الموسوعة العقدية

الْمَبحَثُ التَّاسِعُ: ظُهورُ القَلَمِ وفُشُوُّه

عَن عَبدِ الله بن مَسعودٍ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ بين يَدَيِ الساعةِ تَسليمَ الخاصَّةِ، وفُشُوَّ التِّجارةِ حَتَّى تُعِينَ الْمَرأةُ زَوجَها على التِّجارةِ، وقَطْعَ الأرحامِ، وشَهادةَ الزُّورِ، وكِتمانَ شَهادةِ الحَقِّ، وظُهورَ القَلَمِ )) [1913] أخرجه أحمد (3870) واللَّفظُ له، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (1590)، والحاكم (7043). صحَّح إسنادَه الحاكم، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/333)، والألباني على شرط مسلم في ((سلسلة الأحاديث الصَّحيحة)) (647)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3870). وفي رواية: ((وفُشُوَّ القَلَمِ)) [1914] أخرجها البخاري في ((الأدب المفرد)) (1049)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (17/297). صحَّحها الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (801). .
قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (أمَّا قَولُه في هذا الحَديثِ: ((وفَشَوَّ القَلَمِ)) فإنَّه أرادَ ظُهورَ الكِتابِ وكَثرةَ الكُتَّابِ ... قال الحَسَنُ: «لَقَد أتى علينا زَمانٌ إنَّما يُقالُ: تاجِرُ بني فلان، وكاتِبُ بني فُلانٍ، ما يَكونُ في الحَيِّ إلَّا التَّاجِرُ الواحِدُ والكاتِبُ الواحِدُ». قال الحَسَنُ: «واللهِ إنْ كان الرَّجُلُ ليَأتي الحَيَّ العَظيمَ فما يَجِدُ به كاتِبًا») [1915] يُنظر: ((التمهيد)) (17/ 297). .
وعَن عَمْرِو بنِ تَغلِبَ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ مِن أشراطِ السَّاعةِ: أن يَفشوَ الْمالُ ويَكثُرَ، وتَفشُوَ التِّجارةُ، ويَظهَرَ العِلمُ، ويَبيعَ الرَّجُلُ البَيعَ، فيَقولُ: لا؛ حَتَّى استَأمِرَ تاجِرَ بني فلانٍ، ويُلتَمَس في الحَيِّ العَظيمِ الكاتِبُ فلا يُوجَدُ )) [1916] أخرجه النسائي (4456) واللَّفظُ له، وأحمد (24009/78). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4456)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصَّحيح المسند)) (1005)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (00/78). .
قال البَرزنجيُّ: (فشُوُّ القَلَمِ كِنايةٌ عَن كثرةِ الكَتَبةِ، وقِلَّةِ العُلَماءِ، يَعني: يَكتَفونَ بتَعَلُّمِ الخَطِّ؛ ليُخالِطوا الحُكَّامَ) [1917] يُنظر: ((الإشاعة لأشراط الساعة)) (ص: 146). .
وقال حُمُود التُّوَيجريُّ: (قَولُه في رِوايةِ النَّسائي: ((ويَظهَرَ العِلمُ)) مَعناه -والله أعلَمُ- ظُهورُ وسائِلِ العِلمِ، وهيَ كُتُبُه، وقَد ظَهَرَت في هَذِه الأزمانِ ظُهورًا باهِرًا، وانتَشَرَت في جَميعِ أرجاءِ الأرضِ، ومَعَ هذا فقَد ظَهَرَ الجَهلُ في النَّاسِ، وقَلَّ فيهم العِلمُ النَّافِعُ، وهو عِلمُ الكِتابِ والسُّنةِ والعَمَلُ بهما، ولَم تُغْنِ عَنهم كثرةُ الكُتُبِ شَيئًا... ويُحتَمَلُ أنَّه وقَعَ في هَذِه اللَّفظةِ تَحريفٌ مِن بَعضِ النُّسَّاخِ، وأنَّ أصلَها: «ويَظهَرَ القَلَمُ» كما جاءَ في رِوايةِ أبي داوِدَ الطَّيالِسيِّ، وكَما ثَبَتَ ذلك في حَديثِ ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عَنه. والله أعلَمُ.
وقَولُه: ((حَتَّى أستَأمِرَ تاجِرَ بني فلانٍ)) أي: أستَشيرَه، وقَد وقَعَ هذا في زَمانِنا؛ حَيثُ وُجِدَتِ التِّلفوناتُ وغَيرُها مِن وسائِلِ نَقلِ الكَلامِ بغايةِ السُّرعةِ، فصارَ التُّجَّارُ يُشاوِرُ بَعضُهم بَعضًا في البَيعِ مِنَ الأماكِنِ القَريبةِ والبَعيدةِ.
وأمَّا قَولُه: ((ويُلتَمَس في الحَيِّ العَظيمِ الكاتِبُ، فلا يوجَدُ)): فقَد وقَعَ مِصداقُه فيما قَبلَ زَمانِنا؛ فإنَّ الكُتَّابَ كانوا قَليلًا في القُرى، وهم في الباديةِ أقَلُّ، وكَثيرٌ مِن أحياءِ الباديةِ لا يوجَدُ فيهم الكاتِبُ)  [1918]يُنظر: ((إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة)) (2/ 109). .
وقال الألبانيُّ: (في الحَديثِ إشارةٌ قَويَّةٌ إلى اهتِمامِ الحُكوماتِ اليَومَ في أغلَبِ البِلادِ بتَعليمِ النَّاسِ القِراءةَ والكِتابةَ، والقَضاءِ على الأمِّيَّةِ حَتَّى صارَتِ الحُكوماتُ تَتَباهى بذلك، فتُعلِنُ أنَّ نِسبةَ الأمِّيَّةِ قَد قَلَّتْ عِندَها حَتَّى كادَت أن تُمحى، فالحَديثُ عَلَمٌ مِن أعلامِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأبي هو وأمِّي. ولا يُخالِفُ ذلك -كما قَد يَتَوَهَّمُ البَعضُ- ما صَحَّ عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غَيرِ ما حَديثٍ أنَّ مِن أشراطِ السَّاعةِ أن يُرفَعَ العِلمُ ويَظهَرَ الجَهلُ؛ لأنَّ الْمَقصودَ به العِلمُ الشَّرعيُّ الذي به يَعرِفُ النَّاسُ رَبَّهم، ويَعبُدونَه حَقَّ عِبادَتِه، ولَيسَ بالكِتابةِ ومَحوِ الأمِّيَّةِ كما يَدُلُّ على ذلك الْمُشاهَدةُ اليَومَ؛ فإنَّ كثيرًا مِنَ الشُّعوبِ الإسلاميَّةِ فضلًا عَن غَيرِها لَم تَستَفِدْ مِن تَعَلَّمِها القِراءةَ والكِتابةَ على الْمَناهِجِ العَصَريَّةِ إلَّا الجَهلَ والبُعدَ عَنِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ، إلَّا ما قَلَّ ونَدَر، وذلك ممَّا لا حُكمَ لَه) [1919] يُنظر: ((سلسلة الأحاديث الصَّحيحة)) (6/ 635). .

انظر أيضا: