المَطْلَبُ الثَّالِثُ: من صِفاتِ الجِنِّ أنَّهم يَموتونَ ثُمَّ يُبعَثونَ بَعدَ المَوتِ
قال اللهُ تعالى:
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [الأحقاف: 18] .
قال ابنُ عَطِيَّةَ: (قَولُه:
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ يَقتَضي أنَّ
الجِنَّ يَموتونَ كما يَموتُ البَشَرُ قَرْنًا بَعدَ قَرنٍ، وقد جاءَ حَديثٌ يَقتَضي ذلك.
وقال الحَسَنُ بنُ أبي الحَسَنِ في بَعضِ مَجالِسِهِ: إنَّ
الجِنَّ لا يَموتونَ، فاعتَرَضَه قَتادةُ بهذه الآيةِ فسَكَت
.
وقال الشبليُّ: (مَعنى قَولِ الحَسَن أنَّ
الجِنَّ لا يَموتونَ أنَّهم مُنظَرونَ مَعَ
إبليسَ، فإذا مات ماتوا مَعَه، وظاهِرُ القُرآنِ يَدُلُّ على أنَّ
إبليسَ غَيرُ مَخصوصٍ بالإنظارِ إلى يَومِ القيامةِ، أمَّا ولَدُه وقَبيلُه فلَم يَقُمْ دَليلٌ على أنَّهم مُنظَرونَ مَعَه، وظاهِرُ قَولِه تعالى:
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الأعراف: 15] يَدُلُّ على أنَّ ثَمَّ مُنظَرِينَ غَيرَ
إبليسَ، ولَيسَ في القُرآنِ ما يَدُلُّ على أنَّ المُنظَرِينَ هُمُ
الجِنُّ كُلُّهم، فيُحتَمَلُ أن يَكونَ بَعضُ
الجِنِّ مُنظَرِينَ، أمَّا كُلُّهم فلا دَليلَ عليهِ)
.
وقال
ابن حجر الهيتمي: (الآيةُ دَليلٌ على أنَّهم يَموتونَ، فإنْ أرادَ الحَسَنُ أنَّهم لا يَموتونَ مِثلَنا، بَل يُنظَرونَ مَعَ
إبليسَ، فإذا مات ماتوا مَعَه، قُلنا: إنْ أرادَ ذلك في بَعضِهم كشياطينِ
إبليسَ وأعوانِه فهوَ مُحتَمَلٌ، وإن أرادَ أنَّهم كُلَّهم كذلك نافاه ما قدَّمناه مِنَ الوَقائِعِ الكَثيرةِ أنَّهم ماتوا وكُفِّنوا ودُفِنوا)
.
وعَن
عَبدِ اللهِ بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانَ يَقولُ:
((اللَّهُمُ لَكَ أسلَمتُ، وبِكَ آمَنتُ، وعليكَ تَوَكَّلتُ، وإليكَ أنبْتُ، وبِكَ خاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إنّي أعوذُ بعِزَّتِكَ، لا إلَهَ إلَّا أنتَ، أنْ تُضِلَّني، أنتَ الحَيُّ الَّذي لا يَموتُ، والجِنُّ والإنسُ يَموتونَ ))
.
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيِّ: (قَولُه:
((والجِنُّ والإنسُ يَموتونَ)) إنَّما خَصَّ هَذَين النَّوعَين بالمَوتِ، وإن كانَ جَميعُ الحَيَوانِ يَموتُ؛ لأنَّ هَذَين النَّوعَين هُما المُكَلَّفانِ المَقصودانِ بالتَّبليغِ، واللهُ أعلَمُ)
.
وعَن أبي سَعيدِ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّه قال في حَديثِهِ عَنِ الفَتى الَّذي قَتَلَ الحَيَّةَ في بَيتِهِ فماتَ من فورِهِ مَصروعًا:
((فما يُدرى أيُّهُما أسرَعُ مَوتًا الحَيَّةُ أمِ الفَتى))، وقد كانَت تِلكَ الحَيَّةُ مِنَ
الجِنِّ الَّذينَ يَسكُنونَ المَدينةَ؛ لقَولِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في هَذا الحَديثِ:
((إنَّ بالمَدينةِ جِنًّا قد أسلَموا ... ))
.
قال مُحَمَّد الأمين الهَرريُّ: (قَولُه:
((الحَيَّةُ أمِ الفَتى)) يَعني ماتَ الفَتى من ساعَتِهِ حَتَّى لا يُدرى الحَيَّةُ ماتَت قَبلَه أو هوَ مات قَبلَها؛ وذلك لأنَّه قَتلَه
الجِنُّ انتِقامًا من قَتلِه للحَيَّةِ الَّتي كانَت مِنَ
الجِنِّ وجاءَت على صورةِ الحَيَّةِ)
.
كما أنَّ
الجِنَّ مَبعوثون من بَعدِ موتِهم.
قال اللهُ تعالى في سُؤالِ الكَفَرةِ مِنَ الجِنسَين في الآخِرةِ:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا [الأنعام: 130] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (هَذا مِمَّا يُقَرِّعُ اللهُ بهِ سُبْحانَه وتعالى كافِري
الجِنِّ والإنسِ يَومَ القيامةِ؛ حَيثُ يَسألُهم وهوَ أعلَمُ: هَل بلَّغَتْهمُ الرُّسُلُ رِسالاتِه؟ وهَذا استِفهامُ تَقريرٍ:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ أي: من جُملَتِكُم. والرُّسُلُ مِنَ الإنسِ فقَط، ولَيسَ مِنَ
الجِنِّ رُسُلٌ، كما قد نَصَّ على ذلك مُجاهِدٌ، وابنُ جُرَيجٍ، وغَيرُ واحِدٍ مِنَ الأئِمةِ مِنَ السَّلَفِ والخَلفِ)
.
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (يُخبِرُ تعالى أنَّه قد سَبَقَ في قَضائِهِ وقدَرِهِ، لعِلمِهِ التَّامِّ وحِكَمتِهِ النَّافِذةِ، أنَّ مِمَّن خَلقَه مَن يَستَحِقُّ الجَنَّةَ، ومِنهم مَن يَستَحِقُّ النَّارَ، وأنَّه لا بُدَّ أن يَملَأ جَهنَّمَ من هَذَين الثَّقَلَينِ
الجِنِّ والإنسِ، ولَه الحُجَّةُ البالِغةُ والحِكمةُ التَّامَّةُ)
.