موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: مظاهِرُ وصُوَرُ الرَّحمةِ


1- شَفَقةُ الحاكِمِ ورحمتُه برعيَّتِه، وتجنُّبُ ما من شأنِه أن يجلِبَ المشقَّةَ عليهم، ورحمةُ الإمامِ بالمأمومين:
- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((أعتَمَ [4070] أعتَمَ: إذا دخَل في العتَمةِ، والعَتَمةُ: ظُلمةُ اللَّيلِ. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (2/ 350)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/ 181). النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ ليلةٍ، حتى ذَهَب عامَّةُ اللَّيلِ، وحتَّى نام أهلُ المسجِدِ، ثمَّ خرج فصلَّى، فقال: إنَّه لوقتِها، لولا أن أشُقَّ على أمَّتي)) [4071] رواه مسلم (638). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا صلَّى أحَدُكم للنَّاسِ فليُخَفِّفْ؛ فإنَّ في النَّاسِ الضَّعيفَ والسَّقيمَ وذا الحاجةِ)) [4072] رواه البخاري (703)، ومسلم (467) واللفظ له. .
2- التَّوسُّطُ في العباداتِ وتَركُ ما يَشُقُّ على النَّفسِ مَشقَّةً بالغةً:
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((دخل علَيَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعندي امرأةٌ، فقال: مَن هذه؟ فقُلتُ: امرأةٌ لا تنامُ، تُصَلِّي، قال: عليكم من العَمَلِ ما تُطيقون، فواللهِ لا يمَلُّ اللهُ حتَّى تَملُّوا، وكان أحبَّ الدِّينِ إليه ما داومَ عليه صاحِبُه)) [4073] رواه البخاري (43) واللفظ له، مسلم (785). .
3- البِرُّ بالوالِدَينِ. قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] ، قال الطَّبريُّ: (يقولُ تعالى ذِكرُه: وكُنْ لهما ذليلًا؛ رحمةً منك بهما، تطيعُهما فيما أمراك به ممَّا لم يكُنْ للهِ معصيةً، ولا تخالِفْهما فيما أحبَّا) [4074] ((جامع البيان)) للطبري (14/ 550). .
- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((سألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: الصَّلاةُ على وقتِها. قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: ثمَّ بِرُّ الوالِدَينِ. قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: الجِهادُ في سبيلِ اللهِ)) [4075] رواه البخاري (527) واللفظ له، ومسلم (85). .
4- الوَصِيَّةُ بالمرأةِ خَيرًا والإحسانُ إليها:
قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فاتَّقوا اللهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستحلَلْتُم فُروجَهنَّ بكَلِمةِ اللهِ)) [4076] رواه مسلم (1218) مطوَّلًا من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
5- تقبيلُ الأولادِ والعَطفُ والشَّفَقةُ عليهم، والحُزنُ إذا أصابهم مكروهٌ:
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: تُقَبِّلون الصِّبيانَ! فما نُقَبِّلُهم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوَأَملِكُ لك أن نَزَع اللهُ مِن قَلبِك الرَّحمةَ؟)) [4077] رواه البخاري (5998) واللفظ له، ومسلم (2317). .
وعن أُسامةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((أرسَلَت ابنةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليه: إنَّ ابنًا لي قُبِض فائْتِنا. فأرسَلَ يُقرِئُ السَّلامَ، ويقولُ: إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكُلٌّ عندَه بأجَلٍ مُسَمًّى، فلتصبِرْ ولتحتَسِبْ. فأرسَلَت إليه تُقسِمُ عليه ليَأتِيَنَّها، فقام ومعه سعدُ بنُ عُبادةَ، ومعاذُ بنُ جَبَلٍ، وأُبَيُّ بنُ كعبٍ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، ورجالٌ، فرُفِع إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّبيُّ ونفسُه تتقَعْقَعُ [4078] تتقعقَعُ: تضطَرِبُ وتتحرَّكُ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/88). -قال: حسِبْتُه أنَّه قال: كأنَّها شَنٌّ [4079] الشَّنُّ: القِربةُ الخَلقةُ اليابسةُ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (3/157). - ففاضت عيناه. فقال سعدٌ: يا رسولَ اللهِ، ما هذا؟ فقال: هذه رحمةٌ جعَلَها اللهُ في قلوبِ عبادِه، وإنَّما يرحَمُ اللهُ من عبادِه الرُّحماءَ)) [4080] رواه البخاري (1284) واللفظ له، ومسلم (923). .
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((جاءتني مِسكينةٌ تحمِلُ ابنَتَين لها فأطعَمْتُها ثلاثَ تَمَراتٍ، فأعطَتْ كُلَّ واحدةٍ منهما تمرةً، ورفَعَت إلى فيها تمرةً لتأكُلَها، فاستطعَمَتْها ابنتاها، فشَقَّت التَّمرةَ التي كانت تريدُ أن تأكُلَها بينهما! فأعجَبَني شَأنُها، فذكَرْتُ الذي صنَعَتْ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّ اللهَ قد أوجَبَ لها بها الجنَّةَ، أو أعتقَها بها مِنَ النَّارِ)) [4081]  رواه مسلم (2630). .
6- الرَّحمةُ بمَن هم تحت سلطانه، من العبيد، والخدم، والعمال، وغيرهم:
عن المعرورِ بنِ سُوَيدٍ قال: ((لقيتُ أبا ذَرٍّ بالرَّبَذةِ [4082] الرَّبَذةُ: مكانٌ معروفٌ بَيْنَ مكَّةَ والمدينةِ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/121). وعليه حُلَّةٌ [4083] الحُلَّةُ: ثوبانِ من جنسٍ واحدٍ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/86). ، وعلى غلامِه حُلَّةٌ، فسألتُه عن ذلك فقال: إنِّي سابَبْتُ رجُلًا فعَيَّرْتُه بأمِّه، فقال لي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا أبا ذَرٍّ أعيَّرْتَه بأمِّه؟ إنَّك امرؤٌ فيك جاهليَّةٌ! إخوانُكم خَوَلُكم [4084] أي: خَدَمُكم أو عبيدُكم الذين يتخوَّلون الأمورَ، أي: يُصلِحونها. يُنظَر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (1/ 116). جعَلَهم اللهُ تحتَ أيديكم، فمن كان أخوه تحتَ يَدِه فلْيُطعِمْه ممَّا يأكُلُ، ولْيُلبِسْه ممَّا يَلبَسُ، ولا تُكَلِّفوهم ما يَغلِبُهم، فإن كَلَّفْتُموهم فأعينوهم)) [4085] رواه البخاري (30) واللفظ له، ومسلم (1661). .
7- العَفوُ عن ذي الزَّلَّةِ، والمغفرةُ للمُخطِئِ.
8- إغاثةُ الملهوفِ، ومساعدةُ الضَّعيفِ، وإطعامُ الجائِعِ، وكِسوةُ العاري، ومداواةُ المريضِ، ومواساةُ المصابِ.
9- رحمةُ اليتيمِ والإحسانُ إليه والعطفُ عليه؛ لأنَّ اليتيمَ الذي مات أبوه قبل أن يبلُغَ منكَسِرُ الخاطِرِ، يحتاجُ إلى جَبرٍ، يحتاجُ إلى من يُسَلِّيه، وإلى من يُدخِلُ عليه السُّرورَ؛ لذا قال تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [الضحى: 9] فإذا كان اللهُ آواك في يُتمِك فلا تقهَرِ اليتيمَ [4086] يُنظَر: ((تفسير ابن عثيمين - جزء عم)) (ص: 239). ، ففي الآيةِ دَلالةٌ على اللُّطفِ باليتيمِ، وِبرِّه، والإحسانِ إليه [4087] يُنظَر: ((تفسير القرطبي)) (20/100)، ((تفسير الشربيني)) (4/553). ، وعن سَهلٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنا وكافِلُ اليتيمِ في الجنَّةِ هكذا، وأشار بالسَّبَّابةِ والوُسطى، وفرَّج بَيْنَهما شيئًا)) [4088] رواه البخاري (5304). .
10- إحسانُ القِتْلةِ والذِّبحةِ:
عن شَدَّادِ بنِ أوسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ثِنْتانِ حَفِظْتُهما عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قال: ((إنَّ اللهَ كَتَب الإحسانَ على كُلِّ شيءٍ، فإذا قتَلْتُم فأحسِنوا القِتْلةَ، وإذا ذبَحتُم فأحسِنوا الذَّبحَ، ولْيُحِدَّ أحَدُكم شَفْرَتَه، فلْيُرِحْ ذَبيحتَه)) [4089] رواه مسلم (1955). .
11- اجتنابُ تعذيبِ الحيوانِ أو إخافتِه أو إجهادِه أو إجاعتِه:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((دخَلَت امرأةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ ربطَتْها، فلم تُطعِمْها، ولم تدَعْها تأكُلُ من خشاشِ الأرضِ [4090] خَشاشُ الأرضِ: هوامُّها وحشَراتُها. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (6/207). ) [4091] رواه البخاري (3318) واللفظ له، ومسلم (2242). .
وعلى نقيضِ هذه الصُّورةِ، ذَكَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صورةً أُخرى لامرأةٍ غَفَر اللهُ لها ذنبَها بسببِ كَلبٍ:
فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بينما كَلبٌ يُطيفُ [4092] يُطيفُ: أي: يَدورُ حَولَها. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/242). بركِيَّةٍ [4093] الرَّكِيَّةُ: البِئرُ مَطويَّةً أو غيرَ مَطويَّةٍ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/516). قد كاد يقتُلُه العَطَشُ، إذ رأَتْه بَغيٌّ من بغايا بني إسرائيلَ، فنَزَعَت مُوقَها [4094] الموقُ -بضَمِّ الميمِ-: هو الخُفُّ، فارسيٌّ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/242). فاستَقَت له به فسَقَتْه إيَّاه، فغُفِرَ لها به)) [4095] رواه البخاري (3467)، ومسلم (2245) واللفظ له. .
قال السَّعديُّ مُعَلِّقًا على هذينِ الحديثينِ: (ومن ذلك ما هو مشاهَدٌ مُجرَّبٌ؛ أنَّ مَن أحسَن إلى بهائمِه بالإطعامِ والسَّقيِ والملاحظةِ النَّافعةِ، أنَّ اللهَ يبارِكُ له فيها، ومن أساء إليها عوقِبَ في الدُّنيا قبلَ الآخرةِ، وقال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] ، وذلك لِما في قلبِ الأوَّلِ من القَسوةِ والغِلظةِ والشَّرِّ، وما في قلبِ الآخَرِ من الرَّحمةِ والرِّقَّةِ والرَّأفةِ؛ إذ هو بصَدَدِ إحياءِ كُلِّ مَن له قُدرةٌ على إحيائِه من النَّاسِ، كما أنَّ ما في قلبِ الأوَّلِ من القَسوةِ مستعِدٌّ لقتلِ النُّفوسِ كُلِّها) [4096] ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 171). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بينا رجُلٌ يمشي، فاشتَدَّ عليه العَطَشُ، فنَزَل بِئرًا، فشَرِب منها، ثمَّ خرج فإذا هو بكَلبٍ يلهَثُ يأكُلُ الثَّرَى من العطَشِ، فقال: لقد بلغَ هذا مِثلُ الذي بلَغ بي، فملأَ خُفَّه، ثمَّ أمسَكَه بفيه، ثمَّ رَقِيَ، فسقى الكَلبَ؛ فشَكَر اللهُ له، فغَفَر له، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وإنَّ لنا في البهائِمِ أجرًا؟ قال: في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبةٍ أجرٌ)) [4097] رواه البخاري (2363) ومسلم (2244). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رجُلًا أضجَع شاةً يريدُ أن يذبحَها وهو يحِدُّ شَفرتَه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أتريدُ أن تميتَها مَوتاتٍ؟! هلَّا حدَدْتَ شَفْرَتَك قبل أن تُضجِعَها)) [4098] رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3590)، والحاكم (7563) واللفظ له، والبيهقي (19615). صحَّحه الحاكم، وقال: على شرط البخاري، والألباني في ((صحيح الجامع)) (93)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (11/220). . وكان عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه ينهى أن تذبَحَ الشَّاةَ عِندَ الشَّاةِ [4099] رواه عبد الرزاق (8610). .

انظر أيضا: