الموسوعة العقدية

الفَرعُ الثَّاني: السُّرعةُ الخارِقةُ والقُدرةُ على القيامِ بالأعمالِ الشَّاقَّةِ

ومن ذلك الجِنُّ الَّذينَ سَخَّرَهُمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ لسُلَيمانَ عليهِ السَّلامُ، فكانوا يُؤَدُّونَ لَه أعمالًا شاقَّةً عَظيمةً.
قال اللهُ تعالى في وَصفِ ذلك: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] .
وقال اللهُ سُبحانَه: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص: 36، 37].
ولما أرادَ سُلَيمانُ عليهِ السَّلامُ الإتيانَ بعَرْشِ مَلكةِ سَبَأٍ، فقال: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل: 38، 39].
ووَرَدَ كذلك قُدرَتُهم على ارتيادِ الفَضاءِ، لاستِراقِ أخبارِ السَّماءِ، فقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ حِكايةً عَنهم: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [الجن: 9] [4356] يُنظر: ((عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة)) لعبد الكريم عبيدات (ص: 50). .
قال القُرطُبيُّ: (قَولُه تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ هَذا من قَولِ الجِنِّ، أي: طَلَبْنا خَبرَها كما جَرَت عادَتُنا فوَجَدْناها قد مُلِئَت حَرَسًا شَديدًا أي حَفَظةً، يَعني المَلائِكةَ. والحَرَسُ: جَمعَ حارِسٍ، وشُهُبًا جَمعُ شِهابٍ، وهوَ انقِضاضُ الكَواكِبِ المُحْرِقةِ لَهم عَنِ استِراقِ السَّمعِ) [4357] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/ 11). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ عن سُلَيمانَ عليه السَّلامُ: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ [الأنبياء: 82] .
قال الشِّنْقيطيُّ: (قد ذَكَرَ جَلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكَريمةِ: أنَّه سَخَّرَ لسُلَيمانَ مَن يَغوصونَ لَه مِنَ الشَّياطينِ، أي: يَغوصونَ لَه في البِحارِ فيَستَخرِجونَ لَه مِنها الجَواهِرَ النَّفيسةَ، كاللُّؤْلُؤِ والمَرْجانِ...
وقد ذَكَرَ جَلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكَريمةِ أيضًا أنَّ الشَّياطينَ المُسخَّرِينَ لَه يَعمَلونَ لَه عَمَلًا دونَ ذلك، أي: سِوى ذلك الغَوصِ المَذكورِ، أي: كبِناءِ المَدائِنِ والقُصورِ، وعَمَلِ المَحاريبِ والتَّماثيلِ والجِفَانِ والقُدورِ الرَّاسياتِ، وغَيرِ ذلك مِنِ اختِراعِ الصَّنائِعِ العَجيبةِ) [4358] يُنظر: ((أضواء البيان)) (4/ 236). .
ومن أقوالِ أهْلِ العِلمِ في ذلك:
1-قال الألوسيُّ: (... ولَها قوَّةٌ على الأعمالِ الشَّاقَّةِ، ولا مانِعَ عَقلًا من أن تَكونَ بَعضُ الأجسامِ اللَّطيفةِ النَّاريَّةِ مُخالِفةً لسائِرِ أنواعِ الجِسمِ اللَّطيفِ في الماهيَّةِ، ولَها قَبولٌ لإفاضةِ الحَياةِ والقُدرةِ على أفعالٍ عَجَيبةٍ) [4359] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/ 92). .
2-قال ابن باز: (الكُهَّانُ لَهم أصحابٌ من شياطينِ الجِنِّ. ويُسَمَّى الرَّئِيَّ، يَعني: الصَّاحِبَ مِنَ الجِنِّ الَّذي يُخبِرُه عَن بَعضِ الغَيبيَّاتِ، وعَن بَعضِ ما يَقَعُ في البلدانِ، وهَذا مَعروفٌ في الجاهِليَّةِ وفي الإسلامِ، فيَقولُ لصاحِبِهِ مِنَ السَّحَرةِ والكَهَنةِ: وقَعَ كذا في بَلَدِ كذا ولَيلةَ كذا؛ لأنَّ الجِنَّ يَتَناقَلونَ الأخبارَ فيما بَينَهم، والشَّياطينُ مِنهم كذلك بسُرعةٍ هائِلةٍ من سائِرِ الدُّنيا؛ فلِهَذا قد يَغتَرُّ بهم مَن يَسمَعُ صِدْقَهم في بَعضِ المَسائِلِ) [4360])) يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/ 449). .
3- قال ابنُ عُثَيمين: (الجِنُّ أعطاهُمُ اللهُ قُدرةً عَظيمةً على الأشياءِ سُرعةً وقوَّةً؛ فَهُم يَصعَدونَ إلى السَّماءِ، ولِكُلِّ واحِدٍ مِنهم مَقعَدٌ مُعَيَّنٌ يَستَرِقونَ السَّمعَ، أيْ ما يَسمَعونَه مِنَ المَلائِكةِ، فيَقضي اللهُ تَبارك وتعالى الأمرَ في السَّماءِ، ثُمَّ يَخطِفونَ مِنه شَيئًا فيَنزِلونَ إلى أوليائِهم مِنَ البَشَرِ من بني آدَمَ، وهُمُ الكُهَّانُ، ثُمَّ يُضيفُ هَذا الكاهِنُ إلى هَذا الَّذي سَمِعَه من السَّماءِ) [4361] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 405). .
مَسألةٌ: الجِنُّ مَعَ ما أُوتوا من قُدُراتٍ فثَمَّةَ أُمورٌ يَعجِزونَ عَن فِعلِها. 
ومن ذلك:
أوَّلًا: عَدَمُ قُدرَتِهم على الإتيانِ بالمُعْجِزاتِ الإلهيَّةِ
لَيسَ في وُسعِ الجِنِّ مُطلَقًا الإتيانُ بمِثلِ المُعْجِزاتِ الَّتي جاءَ بها الرُّسُلُ عليهمُ السَّلامُ؛ فقد نَفى اللهُ تعالى أن يَكونَ القُرآنُ من صُنعِ الشَّياطينِ، وبَيَّنَ أنَّهم لا يَستَطيعونَ، فقال: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: 210- 212] .
 قال ابنُ جَريرٍ: (ما يَنبَغي للشَّياطينِ أن يَنزِلوا بهِ عليهِ، ولا يَصلُحُ لَهم ذلك. وَمَا يَسْتَطِيعُونَ يَقولُ: وما يَستَطيعونَ أن يَنزِلوا بهِ؛ لأنَّهم لا يَصِلونَ إلى استِماعِه في المَكانِ الَّذي هوَ بهِ مِنَ السَّماءِ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ يَقولُ: إنَّ الشَّياطينَ عَن سَمعِ القُرآنِ مِنَ المَكانِ الَّذي هوَ بهِ مِنَ السَّماءِ لمَعزولون، فكَيفَ يَستَطيعونَ أن يَتَنَزَّلوا به؟) [4362] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/ 652). .
وقال البَيضاويُّ: (نُفوسُهم خَبيثةٌ ظَلمانيَّةٌ شِرِّيرةٌ بالذَّاتِ لا تَقبَلُ ذلك، والقُرآنُ مُشتَمِلٌ على حَقائِقَ ومُغَيَّباتٍ لا يُمكِنُ تَلَقِّيها إلَّا مِنَ المَلائِكةِ) [4363] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/ 151). .
وتحدَّى اللهُ الإنسَ والجِنَّ أن يأتُوا بمِثْلِ هذا القُرآنِ، فقال: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88] .
 قال ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ جَلَّ ثَناؤُه: قُلْ -يا مُحَمَّدُ- للَّذين قالوا لَكَ: إنَّا نَأتي بمِثلِ هَذا القُرآنِ: لَئِنِ اجتَمَعَتِ الإنسُ والجِنُّ على أن يَأتُوا بمِثلِه لا يَأتونَ أبَدًا بمِثلِهِ ولَو كانَ بَعضُهم لبَعضٍ عَونًا وظَهْرًا) [4364] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/ 75). .
وقال السَّعديُّ: (هَذا دَليلٌ قاطِعٌ، وبُرهانٌ ساطِعٌ، على صِحَّةِ ما جاءَ بهِ الرَّسولُ وصِدْقِه، حَيثُ تَحدَّى اللهُ الإنسَ والجِنَّ أن يَأتوا بمِثلِه، وأخبَرَ أنَّهم لا يَأتونَ بمِثلِهِ، ولَو تَعاوَنوا كُلُّهم على ذلك لَم يَقدِروا عليهِ. ووَقَعَ كما أخبَرَ اللَّهُ) [4365] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 466). .
ثانيًا: عَدَمُ قُدرَتِهم على التَّمَثُّلِ بنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الرُّؤى المَناميَّةِ
تَعجِزُ الشَّياطينُ عَنِ التَّمَثُّلِ بصورةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحَقيقيَّةِ في الرُّؤيا المَناميَّةِ.
عَن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من رَآني في المَنامِ فقد رَآني؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَتَمَثَّلُ بي )) [4366] رواه البخاري (6993)، ومسلم (2266) واللَّفظُ له. ، وفي رِوايةٍ عَن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من رَآني فقد رَأى الحَقَّ؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَتَكَوَّنُني )) [4367] رواه البخاري (6997). .
 قال ابنُ حَجَرٍ: (يُشيرُ إلى أنَّ اللهَ تعالى وإنْ أمكَنَه مِنَ التَّصَوُّرِ في أيِّ صورةٍ أرادَ، فإنَّه لَم يُمكِّنْه مِنَ التَّصَوُّرِ في صورةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [4368] يُنظر: ((فتح الباري)) (12/ 386). .
 وقال الصَّنعانيُّ: ( ((من رَآني في المَنامِ فقد رَآني)) أي: فليَبْشَرْ بأنَّه رَآني حَقيقةً أو رَأى حَقيقَتي كما هيَ، فلَم يَتَّحِدِ الشَّرطُ والجَزاءُ، وهوَ في مَعنى الإخبارِ، أي: من رَآني فأخبِرْه أنَّ رُؤيَتَه حَقٌّ لَيسَت بأضغاثِ أحلامٍ، ولا تَخَيُّلاتٍ شيطانيَّةٍ، ثُمَّ أردَفَ ذلك بما هوَ تَتَميمٌ لَمَعناه، وتَعليلٌ للحُكمِ، فقال: ((فإنَّ الشَّيطانَ لا يَتَمَثَّلُ بي)) لَم يَجعَلِ اللهُ لَه ذلك في يَقَظةٍ ولا مَنامٍ؛ لئَلَّا يَكذِبَ على لسانِهِ في المَنامِ أو في اليَقَظةِ. قال جَماعةٌ مِنَ العُلَماءِ: هَذا إذا رَآه على صورَتِهِ الَّتي كانَ عليها في الدُّنيا، لا لَو رَآه على غَيرِ صورَتِهِ المَوصوفةِ، وقال النَّوَويُّ: بَل ولَو رَآه على غَيرِها [4369] قال النووي: (الصحيحُ أنَّه يراه حقيقةً، سواءٌ كان على صِفَتِه المعروفةِ أو غيرِها) ((شرح مسلم)) (15/25).  قال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (من المعلومِ: أنه يجوزُ أن يُرى في النَّومِ على حالةٍ تخالِفُ ما كان عليها في الوُجودِ من الأحوالِ اللائقةِ به، ومع ذلك فتَقَعُ تلك الرؤيا حقًّا، كما إذا رُئِي قد ملأ بلدةً، أو دارًا بجِسْمِه، فإنَّه يدُلُّ على امتلاء تلك البلدةِ بالحَقِّ والشَّرعِ، وتلك الدارِ بالبركةِ، وكثيرًا ما وقع نحوُ هذا، وأيضًا: فلو تمكَّن الشيطانُ من التمثُّلِ في شيءٍ ممَّا كان عليه، أو نُسِبَ إليه؛ لَمَا صُدِّق مُطلَقًا. قولُه: فإنَّ الشَّيطانَ لا يتمثَّلُ بي، فإنَّه إذا تمثَّل ببعض صفاتِه وأحوالِه فقد تمثَّل به؛ فالأَولى أن تُنَزَّه رُؤيةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو رؤيةُ شَيءٍ من أحوالِه، أو مما يُنسَبُ إليه عن تمكُّنِ الشَّيطانِ مِن شَيءٍ منه. ونفيُ جميع ذلك مطلقًا أبلَغُ في الحُرمةِ، وأليَقُ بالعِصمةِ، وكما عُصِم من الشَّيطانِ في يقَظتِه في كلِّ أوقاتِه، كذلك عُصِمَ منه في منامِه مع اختلافِ حالاتِه. فالصحيحُ في معنى هذا الحديث -إن شاء الله تعالى- أن يقالَ: إنَّ مقصوده الشَّهادةُ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ رؤيته في النَّومِ على أيِّ حالٍ كان ليست باطلةً، ولا من أضغاثِ الأحلامِ، بل هي حقٌّ في نفسِها، وإنَّ تصويرَ تلك الصورةِ، وتمثيلَ ذلك المثالِ ليس من قِبَلِ الشيطانِ؛ إذ لا سبيلَ له إلى ذلك، وإنما ذلك من قِبَلِ الله تعالى. وهذا مذهَبُ القاضي أبي بكرٍ وغيره من المحقِّقين. وقد شهد لذلك قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: من رآني فقد رآني، الحقَّ، أي: الحَقَّ الذي قُصِد إعلامُ الرائي به، وإذا كانت تلك حقًّا فينبغي أن يبحث عن تأويلِها، ولا يُهمِل أمرها؛ فإنَّ الله تعالى إنما مثَّل ذلك للرائي بُشرى، فينبسط للخير، أو إنذارًا لينزجِرَ عن الشَّرِّ، أو تنبيهًا على خيرٍ يحصُلُ له في دينٍ أو دنيا. واللهُ تعالى أعلَمُ) ((المفهم)) (6/ 23).  ، وقال القُرطُبيُّ بَعدَ كلامٍ: والصَّحيحُ أنَّ رُؤيَتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أيِّ حالٍ كانَ غَيرُ باطِلةٍ، ولا مِنَ الأضغاثِ، بَل حَقٌّ في نَفسِها، وتَصويرُ تِلكَ الصُّورةِ وتَمثيلُ ذلك المَقالِ لَيسَ مِنَ الشَّيطانِ، بَل جَعل اللهُ ذلك للرَّائي بُشْرى فيَنشَطُ للخَيرِ، أو إنذارًا فيَنزَجِرُ عَنِ الشَّرِّ، أو تَنبيهًا على خَيرٍ يَحصُلُ) [4370] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (10/ 228). .
ثالِثًا: عَدَمُ قُدرَتِهم على تَجاوُزِ حُدودٍ مُعَيَّنةٍ في الفَضاءِ 
قال اللهُ تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ [الرحمن: 33 - 35].
 قال ابنُ عَطِيَّةَ: (اختَلَفَ النَّاسُ في مَعنى قَولِه: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا الآية، فقال الطَّبريُّ: قال قَومٌ: في الكَلامِ مَحذوفٌ وتَقديرُه: يُقالُ لَكُم يا مَعشَرَ الجِنِّ والإنسِ، قالوا وهذه حِكايةٌ عَن حالِ يَومِ القيامةِ في يَومِ التَّنادِّ، على قِراءةِ مَن شَدَّدَ الدَّالَ. قال الضَّحاكُ: وذلك أنَّه يَفِرُّ النَّاسُ في أقطارِ الأرضِ، والجِنُّ كذلك؛ لِما يَرَونَ من هولِ يَومِ القيامةِ... وقال بَعضُ المُفَسِّرين: بَل هيَ مُخاطَبةٌ في الدُّنيا. والمَعنى: إنِ استَطَعتُم الفِرارَ مِنَ المَوتِ... والأقطارُ: الجِهاتُ. وقَولُه: فانفُذُوا صيغةُ الأمرِ ومَعناه التَّعجيزُ. والسُّلطانُ هُنا القوَّةُ على غَرَضِ الإنسانِ، ولا يُستَعمَلُ إلَّا في الأعظَمِ مِنَ الأمرِ والحُجَجِ أبَدًا مِنَ القَويِّ في الأُمورِ؛ ولِذلك يُعَبِّرُ كثيرٌ مِنَ المُفَسِّرين عَنِ السُّلطانِ بأنَّه الحُجَّةُ. وقال قَتادةُ: السَّلطانُ هُنا المُلكُ، ولَيسَ لَهم مُلْكٌ، والشُّواظُ: لَهَبُ النَّارِ. قاله ابنُ عَبَّاسٍ وغَيرُه) [4371] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/ 230). .
رابِعًا: عَدَمُ قُدرَتِهم على فتحِ بابٍ أُغلِقَ وذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليهِ
عَن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فإنَّ الشَّيطانَ لا يَفتَحُ بابًا مُغلَقًا، وأوكُوا قِرَبَكُم، واذَكُروا اسمَ اللَّهِ، وخَمِّروا آنيَتَكُم، واذَكُروا اسمَ اللَّهِ، ولَو أن تَعرِضوا عليها شَيئًا، وأطفِؤوا مَصابيحَكُم )) [4372] رواه البخاري (5623)، ومسلم (2012) مطولًا. .
 قال ابنُ بطالٍ: (قَولُه: ((إنَّ الشَّيطانَ لا يَفتَحُ غَلقًا)) فهوَ إعلامٌ مِنَ النَّبيِّ أنَّ اللهَ لَم يُعطِهِ قوَّةً على هَذا، وإن كانَ قد أعطاه ما هوَ أكثَرُ مِنه، وهوَ الوُلوجُ حَيثُ لا يَلجُ الإنسانُ) [4373] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (6/ 77). .
خامِسًا: عَدَمُ قُدرَتِهم على طَعنِ عيسى وأمِّه مَريَمَ عليهما السَّلامُ حينَ وُلِدَا
عَن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما من مَولودٍ يُولَدُ إلَّا والشَّيطانُ يَمَسُّه حينَ يُولَدُ، فيَستَهِلُّ صارِخًا من مَسِّ الشَّيطانِ إيَّاه، إلَّا مَريَم وابنَها )) ثُمَّ يَقولُ أبو هُريرةَ: واقرَؤوا إنْ شِئتُم: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36] )) [4374] رواه البخاري (4548) واللَّفظُ له، ومسلم (2658). .
 قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هَذا الحَديثِ ما يَدُلُّ على شِدَّةِ عَداوةِ هَذا العَدُوِّ الكافِرِ؛ لأنَّه بَلَغَ من عَداوَتِهِ أنَّه إذا رَأى الطِّفلَ حينَ وِلادَتِه على ضَعْفِهِ ووَهْنِه بادَرَ إلى نَخْسِه حَتَّى يَستَهِلَّ صارِخًا، فأرادَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُعَلِّمَنا هذه عَداوَتَه ليَكونَ الطِّفلُ حَذِرًا من نَزَغاتِهِ. وفيه أنَّ الله تعالى سَلَّمَ مَريَمَ وابنَها مِنه، باستِعاذةِ أمِّ مَريَمَ، هوَ قَولُها: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ فدَلَّ هَذا على أنَّه يُستَحَبُّ لكُلِّ مُؤْمِنٍ أن يَستَعيذَ برَبِّه لذُرِّيَّتِهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ) [4375] يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (6/ 57). .

انظر أيضا: