الموسوعة العقدية

الفَرعُ الثَّامنُ: أقوالُ العُلَماءِ في القَرنِ الثَّامن

1. أحمد بن عبد الحليم بن تيميَّة. ت: 728هـ
قال ابنُ تيميَّةَ: (هؤلاء القائِلونُ بقَولِ جَهمٍ والصَّالحي قد صَرَّحوا بأَنَّ سبَّ اللهِ ورَسولِه والتَّكلُّمَ بالتَّثليثِ وكُلِّ كَلِمةٍ مِن كلامِ الكُفْرِ؛ ليس هو كفرًا في الباطِنِ، ولكنَّه دليلٌ في الظَّاهِرِ على الكُفْرِ، ويجوز مع هذا أَنْ يكونَ هذا السابُّ الشَّاتِم في الباطِنِ عارفًا باللهِ مُوَحِّدًا له مُؤمِنًا به! فإذا أُقيمَتْ عليهم حجَّةٌ بنصٍّ أو إجماعٍ أَنَّ هذا كافِرٌ باطنًا وظاهرًا قالوا: هذا يقتضي أَنَّ ذلك مستلزِمٌ للتَّكذيبِ الباطِنِ، وأَنَّ الإيمانَ يَستلزِمُ عَدَمَ ذلك، فيقال لهم: معنا أمرانِ معلومانِ:
أحَدُهما: معلومٌ بالاضطرارِ مِن الدِّينِ. والثَّاني: معلومٌ بالاضطرارِ مِن أنفُسِنا عند التَّأمُّلِ. أمَّا الأوَّلُ: فإنَّا نعلَمُ أَنَّ من سبَّ اللهَ ورَسولَه طوعًا بغير كَرْهٍ [1147] أي: بغيرِ إكراهٍ، بدليلِ قَولِه: ((طَوعًا بغيرِ كَرْه))، ولو كان المقصودُ بغير كُرْه، أي: بغيرِ بُغضٍ –كما ذكر بعضُهم- لقال: ((حبًّا بغيرِ كُرْهٍ))، وأيضًا بدليلِ قَولِه بعد ذلك: ((طائعًا غيرَ مُكْرَهٍ))، ثم من تأمَّل كلامَه رحمه الله في ((الفتاوى)) يجِدْه دائمًا يكرِّرُ قَولَه: (طائعًا غيرَ مُكرَهٍ). ، بل من تكلَّم بكَلِماتِ الكُفْر طائعًا غير مُكْرَهٍ، ومن استهزأ باللهِ وآياتهِ ورَسولِه؛ فهو كافِرٌ باطنًا وظاهرًا، وإِنَّ من قال: إِنَّ مثل هذا قد يكونُ في الباطِنِ مُؤمِنًا بالله، وإِنَّما هو كافِرٌ في الظَّاهِرِ، فإنَّه قال قولًا معلومَ الفَسادِ بالضَّرورةِ مِن الدِّينِ، وقد ذكر اللهُ كَلِماتِ الكفَّارِ في القُرآنِ، وحَكَم بكُفْرِهم واستحقاقِهم الوعيدَ بها، ولو كانت أقوالُهم الكُفْريَّةُ بمنزلةِ شهادةِ الشُّهودِ عليهم، أو بمنزلةِ الإقرارِ الذي يَغلَطُ فيه المقِرُّ، لم يجعَلْهم اللهُ من أهلِ الوعيدِ بالشَّهادةِ التي قد تكونُ صِدْقًا، وقد تكون كَذِبًا، بل كان ينبغي أَلَّا يعذِّبَهم إلَّا بشَرطِ صِدْقِ الشَّهادةِ، وهذا كقَولِه تعالى:  لقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة: 73] ،  لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17] ، وأمثالِ ذلك.
وأمَّا الثَّاني: فالقَلْبُ إذا كان معتَقِدًا صِدْقَ الرَّسولِ، وأَنَّه رسولُ اللهِ، وكان محِبًّا لرَسولِ اللهِ معظِّمًا له؛ امتنع مع هذا أن يلعَنَه ويَسُبَّه، فلا يُتَصَّورُ ذلك منه إلَّا مع نوعٍ من الاستِخفافِ به وبحرمَتِه؛ فَعُلِمَ بذلك أنَّ مجرَّدَ اعتقادِ أَنَّه صادِقٌ لا يكونُ إيمانًا إلَّا مع محبَّتِه، وتعظيمِه بالقَلْبِ) [1148] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/557). .
وقال أيضًا: (قَولُه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَليْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللهِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ* أُوْلئِكَ الذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ [النحل: 106- 109] ، فقد ذكر تعالى من كَفَر باللهِ مِن بعدِ إيمانِهِ، وذكَرَ وعيدَه في الآخرةِ، ثُمَّ قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلى الآخِرَةِ، وبَيَّن تعالى أَنَّ الوعيدَ استحَقُّوه بهذا [1149] أي: استحقُّوا الكُفرَ بسَبَبِ حُبِّ الدُّنيا على الآخِرةِ. . ومعلومٌ أَنَّ بابَ التَّصديقِ والتَّكذيبِ والعِلمِ والجَهلِ ليس هو من بابِ الحبِّ والبُغْضِ، وهؤلاء يقولون: إِنَّما استحقُّوا الوعيدَ لزَوالِ التَّصديقِ والإيمانِ مِن قُلوبِهم، وإِنْ كان ذلك قد يكونُ سَبَبُه حُبَّ الدُّنيا على الآخِرةِ، واللهُ سُبحانَه وتعالى جَعَل استحبابَ الدُّنيا على الآخِرةِ هو الأصلَ الموجِبَ للخُسْرانِ، واستحبابُ الدُّنيا على الآخِرةِ قد يكونُ مع العِلمِ والتَّصديقِ بأَنَّ الكُفْرَ يَضُرُّ في الآخِرةِ، وبأَنَّه ما لَه في الآخرةِ من خَلاقٍ.
وأيضًا فإِنَّه سُبحانَه استثنى المكْرَهَ من الكُفَّار، ولو كان الكُفْرُ لا يكونُ إلَّا بتكذيبِ القَلْبِ وجَهْلِه، لم يُسْتَثْنَ منه المُكرَهُ؛ لأَنَّ الإكراهَ على ذلك ممتَنِعٌ، فعُلِمَ أَنَّ التَّكلُّمَ بالكُفْرِ كُفرٌ إلَّا في حالِ الإكراهِ.
وقوله تعالى:  وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا أي: لاستحبابِه الدُّنيا على الآخِرةِ، ومنه قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُصبِحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا، أو يُمسي مُؤمِنًا ويُصبِحُ كافِرًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدُّنيا )) [1150] أخرجه مسلم (118) مُطَوَّلًا باختلافٍ يسيرٍ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فمن تكلَّم بدونِ الإكراهِ، لم يتكلَّم إلَّا وصَدرُه مُنشَرِحٌ به) [1151] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/599-561) وابن تيميَّةَ هنا يقَرِّرُ أن من تكَلَّم بالكُفرِ بدونِ إكراهٍ، فقد شرح بالكُفرِ صدرًا، ولو كان الدَّاعي لذلك حبَّ الدُّنيا ومَلذَّاتِها. .
وقال: (فإن قيل: فقد قال تعالى: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا قيل: وهذا موافِقٌ لأوَّلها؛ فإِنَّه من كَفَر من غير إكراهٍ فقد شرح بالكُفْرِ صَدرًا، وإلَّا ناقَضَ أوَّلُ الآيةِ آخِرَها، ولو كان المرادُ بمن كَفَر هو الشَّارِحَ صَدْرَه، وذلك يكونُ بلا إكراهٍ، لم يستَثْنِ المكرَهَ فقط، بل كان يجِبُ أن يُستثنى المكرَهُ وغيرُ المكرَهِ إذا لم يَشرَحْ صَدْرَه، وإذا تكلَّم بكَلِمةِ الكُفْرِ طَوعًا فقد شرح بها صَدْرًا، وهي كفرٌ، وقد دلَّ على ذلك قولُه تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّل عَليْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلئِنْ سَأَلْتَهُمْ ليَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة: 64-66] ، فقد أخبر أَنَّهم كفروا بعد إيمانِهم مع قَولِهم: إنَّا تكلَّمْنا بالكُفْرِ من غيرِ اعتقادٍ له، بل كُنَّا نخوضُ ونلعَبُ، وبيَّن أَنَّ الاستهزاءَ بآياتِ اللهِ كُفرٌ، ولا يكونُ هذا إلَّا ممَّن شرح صَدْرَه بهذا الكلامِ، ولو كان الإيمانُ في قَلْبِه منَعَه أنْ يتكلَّمَ بهذا الكلامِ) [1152] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/220). .
وقال أيضًا: (من قال بلِسانِه كَلِمةَ الكُفْرِ من غير حاجةٍ عامدًا لها عالِمًا بأَنَّها كَلِمةُ كُفرٍ فإِنَّه يَكفُرُ بذلك ظاهرًا وباطنًا، ولأنَّا لا نجوِّز أَنْ يقالَ: إِنَّه في الباطِنِ يجوزُ أَنْ يكونَ مُؤمِنًا، ومن قال ذلك فقد مَرَق من الإسلامِ؛ قال سُبحانَه:  مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَليْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106] ، ومعلومٌ أَنَّه لم يُرِدْ بالكُفْرِ هنا اعتقادَ القَلْبِ فقط؛ لأَنَّ ذلك لا يُكرَهُ الرَّجلُ عليه، وهو قد استثنى من أُكْرِه، ولم يُرِدْ من قال واعتقد، لأَنَّه استثنى المُكرَه وهو لا يُكرَه على العَقدِ والقَوْلِ، وإِنَّما يُكرَهُ على القَوْلِ فقط، فعُلِم أَنَّه أراد من تكلَّم بكَلِمةِ الكُفْرِ فعليه غَضَبٌ من الله، وله عذابٌ عظيمٌ، وأَنَّه كافِرٌ بذلك، إلَّا من أُكرِهَ وهو مُطمَئِنٌّ بالإيمانِ، ولكن من شَرَح بالكُفْرِ صَدرًا من المُكرَهين، فإِنَّه كافِرٌ أيضًا، فصار من تكلَّم بالكُفْرِ كافِرًا إلَّا من أُكرِهَ فقال بلِسانِه كَلِمةَ الكُفْرِ، وقَلْبُه مطمئنٌّ بالإيمان، وقال تعالى في حقِّ المستهزئينِ: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [1153] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (ص: 524). .
وقال أيضًا: (قال سُبحانَه: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِليْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَليْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [النور: 47-51] فبيَّن سُبحانَه أَنَّ من تولَّى عن طاعةِ الرَّسولِ، وأعرَضَ عن حُكمِه، فهو من المنافِقين، وليس بمُؤمِنٍ، وأَنَّ المُؤمِنَ هو الذي يقولُ: سَمِعْنا وأَطَعْنا، فإذا كان النِّفاقُ يثبُتُ، ويزولُ الإيمانُ بمجرَّد الإعراضِ عن حُكمِ الرَّسولِ، وإرادةِ التَّحاكُمِ إلى غيرِه، مع أنَّ هذا تركٌ محْضٌ، وقد يكون سَبَبُه قوَّةَ الشَّهوةِ؛ فكيف بالتَّنَقُّصِ والسبِّ ونحوِه؟!) [1154] يُنظر: ((الصَّارم المسلول))(ص: 43). .
وقال أيضًا: (ولا فَرْقَ بين من يعتَقِدُ أَنَّ اللهَ ربُّه، وأَنَّ اللهَ أمَرَه بهذا الأمرِ ثُمَّ يقولُ: إِنَّه لا يطيعُه؛ لأَنَّ أمْرَه ليس بصوابٍ ولا سَدادٍ، وبين من يعتَقِدُ أَنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وأَنَّه صادقٌ واجبُ الاتِّباعِ في خَبَرِه وأمْرشه، ثُمَّ يسَبُّه أو يَعيبُ أمرَه أو شيئًا من أحوالِه، أو تنقَّصَه انتقاصًا لا يجوزُ أَنْ يستحقَّه الرَّسولُ؛ وذلك أَنَّ الإيمانَ قولٌ وعَمَلٌ، فمن اعتقد الوحدانيَّةَ في الألوهيَّةِ لله سُبحانَه وتعالى، والرِّسالةِ لعَبْدِه ورَسولِه، ثُمَّ لم يُتْبِعْ هذا الاعتِقادَ مُوجَبَه من الإجلالِ والإكرامِ -الذي هو حالٌ في القَلْبِ يظهَرُ أثَرُه على الجوارحِ، بل قارنه الاستخفافُ والتَّسفيهُ والازدراءُ بالقَوْلِ أو بالفِعْلِ- كان وجودُ ذلك الاعتقاِد كعَدَمِه، وكان ذلك مُوجِبًا لفسادِ ذلك الاعتقادِ، ومُزيلًا لِما فيه من المنفعةِ والصَّلاحِ؛ إذِ الاعتقاداتُ الإيمانيَّةُ تزكِّي النُّفوسَ وتُصلِحُها، فمتى لم توجِب زكاةَ النَّفسِ ولا صلاحَها فما ذاك إلَّا لأَنَّها لم ترسَخْ في القَلْبِ، ولم تَصِرْ صفةً ونعتًا للنَّفسِ ولا صَلاحًا، وإذا لم يكُنْ علمُ الإيمانِ المفروضِ صِفةً لقلب الإنسانِ لازمةً له، لم ينفَعْه، فإِنَّه يكونُ بمنـزلةِ حديثِ النَّفسِ وخواطِرِ القَلْبِ، والنَّجاةُ لا تحصُلُ إلَّا بيقينٍ في القَلْبِ، ولو أَنَّه مِثقالُ ذرَّةٍ، هذا فيما بينَه وبين اللهِ، وأمَّا في الظَّاهِرِ فيُجري الأحكامَ على ما يُظهِره من القَوْلِ والفِعْلِ) [1155] يُنظر: ((الصَّارم المسلول)) (ص: 376). .
وقال أيضًا: (إنَّ من سبَّ اللهَ أو سبَّ رَسولَه، كَفَر ظاهِرًا وباطنًا، سواءٌ كان السابُّ يعتَقِدُ أَنَّ ذلك محرَّمٌ، أو كان مُستَحِلًّا له، أو كان ذاهِلًا عن اعتقادِه، هذا مذهَبُ الفُقَهاءِ وسائِرِ أهلِ السنَّةِ القائلينَ بأنَّ الإيمانَ قولٌ وعَمَلٌ …
 وكذلك نُقِلَ عن الشَّافعيِّ أَنَّه سُئِل عمَّن هَزَلَ بشيءٍ من آياتِ الله تعالى أَنَّه قال: هو كافِرٌ، واستدلَّ بقولِ الله تعالى:  قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُواقَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66]، وكذلك قال أصحابُنا وغَيرُهم: من سبَّ اللهَ كَفَر، سواءٌ كان مازحًا أو جادًّا؛ لهذه الآيةِ، وهذا هو الصَّوابُ المقطوعُ به،... ويجِبُ أَنْ يُعلَمَ أَنَّ القَوْلَ بأَنَّ كُفرَ السَّابِّ في نَفْسِ الأمرِ إِنَّما هو لاستحلالِه السَّبَّ- زلَّةٌ مُنكَرةٌ، وهَفوةٌ عظيمةٌ… وذلك من وجوهٍ:
أحَدُها: أَنَّ الحكايةَ المذكورةَ عن الفُقهاءِ أَنَّه إِنْ كان مُستَحِلَّا كَفَر، وإلَّا فلا، ليس لها أصلٌ، وإِنَّما نقَلَها القاضي من كتابِ بَعْض المتكلِّمين الذين نقلوها عن الفُقَهاءِ، وهؤلاء نقلوا قولَ الفُقَهاءِ بما ظنُّوه جاريًا على أصولِهم، أو بما قد سَمِعوه من بَعْض المنتَسِبين إلى الفقهِ ممَّن لا يعدُّ قولُه قولًا، وقد حكينا نصوصَ أئِمَّةِ الفُقَهاءِ، وحكايةَ إجماعِهم عمَّن هو من أعلَمِ النَّاسِ بمذاهِبِهم، فلا يظنُّ ظانٌّ أَنَّ في المسألةِ خِلافًا يجعَلُ المسألةَ من مسائِلِ الخلافِ والاجتهادِ، وإِنَّما ذلك غلطٌ، لا يستطيعُ أحدٌ أَنْ يحكِيَ عن واحدٍ من الفُقَهاءِ أئمَّةِ الفتْوى هذا التَّفصيلَ البتَّةَ.
الوَجهُ الثَّاني: أَنَّ الكُفْرَ إذا كان هو الاستِحلالَ فإِنَّما معناه اعتقادُ أَنَّ السَّبَّ حلالٌ، فإِنَّه لَمَّا اعتقد أَنَّ ما حرَّمه الله تعالى حلالٌ، كفَرَ، ولا رَيْبَ أَنَّ من اعتقد في المحرَّماتِ المعلومِ تحريمُها أَنَّها حلالٌ، كَفَر، لكِنْ لا فَرْقَ في ذلك بين سبِّ النَّبيِّ، وبين قَذْفِ المُؤمِنين، والكَذِبِ عليهم، والغِيبة لهم، إلى غيرِ ذلك من الأقوالِ التي عُلِمَ أَنَّ الله حرَّمها، فإِنَّه من فَعَل شيئًا من ذلك مستحلًّا  كَفَرَ، مع أَنَّه لا يجوزُ أَنْ يُقالَ: مَنْ قذفَ مُسْلِمًا أو اغتابه كَفَر، ويعني بذلك: إذا استحَلَّه.
الوَجهُ الثَّالثُ: أَنَّ اعتقادَ حِلِّ السَّبِّ كُفرٌ، سواءٌ اقتَرَن به وجودُ السَّبِّ أو لم يقتَرِنْ، فإذَن لا أثَرَ للسبِّ في التَّكفيرِ وُجودًا وعدمًا، وإِنَّما المؤثِّرُ هو الاعتقادُ، وهو خلافُ ما أجمع عليه العُلَماءُ.
الوَجهُ الرَّابعُ: أَنَّه إذا كان المكفِّرُ هو اعتقادَ الحِلِّ، فليس في السبِّ ما يدلُّ على أَنَّ السَّابَّ مستحِلٌّ، فيجب ألَّا يكفَّرَ، لا سيَّما إذا قال: أنا أعتَقِدُ أَنَّ هذا حرامٌ، وإِنَّما أقولُ غَيظًا وسفَهًا، أو عبَثًا أو لَعِبًا، كما قال المنافقون:  إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وكما إذا قال: إِنَّما قذَفْتُ هذا وكَذَبْتُ عليه لَعِبًا وعبثًا، فإن قيل: لا يكونون كُفَّارًا، فهو خِلافُ نصِّ القرآنِ، وإنْ قيل: يكونون كُفَّارًا، فهو تكفيرٌ بغيرِ مُوجبٍ، إذا لم يجعَلْ نَفس السَّبِّ مُكفِّرًا، وقَولُ القائِلِ: أنا لا أصدِّقُه في هذا، لا يستقيمُ؛ فإنَّ التَّكفيرَ لا يكونُ بأمرٍ محتَمِلٍ، فإذا كان قد قال: أنا أعتَقِدُ أنَّ ذلك ذنبٌ ومعصيةٌ وأنا أفعَلُه، فكيف يَكفُرُ إن لم يكن ذلك كُفرًا؟ ولهذا قال سُبحانَه وتعالى:  لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ، ولم يقُلْ: قد كَذَبْتُم في قَولِكم: إِنَّما كنَّا نخوضُ ونلعَبُ، فلم يكذِّبْهم في هذا العُذر ِكما كذَّبَهم في ساِئِر ما أظهَروه من العُذرِ الذي يوجِبُ براءتَهم من الكُفْرِ لو كانوا صادقين، بل بَيَّن أَنَّهم كَفَروا بعد إيمانِهم، بهذا الخَوضِ واللَّعِبِ) [1156] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (ص: 514- 517) مع حذفِ يسير، وخلاصةُ كلامِه أنَّ سَبَّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمجرَّدِه كُفرٌ، سواءٌ استحلَّ السابُّ أو لم يستحلَّ، وسواءٌ قال: أعتَقِدُ ذلك أو لم يَقُلْ، وسواءٌ كان جادًّا أو مازحًا. .
2. علاءُ الدين عبد العزيز بن أحمد البُخاري (الحنفي). ت:730هـ
قال علاء الدين البخاري: (فإِنَّ الهَزْلَ بالرِّدَّة كُفرٌ لا بما هَزَل به، لكن بعينِ الهَزْلِ؛ لأَنَّ الهازِلَ جادٌّ في نَفسِ الهَزلِ مختارٌ راضٍ، والهَزْلُ بكَلِمةِ الكُفْرِ استخفافٌ بالدِّينِ الحقِّ؛ فصار مُرتدًّا بعينهِ لا بما هَزَل به، إلَّا أَنَّ أثَرَهما سواءٌ بخلافِ المُكْرَهِ؛ لأَنَّه غيُر مُعتَقِدٍ لِعَيْنِ ما أُكْرِه عليه.
قَولُه: لا بما هَزَل به، جوابٌ عمَّا يقالُ: إنَّ مبنى الرِّدَّةِ على تبدُّلِ الاعتقادِ، ولم يوجَدْ هاهنا لوجودِ الهَزْلِ؛ فإنَّه ينافي الرِّضاءَ بالحُكمِ؛ فينبغي أَلَّا يكونَ الهزلُ بالرِّدَّة كُفرًا كما في حالِ الإكراهِ والسُّكرِ، فقال: الهَزلُ بالرِّدَّة كُفرٌ لا بما هَزَل بهِ، لكِنْ بعَينِ الهَزْلِ، يعني: أَنَّا لا نحكُمُ بكُفرِه باعتبارِ أَنَّه اعتقد ما هَزَل به من الكُفْرِ، بل نحكُمُ بكُفْرِه باعتبارِ أَنَّ نفسَ الهَزْلِ بالكُفْرِ كُفرٌ؛ لأَنَّ الهازلَ وإِنْ لم يكُنْ راضيًا بحُكمِ ما هَزَل به لكونِه هازلًا فيه، فهو جادٌّ في نفس التَّكلُّم به مختارٌ للسَّببِ راضٍ به، فإِنَّه إذا سبَّ النبيَّ عليه السلام هازلًا مثلًا، أو دعا للهِ تعالى شريكًا هازلًا، فهو راضٍ بالتَّكلُّم به مختارٌ لذلك، وإنْ لم يكُنْ معتقِدًا لِما يدلُّ عليه كلامُه، والتَّكلُّمُ بمثلِ هذه الكَلِمةِ هازلًا استخفافٌ بالدِّينِ الحقِّ، وهو كفرٌ. قال اللهُ تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُواقَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فصار المتكلِّمُ بالكُفْرِ بطريق الهَزْلِ مُرتَدًّا بعينِ الهَزْلِ؛ لاستخفافِه بالدِّينِ الحَقِّ لا بما هَزَل به، أي: لا باعتقادِ ما هزَلَ به، إلَّا أَنَّ أثَرَهما -أي: أثرَ الهَزلِ بالكُفْرِ، وأثَرَ ما هَزَل به- سواءٌ في إزالةِ الإيمانِ، وإثباتِ الكُفْرِ، بخِلافِ المُكرَه على الكُفْرِ؛ لأَنَّه غيرُ راضٍ بالسَّبَبِ والحُكمِ جميعًا، بل يجريه على لسانِه اضطرارًا ودفعًا للشرِّ عن نَفْسِه، غيرُ معتقدٍ له أصلًا. ولا يقالُ: إنَّ الهازِلَ لا يعتقدُ الكُفْرَ أيضًا؛ لأَنَّا نقولُ: هو معتقدٌ للكُفرِ؛ لأنَّ ممَّا يجِبُ اعتقادُه حُرمةُ الاستخفافِ بالدِّينِ وعَدَمِ الرِّضاءِ به ولَمَّا رَضِيَ بالهَزْلِ معتقدًا له كان كافِرًا. كذا في بَعْضِ الشُّروحِ) [1157] يُنظر: ((كشف الأسرار)) (4/600). .
3. عبيدُ الله بن مسعود المحبوبي البخاريُّ (الحنفيُّ). ت:747هـ
قال المحبوبي: (الهَزْلُ بالرِّدَّة كفرٌ؛ لأَنَّه استخفافٌ، فيكون مرتَدًّا بعينِ الهزلِ، لا بما هَزَل به) أي: ليس كُفرُه بسَبَبِ ما هَزَل به، وهو اعتقادُ معنى كَلِمةِ الكُفْرِ التي تكلَّم بها هازلًا، فإنَّه غيُر معتَقِدٍ معناها، بل كفَّره بعينِ الهَزْلِ؛ فإنَّه استخفافٌ بالدِّين، وهو كُفرٌ، نعوذُ باللهِ تعالى منه) [1158] يُنظر: ((التوضيح شرح التنقيح)) (2/402). .
4. زين الدِّينِ عُمَرُ بن مظفر الوردي (الشَّافعي). ت:749هـ
قال ابنُ الوردي في البهجة: («بَابُ الرِّدَّةِ»
أَفْحَشُ كُفْرٍ ارْتِدَادُ مُسْـــلِمِ                مُكَلَّفٍ بِفِعْــلٍ أَوْ تَكَـلُّمِ
مَحْضٍ عِنَادًا وَبِالاسْـــتِهْزَاءِ                 وَبِاعْتِـقَادٍ مِنْهُ،كَالإِلْقَــاءِ
لِلْمُصْحَفِ الْعَـزِيزِ فِي الْقَاذُورَةِ             وَسَجْدَةٍ لِكَوْكَبٍ وَصُـورَةِ) [1159] يُنظر: ((بهجة الحاوي)) (ص: 191).
5. محمد بن أبي بكر ابن قيِّم الجوزيَّة. ت:751هـ
قال ابنُ القَيِّمِ: (وشُعَبُ الإيمانِ قِسمان: قوليَّةٌ، وفعليَّة، وكذلك شُعَبُ الكُفْرِ نوعان: قوليَّة وفعليَّة، ومن شعَبِ الإيمان القَوْليَّة: شُعبةٌ يُوجِبُ زوالُها زوالَ الإيمانَ، فكذلك مِن شُعَبِه الفِعْليَّةِ ما يُوجِبُ زوالَ الإيمانِ، وكذلك شُعَبُ الكُفْرِ القَوْليَّةُ والفِعْليَّةُ، فكما يَكفُرُ بالإتيانِ بكَلِمةِ الكُفْرِ اختيارًا، وهي شُعبةٌ مِن شُعَبِ الكُفْرِ، فكذلك يَكفُرُ بفِعلِ شُعبةٍ من شُعَبِه، كالسُّجودِ للصَّنَمِ، والاستهانَةِ بالمصحَفِ، فهذا أصلٌ.
وهاهنا أصلٌ آخرُ، وهو أنَّ حقيقةَ الإيمانِ مُرَكَّبةٌ من قولٍ وعَمَل، والقَوْلُ قسمان: قولُ القَلْبِ، وهو الاعتقادُ، وقَولُ اللِّسانِ، وهو التَّكَلُّمِ بكَلِمة الإسلامِ. والعَمَلُ قِسمان: عَمَلُ القَلْبِ، وهو نيَّتُه وإخلاصُه، وعَمَلُ الجوارحِ، فإذا زالَت هذه الأربعةُ، زالَ الإيمانُ بكمالِه، وإذا زالَ تصديقُ القَلْب، لم تنفَعْ بقيَّةُ الأجزاءِ، فإنَّ تصديقَ القَلْب شرطٌ في اعتقادِها، وكونِها نافِعةً، وإذا زال عَمَلُ القَلْبِ مع اعتقادِ الصِّدقِ، فهذا مَوضِعُ المعركةِ بين المرجِئةِ وأهلِ السُّنةِ؛ فأهلُ السُّنةِ مجمِعون على زوالِ الإيمانِ، وأَنَّه لا ينفَعُ التَّصديقُ مع انتفاءِ عملِ القَلْب، وهو محبَّتُه وانقيادُه كما لم ينفَعْ إبليسَ وفِرعَونَ وقَومَه واليهودَ والمُشْرِكين الذين كانوا يعتَقِدون صدقَ الرَّسولِ، بل ويقرُّون به سرًّا وجهرًا، ويقولون: ليس بكاذبٍ، ولكن لا نتَّبِعُه، ولا نؤمِنُ به.
وإذا كان الإيمانُ يزولُ بزوالِ عَمَلِ القَلْبِ، فغير مستنكَرٍ أَنْ يزولَ بزوالِ أعظَمِ أعمالِ الجوارحِ [1160] هذا تقرير ضمنيٌّ منه بأنَّ بعضَ أعمالِ الجوارح كالصَّلاةِ، شَرطٌ في صحَّةِ الإيمانِ، كأعمالِ القلوبِ، يزولُ الإيمانُ بزوالِها. ، ولا سيَّما إذا كان ملزومًا لعدمِ محبَّةِ القَلْبِ وانقيادِه الذي هو ملزومٌ لعَدَمِ التَّصديقِ الجازمِ كما تقدَّم تقريرُه، فإِنَّه يلزمُ من عَدَمِ طاعة القَلْبِ عَدَمُ طاعةِ الجوارحِ؛ إذْ لو أطاع القَلْبُ وانقاد، أطاعت الجوارحُ وانقادت، ويلزمُ من عدَمِ طاعتِه وانقيادِه عدَمُ التَّصديقِ المستلزِمِ للطَّاعةِ، وهو حقيقةُ الإيمانِ؛ فإنَّ الإيمانَ ليس مجرَّدَ التَّصديقِ كما تقدَّم بيانُه، وإِنَّما هو التَّصديقُ المستلزِمُ للطَّاعةِ والانقيادِ، وهكذا الهدى ليس هو مجرَّدَ مَعرِفةِ الحقِّ وتبيُّنِه، بل هو معرفتُه المستَلزِمةُ لاتِّباعِه، والعَمَلِ بمُوجِبِه، وإِنْ سمِّيَ الأوَّلُ هُدًى، فليس هو الهُدى التَّامَّ المستلزِمَ للاهتداءِ، كما أَنَّ اعتقادَ التَّصديقِ، وإِنْ سُمِّي تصديقًا، فليس هو التَّصديقَ المستلزِمَ للإيمانِ؛ فعليك بمراجَعـةِ هذا الأصلِ ومُراعاتِه) [1161] يُنظر: ((كتاب الصلاة)) (ص: 53). .
وقال  أيضًا: (وقد تقدَّم أَنَّ الذي قال لَمَّا وجد راحلتَه: اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطَأَ من شدَّة الفَرَحِ، لم يَكفُرْ بذلك، وإِنْ أتى بصريحِ الكُفْر؛ لكونِه لم يُرِدْه، والمُكْرَهُ على كَلِمةِ الكُفْر أتى بصريحِ كَلِمتِه، ولم يكفُرْ لعَدَمِ إرادتِه، بخلافِ المُستهزئِ والهازلِ؛ فإنَّه يلزمُه الطَّلاقُ والكُفْرُ، وإِنْ كان هازلًا؛ لأَنَّه قاصِدٌ للتكلُّمِ باللَّفظِ، وهَزْلُه لا يكونُ عُذرًا له، بخِلافِ المُكْرَه والمخطئِ والنَّاسي، فإِنَّه معذور، مأمورٌ بما يقولُه أو مأذونٌ له فيه، والهازلُ غير مأذونٍ له في الهَزْلِ بكَلِمة الكُفْر والعقودِ؛ فهو متكلِّمٌ باللَّفظِ مُريدٌ له، ولم يَصرِفْه عن معناه إكراهٌ ولا خطأٌ ولا نسيانٌ ولا جَهلٌ، والهَزْلُ لم يجعَلْه اللهُ ورسولُه عُذرًا صارفًا، بل صاحِبُه أحقُّ بالعقوبةِ؛ ألا ترى أنَّ الله تعالى عَذَر المكْرَهَ في تكلُّمِه بكَلِمةِ الكُفْرِ إذا كان قَلبُه مُطمئِنًّا بالإيمانِ، ولم يَعذِرِ الهازِلَ، بل قال: وَلئِنْ سَأَلْتَهُمْ ليَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65-66]) [1162] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) (3/63). .
6. تقيُّ الدِّين عليُّ بن عبد الكافي السبكيُّ (الشَّافعيُّ). ت:756هـ
قال السبُّكي: (التَّكفيرُ حكمٌ شرعيٌّ سبَبُه جَحْدُ الرُّبوبيَّةِ، أو الوحْدانيَّةِ، أو الرِّسالةِ، أو قَولٌ أو فِعلٌ حَكَمَ الشَّارعُ بأنَّه كُفرٌ، وإِنْ لم يكنْ جَحْدًا) [1163] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/586). .
7. إسماعيل بن عمر بن كثير (الشَّافعيُّ). ت:774هـ
قال ابنُ كثيرٍ في تفسيرِ قَولِه تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَليْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُوْلئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِـرُونَ [النحل: 106-109] : (أخبر تعالى عمَّن كفر به بعد الإيمانِ والتَّبصُّر، وشَرَح صَدْرَه بالكُفْرِ واطمأنَّ به، أنَّه قد غَضِبَ عليه؛ لعِلْمِهم بالإيمانِ ثُمَّ عُدُولِهم عنه، وأنَّ لهم عذابًا عظيمًا في الدَّارِ الآخرةِ؛ لأَنَّهم استحبُّوا الحياةَ الدُّنيا على الآخِرةِ، فأقدَموا على ما أقدَموا عليه من الرِّدَّةِ لأجلِ الدُّنيا،... وأمَّا قَولُه:  إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فهو استثناءٌ ممَّن كَفَر بلِسانِه، ووافق المُشْرِكين بلَفْظِه مُكرَهًا؛ لِما ناله من ضَربٍ وأذى، وقَلْبُه يأبى ما يقولُ، وهو مُطمَئِنٌّ بالإيمانِ باللهِ ورَسولِه) [1164] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 605). .
8. خليل بن إسحاق (المالكيُّ). ت:776هـ
قال خليل بنُ إسحاقَ في باب الرِّدَّة: (الرِّدَّةُ: كُفرُ المُسْلِم بصريحٍ، أو لَفظٍ يقتضيه، أو فعلٍ يتضَمَّنُه؛ كإلقاءِ مُصحَفٍ بقَذَرٍ، وشَدِّ زُنَّارٍ، وسِحرٍ…) [1165] يُنظر: ((مختصر خليل)) (ص: 281). .
9. محمَّد بن عبد الرحمن العثمانيُّ (الشَّافعيُّ). ت: بعد 780هـ
قال محمد العثماني: (الرِّدَّةُ هي قطعُ الإسلامِ بقَولٍ، أو فِعلٍ، أو نيَّةٍ) [1166] يُنظر: ((رحمة الأمَّة في اختلاف الأئمَّة)) (ص490). .
10. عالم بن العلاء الأندربتي الدهلويُّ (الحنفيُّ). ت:786هـ
نقل في الفتاوى التَّاتارخانيَّة كلام برهان الدِّين بن مازه السابق، ولم يتعقَّبْه بشيءٍ، ثمَّ قال: (وفي النِّصابِ: ولو أطلق كَلِمةَ الكُفْرِ إلَّا أَنَّه لا يعتَقِدُ، اختلف جوابُ المشايخِ، والأصحُّ أَنَّه يَكفُرُ؛ لأَنَّه يستخفُّ بدينِه) [1167] يُنظر: ((الفتاوى التاتارخانية)) لعالم بن العلاء (5/459). .
11. سعد الدِّين مسعود بن عمر التَّفتازانيُّ (الشَّافعيُّ). ت:792هـ
قال التَّفتازاني: («قوله: فيكونُ» أي: الهازِلُ بالرِّدَّة، مرتدًّا بنَفْسِ الهَزْل، لا بما هزَل به؛ لِما فيه من الاستخفافِ بالدِّينِ، وهو من أماراتِ تبدُّلِ الاعتقادِ، بدليلِ قَولِه تعالى حكايةً:  إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ الآية، وفي هذا جوابٌ عمَّا يقالُ: إِنَّ الارتدادَ إِنَّما يكونُ بتبدُّلِ الاعتقادِ، والهَزْلُ ينافيه؛ لعدم الرِّضا بالحُكمِ) [1168] يُنظر: ((شرح التلويح على التوضيح)) (2/402). .
12. بدر الدين بن محمَّد بهادر الزَّركشيُّ (الشَّافعيُّ). ت:794هـ
قال الزركشيُّ: (قال تعالى:  قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ فمن تكلَّم بكَلِمة الكُفْرِ هازِلًا، ولم يقصدِ الكُفْرَ كَفَر، وكذا إذا أخذَ مالَ غيرِه (مازحًا)، ولم يقصدِ السَّرِقَةَ حَرُم عليه) [1169] يُنظر: ((المنثور في القواعد الفقهية)) (2/380). .
13.  عبد الرَّحمن بن أحمد بن رجب (الحنبليُّ). ت:795هـ
 قال ابنُ رجب: (فقد يترُكُ دينَه ويفارق الجماعةَ وهو مقِرٌّ بالشَّهادتين، ويدَّعي الإسلامَ، كما إذا جحد شيئًا من أركانِ الإسلامِ، أو سبَّ اللهَ ورسولَه، أو كَفَر ببَعضِ الملائكةِ أو النبيِّين أو الكُتُبِ المذكورةِ في القرآنِ مع العِلمِ بذلك) [1170] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 318). .
وقال أيضًا: (وأمَّا تَرْكُ الدِّين ومفارقةُ الجماعةِ، فمعناه الارْتدادُ عن دينِ الإسلامِ، ولو أتى بالشَّهادتينِ، فلو سبَّ اللهَ ورسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو مقِرٌّ بالشَّهادتين، أُبيْحَ دمُهُ؛ لأنَّه قد ترك بذلك دينَه، وكذلك لو استهان بالمصحَفِ وألقاه في القاذوراتِ، أو جحد ما يُعْلَمُ من الدِّينِ بالضَّرورةِ، كالصَّلاةِ وما أشبَهَ ذلك مِمَّا يُخرِجُ من الدِّينِ) [1171] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 327). .
14. برهان الدِّين إبراهيم بن فرحون اليعمري (المالكيُّ). ت:799هـ
قال ابنُ فرحون: (الرِّدَّةُ -والعياذُ باللهِ، ونسألُ اللهَ حُسنَ الخاتمةِ- وهي الكُفْرُ بعد الإسلامِ، قال ابنُ الحاجب: وتكونُ بصريحٍ، وبلفظٍ يقتضيه، وبفعلٍ يتضمَّنُـه) [1172] يُنظر: ((تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام)) (2/192). ونقله لكلام ابن الحاجب دون تعقيب دليلٌ على أنَّه يرتضيه. .

انظر أيضا: