الموسوعة العقدية

المَطْلَب الثَّاني: فَهمُ الحُجَّةِ

لا بُدَّ أن يكونَ بُلوغُ الحُجَّةِ مُعتَبَرًا [1414] عَبَّرَ عن ذلك عبدُ اللطيفِ بنُ حَسَن بقَولِه: (بعد قيامِ الحُجَّةِ، وبُلوغِها المعتَبَرِ). ((الدرر السنية)) (1/467). ، بأن يَفهَمَه المخاطَبُ ويَعقِلَه [1415] يُنظر: ((الدرر السنية)) (1/467)، ((مصباح الظلام)) لعبد اللطيف بن حسن (ص 499)، ((تفسير ابن عثيمين - الزخرف)) (ص: 390). .
 قال اللهُ تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النحل: 82] .
قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فإن أدبر هؤلاء المشركونَ -يا محمَّدُ- عمَّا أرسَلْتُك به إليهم من الحَقِّ، فلم يستجيبوا لك وأعرَضوا عنه، فما عليك من لومٍ ولا عَذلٍ؛ لأنَّك قد أدَّيت ما عليك في ذلك؛ إنَّه ليس عليك إلَّا بلاغُهم ما أُرسِلْتَ به، ويعني بقَولِه: الْمُبِينُ الذي يُبِينُ لِمن سَمِعَه حتى يَفْهَمَه) [1416] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/324). .
وقال ابنُ حزمٍ: (كُلُّ ما قُلْنا فيه: إنَّه يَفسُقُ فاعِلُه أو يَكفُرُ بعد قيام الحُجَّةِ عليه، فهو ما لم تَقُمِ الحُجَّةُ عليه معذورٌ مأجورٌ، وإن كان مخطِئًا، وصِفةُ قيامِ الحُجَّةِ عليه أن تبلُغَه، فلا يكونُ عندَه شيءٌ يقاوِمُها، وباللهِ التوفيقُ) [1417] يُنظر: ((الإحكام)) (1/74). .
وقال ابنُ القيم: (العذابُ يُستحَقُّ بسببينِ؛ أحَدُهما: الإعراضُ عن الحُجَّةِ وعَدَمُ إرادةِ العِلمِ بها وبموجِبِها. الثَّاني: العنادُ لها بعد قيامِها، وتَرْكُ إرادةِ مُوجِبِها. فالأوَّلُ: كُفرُ إعراضٍ، والثَّاني: كُفرُ عنادٍ. وأمَّا كُفرُ الجَهلِ مع عَدَمِ قيامِ الحُجَّةِ وعدَمِ التمكُّنِ من معرفتِها، فهذا الذى نفى اللهُ التعذيبَ عنه حتى تقومَ حُجَّةُ الرُّسُلِ) [1418] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 414). .
 وقال أبو السُّعودِ في تفسيرِ قَولِه تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة: 6] : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ويتدبَّرَه ويطَّلِعَ على حقيقةِ ما تدعو إليه، والاقتصارُ على ذِكْرِ السَّماعِ لعَدَمِ الحاجةِ إلى شيءٍ آخرَ في الفَهمِ؛ لكَونِهم من أهلِ اللَّسَنِ والفَصاحةِ) [1419] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/ 44). .
وقال حمد بن معمر: (كُلُّ من بلَغَه القرآنُ فليس بمعذورٍ؛ فإنَّ الأصولَ الكِبارَ -التي هي أصلُ دينِ الإسلامِ- قد بَيَّنها اللهُ في كتابِه، ووضَّحَها وأقام بها الحُجَّةَ على عبادِه، وليس المرادُ بقيامِ الحُجَّةِ أن يفهَمَها الإنسانُ فَهمًا جَلِيًّا كما يفهَمُها من هَداه الله، ووَفَّقه وانقاد لأمْرِه) [1420] يُنظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (5/638). .
وعَلَّق عليه محمد رشيد رضا قائلًا: (هذا القَيدُ الذي قَيَّد الشَّيخُ به الفَهمَ هنا قد أزال اللَّبسَ الذي يتبادَرُ إلى الذِّهنِ من بعضِ إطلاقاتِه في مواضِعَ أُخرى، واتَّبَعه فيه بعضُ عُلَماءِ نَجدٍ؛ فصار بعضُهم يقول بأنَّ الحُجَّةَ تقوم على النَّاسِ ببُلوغِ القرآنِ، وإن لم يفهَمْه من بلَغَه مُطلقًا. وهذا لا يُعقَلُ، ولا يتَّفِقُ مع قَولِه تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء: 115] الآية. الذي بنى عليه المحقِّقون قَولهم: إنَّ فَهمَ الدَّعوةِ بدليلِها شرطٌ لقيامِ الحُجَّةِ، وقد عَلِمْنا من هذا القيدِ أنَّ الفَهمَ الذي لا يشترِطُه الشَّيخُ، هو فِقهُ نُصوصِ القُرآنِ المؤثِّرُ في النَّفسِ، الحامِلُ لها على تَرْكِ الباطِلِ، كما يفقَهُها من اهتدى بها. ففَهْمُ التفَقُّهِ في الحقيقةِ أخصُّ من فَهمِ المعنى اللُّغَويِّ، كما يدُلُّ عليه استعمالُ القُرآنِ، وحديثُ ((من يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْه في الدِّيِن )) متَّفَق عليه [1421] أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037) مطولًا من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. ، وفي روايةٍ حَسَنةٍ زيادةُ "ويُلهِمه رُشْدَه" [1422] أخرجها الطبراني (19/340) (786) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. . والمشركون الَّذين شَبَّههم اللهُ بالصُّمِّ البُكمِ المختومِ على قلوبِهم، والمطبوعِ عليها، والمجعولِ عليها الأكِنَّةُ: كُلُّهم قد فهموا مدلولَ آياتِ القُرآنِ في التوحيدِ والبعثِ والرِّسالةِ؛ لأنَّهم أهلُ اللُّغةِ، وقد أُنزِلَت بأفصَحِ أساليبِها) [1423] يُنظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (5/638). .
وقال سُلَيمانُ بنُ سَحمانَ: (الذي يظهَرُ لي -واللهُ أعلَمُ- أنَّها لا تقومُ الحُجَّةُ إلَّا بمن يُحسِنُ إقامَتَها، وأمَّا من لا يحسِنُ إقامتَها كالجاهِلِ الذي لا يَعرِفُ أحكامَ دينِه، ولا ما ذكَرَه العُلَماءُ في ذلك، فإنَّه لا تقومُ به الحُجَّةُ) [1424] يُنظر: ((منهاج أهل الحق والاتباع)) (ص: 85). .
وقال محمَّدُ رشيد رضا: (من لم يفهَمِ الدَّعوةَ لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ) [1425] يُنظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (5/514). .
وقال ابنُ عثيمين: (الحُجَّةُ لا تقومُ إلَّا إذا بَلَغت المكَلَّفَ على وَجهٍ يَفهَمُها... وأمَّا من بلَغَه النَّصُّ ولكِنَّه لم يَعرِفْ منه معنًى أصلًا، كرجُلٍ أعجَميٍّ بلَغَه النَّصُّ باللُّغةِ العَرَبيَّةِ، ولكِنْ لا يدري ما معنى هذا النَّصِّ، فهذا لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ بلا شَكٍّ، ودليلُ هذا قَولُ اللهِ تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [إبراهيم: 4] أي: بعد البَيانِ بهذا اللِّسانِ الذي يَفهَمونَه يُضِلُّ اللهُ من يَشاءُ، فلا يَقبَلُ، ويَهْدي من يَشاءُ فيَقبَلُ. وأيُّ فائدةٍ لرجُلٍ أعجَميٍّ يُقرَأُ عليه القُرآنُ مِن لسانٍ عَربيٍّ، وهو لا يدري ما هو؟ ... فالذي نرى: أنَّه لا بدَّ مِن بُلوغِ الحُجَّةِ، وفَهمِ مَعناها على وَجهٍ يتبَيَّنُ له الحَقُّ) [1426] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 98). .

انظر أيضا: