الموسوعة العقدية

المَطلَبُ الثَّاني: الأدِلَّةُ العامَّةُ مِنَ السُّنَّة النَّبَويَّةِ على وجوبِ الإيمانِ بالقَضاءِ والقَدَرِ

دلَّت نصوصُ السُّنَّةِ الشَّريفةِ على وجوبِ الإيمانِ بالقَضاءِ والقَدَرِ، والأحاديثُ الواردةُ في ذلك كثيرةٌ، منها:
1- عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ جبريلَ عليه السَّلامُ سأل النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الإيمانِ، فقال: ((أن تؤمِنَ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، وتؤمِنَ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه ))( أخرجه مسلم (8) مُطَوَّلًا. .
قال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (الإيمانُ بالقَدَرِ... حاصِلُه: هو ما دَلَّ عليه قَولُه تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ وقَولُه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وقَولُه: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وإجماعُ السَّلَفِ والخَلَفِ على صِدقِ قَولِ القائِلِ: ما شاء اللهُ كان، وما لم يشَأْ لم يكُنْ)( يُنظر: ((المفهم)) (1/ 145). .
وقال المظهريُّ في شَرحِ الحديثِ: (أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يقولون: جميعُ ما يجري في العالمِ مِنَ الخيرِ والشَّرِّ، والكُفرِ والإيمانِ، والطَّاعةِ والعصيانِ، وغيرِ ذلك، كُلُّها بتقديرِ اللهِ تعالى وقضائِه، ولكِنْ للعبادِ اختيارُها؛ فالتقديرُ مِنَ اللهِ، والكَسْبُ من العبادِ، ويخلُقُ اللهُ تعالى الأفعالَ في العبادِ؛ كُلُّ فعلٍ في الوقتِ الذي قَدَّره في الأزَلِ، والتقديرُ والفِعلُ يجريان معًا، لا يجري الفِعلُ بدون تقديرِ اللهِ، ولا التقديرُ بحُصولِ الأفعالِ في العبادِ بدونِ اختيارِهم واكتسابِهم، فهم مُثابون بالخيرِ ومُعاقَبون بالشَّرِّ بسَبَبِ أنَّ لهم اختيارًا في الفِعلِ.
ومن لم يكُنْ له اختيارٌ، كالمجنونِ والصَّبيِّ والنَّائِمِ والمُغمى عليه والمُكْرَهِ، فهم كالمرتَعِشِ في أنه لا مؤاخَذةَ عليهم بأفعالِهم فيما هو حَقُّ اللهِ تعالى، وأمَّا ما هو حقُّ العبادِ، كإتلافِ المالِ وقَتلِ النَّفسِ، فهم يؤاخَذون بالغُرمِ.
والمرتَعِشُ: هو الذي تتحرَّكُ أعضاؤه بغيرِ اختيارِه مِن عِلَّةٍ، والثوابُ والعقابُ يتعلَّقان بما في العبدِ من الاختيارِ.
وعِلَّةُ تكريرهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لفظةَ «تُؤمِن»، فقال: ((وتؤمِنَ بالقَدَرِ خيرِه وشَرِّه)) للتأكيدِ؛ لأنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ أحوَجُ إلى المبالغةِ فيه؛ لأنَّ الإيمانَ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ ظاهِرٌ مشهورٌ عند المسلمين، وأمَّا الإيمانُ بالقَدَرِ لا يعلَمُه كُلُّ أحدٍ إلَّا حاذِقٌ في علومِ الدِّينِ، فلأجْلِ هذا أكَّد وكَرَّر لفظة: «تؤمن» عند لفظِ: «القَدَر»)( يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (1/ 44). .
وقال علي القاري: (المعنى: تعتَقِدُ أنَّ اللهَ قَدَّر الخيرَ والشَّرَّ قبل خَلقِ الخلائِقِ، وأنَّ جميعَ الكائناتِ متعَلِّقٌ بقضاءِ اللهِ مُرتَبِطٌ بقَدَرِه. قال تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] ، وهو مريدٌ لها؛ لقَولِه تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام: 125] ، فالطَّاعاتُ يحِبُّها ويرضاها بخلافِ الكُفرِ والمعاصي. قال تعالى: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] ، والإرادةُ لا تستلزمُ الرِّضا)( يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (1/59). .
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخِ: (في هذا الحديثِ أنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ من أصولِ الإيمانِ السِّتَّةِ المذكورةِ، فمن لم يؤمِنْ بالقَدَرِ خيرِه وشَرِّه فقد ترك أصلًا من أصولِ الدِّينِ وجحده، فيُشبِهُ من قال اللهُ فيهم: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85] الآية)( يُنظر: ((فتح المجيد)) (ص: 476). .
2- عن أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لكُلِّ شيءٍ حقيقةٌ وما بلغَ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتَّى يَعلمَ أنَّ ما أصابَهُ لَم يكُن ليُخطِئَهُ وما أخطأهُ لَم يكُن ليُصيبَهُ ))( أخرجه أحمد (27490)، والطبراني في ((مسند الشاميين)) (2214)، والبيهقي في ((القضاء والقدر)) (202). صححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2150)، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1050 )، وحسن إسناده البزار في ((البحر الزخار)) (10/45)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (11/490). .
قال المباركفوي: ( ((حتى يعلَمَ أنَّ ما أصابه)) من النِّعمةِ والبَلِيَّةِ والطَّاعةِ والمعصيةِ ممَّا قَدَّره اللهُ له وعليه ((لم يكُنْ ليخطِئَه)) أي: يجاوِزَه ((وأنَّ ما أخطأه)) من الخيرِ والشَّرِّ ((لم يكُنْ لِيُصيبَه))، وهذا وُضِعَ مَوضِعَ المحالِ، كأنَّه قيل: مُحالٌ أن يخطِئَه... وهو مضمونُ قَولِه تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا، وفيه حَثٌّ على التوكُّلِ والرِّضاءِ، ونَفيِ الحَولِ والقُوَّةِ، وملازمةِ القناعةِ والصَّبرِ على المصائبِ)( يُنظر: ((تحفة الأحوذي)) (6/ 297). .
3- عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يؤمِنُ عَبدٌ حتى يؤمِنَ بأربَعٍ: يشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي محمَّدٌ رسولُ اللهِ بعَثَني بالحَقِّ، ويؤمِنُ بالموتِ، وبالبَعثِ بعد الموتِ، ويؤمِنُ بالقَدَرِ ))( أخرجه الترمذي (2145) واللَّفظُ له، وابن ماجه (81)، وأحمد (758). صَحَّحه ابنُ حِبَّان في ((صحيحه)) (178)، والحاكمُ على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (90)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (81)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/111)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (178)، وجوَّده الذهبي في ((الكبائر)) (299). .
قال المظهري: (قَوله: ((ولا يؤمِنُ عَبدٌ)): هذا نفيُ أصلِ الإيمانِ، لا نَفيُ الكَمالِ؛ فمن لم يؤمِنْ بواحِدٍ مِن هذه الأربعةِ لم يكُنْ مُؤمِنًا...
والرَّابعُ: أن يؤمِنَ بالقَدَرِ، يعني: يعتَقِدُ أنَّ جميعَ ما يجري في العالمِ بقَضاءِ اللهِ تعالى وقُدرتِه)( يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (1/ 209). .
وقال علي القاري: ( ((لا يؤمِنُ عَبدٌ)): هذا نفيُ أصلِ الإيمانِ، أي: لا يُعتَبَرُ ما عنده من التصديقِ القَلبيِّ)( يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (1/ 179). .
4- عن طاوسَ بنِ كَيسانَ قال: (أَدْرَكْتُ نَاسًا مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولونَ: كُلُّ شيءٍ بقَدَرٍ)، قالَ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ يقولُ: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كُلُّ شيءٍ بقَدَرٍ، حتَّى العَجْزُ وَالْكَيْسُ، أَوِ الكَيْسُ وَالْعَجْزُ ((( رواه مسلم (2655). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطبيُّ: (معنى هذا الحديثِ: أنَّ ما من شيءٍ يقَعُ في هذا الوجودِ كائِنًا كان إلَّا وقد سبق به عِلمُ اللهِ تعالى، ومشيئتُه، سواءٌ كان من أفعالِنا أو صفاتِنا، أو من غيرِها، ولذلك أتى بـ «كُل» التي هي للاستغراقِ والإحاطةِ، وعَقَّبها بحتى التي هي للغايةِ، حتى لا يخرُجَ عن تلك المقَدِّمةِ الكُلِّيَّةِ من المُمكِناتِ شَيءٌ، ولا يُتوَهَّمَ فيها تخصيصٌ، وإنما جُعِل العَجزُ والكَيسُ غايةً لذلك ليُبَيِّنَ أنَّ أفعالَنا وإن كانت معلومةً ومُرادةً لنا، فلا تقَعُ مِنَّا إلَّا بمشيئةِ اللهِ تعالى وإرادتِه وقدرتِه، كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)( يُنظر: ((المفهم)) (6/ 671). .

انظر أيضا: