من المدينةِ خُصوصيَّةٌ توجِبُ هذا، والحاجُّ أفضَلُ منه، ولا يُعرَفُ أنَّ أحدًا من أهلِ العِلمِ فَعَل هذا مع الحاجِّ)
.
وعن أبي واقدٍ اللَّيثيِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: إنَّهم خَرَجوا عن مكَّةَ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى حُنَينٍ، وكان للكُفَّارِ سِدرةٌ يَعكُفونَ عِندَها، ويُعَلِّقون بها أسلِحَتَهم، يُقالُ لها: ذاتُ أنواطٍ، قال: فمَرَرْنا بسِدرةٍ خَضراءَ عَظيمةٍ، فقُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، اجعَلْ لنا ذاتَ أنواطٍ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((قُلتُم والذي نفسي بيَدِه كما قال قومُ موسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] إنَّها السُّنَنُ، لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَن كان قَبْلَكم سُنَّةً سُنَّةً))
.
قال
محمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخِ: (البَرَكةُ لا تُطلَبُ إلَّا مِن اللهِ، وطَلَبُها مِن غيرِ اللهِ شِركٌ، كما تقَدَّمَ في حديثِ أبي واقِدٍ اللَّيثيِّ)
.
ومن المعلومِ أنَّه ليس هناك حَجَرٌ أو غيرُه يُشرَعُ مَسحُه أو تقبيلُه تبَرُّكًا، حتى مقامُ إبراهيمَ الخليلِ عليه السَّلامُ لا يُشرَعُ تَقبيلُه مُطلَقًا، مع أنَّه قد وَقَف عليه، وأثَّرَت فيه قَدَماه عليه السَّلامُ.
ومَسْحُ الحَجَرِ الأسوَدِ وتقبيلُه، وكذلك مَسْحُ الرُّكن ِاليَماني في أثناءِ الطَّوافِ: إنَّما هو من بابِ التعبُّدِ للهِ تعالى، واتِّباعِ سُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولذلك قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه لَمَّا جاء إلى الحَجَرِ الأسوَدِ: (إنِّي أعلَمُ أنَّك حَجَرٌ لا تضُرُّ ولا تنفَعُ، ولولا أنِّي رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقَبِّلُك ما قَبَّلْتُك)
.
وممَّا يدخُلُ في ذلك التبَرُّكُ ببَعضِ الأيَّامِ واللَّيالي التي يُقالُ بوُقوعِ أحداثٍ عظيمةٍ فيها، كليلةِ السَّابعِ والعِشرينَ مِن شَهرِ رَجَبٍ التي يقالُ بوقوعِ
الإسراءِ والمِعراجِ فيها
.
المسألةُ الرابعةُ: مِن أنواعِ التبَرُّكِ البِدْعيِّ: التبَرُّكُ بالأماكِنِ والأزمانِ والأشياءِ الفاضِلةِ بغَيرِ الوَجهِ الذي يجوزُ في الشَّرعِ التبَرُّكُ به
ورَدَت نُصوصٌ شَرعيَّةٌ عديدةٌ تدُلُّ على فَضلِ وبَرَكةِ كثيرٍ مِن الأماكِنِ؛ كالكَعبةِ المُشَرَّفةِ، والمساجدِ الثَّلاثةِ، وكثيرٍ مِن الأزمانِ؛ كليلةِ القَدْرِ، ويومِ عَرَفةَ، والعديدِ مِن الأشياءِ الأُخرى؛ كماءِ زَمْزَم، والسُّحورِ للصَّائِمِ، والتَّبكيرِ في طَلَبِ الرِّزقِ، وغيرِ ذلك.
فالتبَرُّكُ بهذه الأشياءِ يكونُ بحَسَبِ ما ورد في الشَّرعِ الذي دَلَّ على فَضْلِها، وأبانَ بَرَكتِها، ولا يجوزُ التبَرُّكُ بها بغيرِ ما ورد، فمَن تبَرَّك بالأزمانِ أو الأماكِنِ أو الأشياءِ التي وردت نصوصٌ تدُلُّ على فَضْلِها أو بركَتِها، بتخصيصِها بعباداتٍ أو تبرُّكاتٍ أُخرى لم يَرِدْ في الشَّرعِ ما يدُلُّ على تخصيصِها بها؛ فقد خالف المشروعَ، وأحدَثَ بِدعةً ليس لها أصلٌ في الشَّرعِ، وذلك كمَن يَخُصُّ ليلةَ القَدرِ بعُمرةٍ، وكمن يتبَرَّكُ بجُدرانِ الكعبةِ بتقبيلِها أو مَسْحِها، أو يتمَسَّحُ بمقامِ إبراهيمَ أو بالحِجْرِ المسَمَّى حِجْرَ إسماعيلَ، أو بأستارِ الكعبةِ، أو بجُدرانِ المسجِدِ الحرامِ، أو المسجِدِ النبَويِّ، وأعمِدَتِهما ونحوِ ذلك، فهذا كُلُّه محَرَّمٌ، وهو مِنَ البِدَعِ المُحْدَثةِ، وقد اتَّفَق أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسَلَفُ هذه الأمَّةِ على عَدَمِ مَشروعيَّتِه
.
روى الأزرقيُّ بإسنادِه عن قتادةَ، قال في قَولِه تعالى:
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] : (إنَّما أُمِروا أن يصُلُّوا عندَه ولم يُؤمَروا بمَسْحِه، ولقد تكَلَّفَت هذه الأمَّةُ شيئًا ما تكلَّفَتْه الأُمَمُ قَبْلَها، ولقد ذُكِرَ لنا بعضُ من رأى أثَرَه وأصابِعَه، فما زالت هذه الأمَّةُ تمسَحُه حتى اخلولق وانماحَ)
.
وقال الحليميُّ: (ومن رأى مقامَ إبراهيمَ صَلَواتُ اللهِ عليه فلْيُصَلِّ عليه، ولا يلمَسِ المقامَ، ولا يُقَبِّلْه، رأى
ابنُ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهما قومًا يمسحون المقامَ، فقال: لم تُؤمَروا بهذا، إنما أُمِرْتُم بالصَّلاةِ عنده، وقال مجاهِدٌ: لا يُقَبَّلُ المقامُ ولا يُلمَسُ)
.