تاسِعًا: التَّوسُّطُ بَينَ الإسرافِ والتَّقتيرِ
مِن أدَبِ الإنفاقِ: التَّوسُّطُ والاعتِدالُ بَينَ الإسرافِ
[102] قال ابنُ حَجَرٍ: (الإسرافُ: مُجاوَزةُ الحَدِّ في كُلِّ فِعلٍ أو قَولٍ، وهو في الإنفاقِ أشهَرُ). ((فتح الباري)) (10/ 253). والتَّقتيرِ، والتَّبذيرِ والتَّقصيرِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابِ1- قال تعالى في صِفاتِ عِبادِ الرَّحمَنِ:
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67] .
(أي: ليسوا بمُبَذِّرينَ في إنفاقِهم فيَصرِفونَ فوقَ الحاجةِ، ولا بُخَلاءَ على أهليهم فيُقَصِّرونَ في حَقِّهم فلا يَكفونَهم، بَل عَدلًا خيارًا، وخَيرُ الأُمورِ أوسَطُها، لا هذا ولا هذا)
[103] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 123، 124). .
2- قال تعالى:
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا * وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء: 26-29] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((كُلوا وتَصَدَّقوا والبَسوا في غَيرِ إسرافٍ ولا مَخيلةٍ [104] المَخِيلةُ والاختيالُ: العُجبُ والكِبرُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 718). ).
[105] أخرجه الترمذي (2819)، والنسائي (2559) واللَّفظُ له، وابن ماجه (3605). صَحَّحه الصَّنعانيُّ في ((سبل السلام)) (4/272)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2819)، وحَسَّنه الترمذي، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (32)، وصَحَّحَ إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (7390). قال الموفَّقُ عبدُ اللَّطيفِ البغداديُّ: (هذا الحديثُ جامِعٌ لفضائِلِ تدبيرِ الإنسانِ نَفسَه، وفيه تدبيرُ مصالحِ النَّفسِ والجَسَدِ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فإنَّ السَّرَفَ في كُلِّ شيءٍ يَضُرُّ بالجسَدِ، ويَضُرُّ بالمعيشةِ، فيؤدِّي إلى الإتلافِ، ويَضُرُّ بالنَّفسِ؛ إذ كانت تابعةً للجَسَدِ في أكثَرِ الأحوالِ، والمَخِيلةُ تَضُرُّ بالنَّفسِ؛ حيثُ تَكسِبُها العُجبَ، وتَضُرُّ بالآخِرةِ؛ حيثُ تَكسِبُ الإثمَ، وبالدُّنيا؛ حيثُ تَكسِبُ المقْتَ من النَّاسِ)
[106] ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 253). .
2- عن عَطاءِ بنِ السَّائِبِ، عن أبيه، قال: صَلَّى بنا عَمَّارُ بنُ ياسِرٍ صَلاةً، فأوجَزَ فيها، فقال له بَعضُ القَومِ: لَقد خَفَّفتَ أو أوجَزتَ الصَّلاةَ! فقال: أمَّا على ذلك فقد دَعَوتُ فيها بدَعَواتٍ سَمِعتُهنَّ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمَّا قامَ تَبعَه رَجُلٌ مِنَ القَومِ -هو أبي، غَيرَ أنَّه كَنَّى عن نَفسِه- فسَألَه عنِ الدُّعاءِ، ثُمَّ جاءَ فأخبَرَ به القَومَ:
((اللَّهُمَّ بعِلمِك الغَيبَ، وقُدرَتِك على الخَلقِ، أحيِني ما عَلِمتَ الحَياةَ خَيرًا لي، وتوَفَّني إذا عَلِمتَ الوفاةَ خَيرًا لي، اللَّهُمَّ وأسألُك خَشيَتَك في الغَيبِ والشَّهادةِ، وأسألُك كَلِمةَ الحَقِّ في الرِّضا والغَضَبِ، وأسألُك القَصدَ في الفَقرِ والغِنى، وأسألُك نَعيمًا لا يَنفَدُ، وأسألُك قُرَّة عَينٍ لا تَنقَطِعُ، وأسألُك الرِّضاءَ بَعدَ القَضاءِ، وأسألُك بَردَ العَيشِ بَعدَ المَوتِ، وأسألُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلى وَجهِك، والشَّوقَ إلى لقائِك في غَيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فِتنةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زيِّنا بزينةِ الإيمانِ، واجعَلْنا هُداةً مُهتَدينَ)).
[107] أخرجه النسائي (1305) واللفظ له، وابن حبان (1971)، والحاكم (1947). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (1971)، وابن القيم في ((شفاء العليل)) (2/ 759)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1305)، وصحَّح إسنادَه الحاكمُ. وأخرجه من طريقٍ آخر: النسائي (1306)، وأحمد (18325)، ولَفظُ النَّسائيِّ: ((... وأسألُك خَشيَتَك في الغَيبِ والشَّهادةِ، وكَلِمةَ الإخلاصِ في الرِّضا والغَضَبِ، وأسألُك نَعيمًا لا يَنفَدُ، وقُرَّةَ عَينٍ لا تَنقَطِعُ، وأسألُك الرِّضاءَ بالقَضاءِ، وبَردَ العَيشِ بَعدَ المَوتِ، ولَذَّةَ النَّظَرِ إلى وَجهِك ... )). صحَّحه ابنُ القيم في ((شفاء العليل)) (2/ 759)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1306)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (18325). قال المُناويُّ: («وأسألُك القَصدَ» أي: التَّوسُّطَ «في الغِنى والفَقرِ»، وهو الذي ليسَ مَعَه إسرافٌ ولا تَقتيرٌ؛ فإنَّ الغِنى يَبسُطُ اليَدَ، ويُطغي النَّفسَ، والفَقرُ يَكادُ أن يَكونَ كُفرًا، فالتَّوسُّطُ هو المَحبوبُ المَطلوبُ)
[108] ((فيض القدير)) (2/ 146). .
وقال الشَّوكانيُّ: (قَولُه: «والقَصدَ في الفَقرِ والغِنى» القَصدُ في كُتُبِ اللُّغةِ: بمَعنى استِقامةِ الطَّريقِ والاعتِدالِ، وبمَعنى ضِدِّ الإفراطِ، وهو المُناسِبُ هنا؛ لأنَّ بَطَرَ الغِنى رُبَّما جَرَّ إلى الإفراطِ، وعَدَمَ الصَّبرِ على الفَقرِ رُبَّما أوقَعَ في التَّفريطِ، فالقَصدُ فيهما هو الطَّريقةُ القَويمةُ)
[109] ((نيل الأوطار)) (2/ 343). .
وقال ابنُ رَجَبٍ: (وأمَّا القَصدُ في الفقرِ والغِنى فهو عَزيزٌ، وهو حالُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ كان مُقتَصِدًا في حالِ فَقرِه وغِناه.
والقَصدُ: هو التَّوسُّطُ في الإنفاقِ؛ فإن كان فقيرًا لم يُقَتِّرْ خَوفًا مِن نَفادِ الرِّزقِ، ولم يُسرِفْ فيَحمِلَ ما لا طاقةَ له به، كما أدَّب اللَّهُ تعالى نَبيَّه بذلك في قَولِه تعالى:
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء: 29] .
وإن كان غَنيًّا لم يَحمِلْه غِناه على السَّرَفِ والطُّغيانِ، بَل يَكونُ مُقتَصِدًا أيضًا، قال اللهُ تعالى:
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67] .
وإن كان المُؤمِنُ في حالِ غِناه يَزيدُ على نَفقَتِه في حالِ فقرِه، كَما قال بَعضُ السَّلفِ: إنَّ المُؤمِنَ يَأخُذُ عنِ اللهِ أدَبًا حَسَنًا، إذا وسَّعَ اللَّهُ عليه وسَّعَ على نَفسِه، وإذا ضَيَّقَ عليه ضَيَّقَ على نَفسِه، ثُمَّ تَلا قَولَه تعالى:
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق: 7] .
لكِن يَكونُ في حالِ غِناه مُقتَصِدًا غَيرَ مُسرِفٍ، كَما يَفعَلُه أكثَرُ أهلِ الغِنى الذينَ يُخرِجُهمُ الغِنى إلى الطُّغيانِ، كَما قال تعالى:
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6 - 7] )
[110] ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/ 167، 168). .
3- عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعودُني عامَ حَجَّةِ الوداعِ مِن وجَعٍ اشتَدَّ بي، فقُلتُ: إنِّي قد بَلَغَ بي مِنَ الوجَعِ، وأنا ذو مالٍ، ولا يَرِثُني إلَّا ابنةٌ، أفأتَصَدَّقُ بثُلُثَي مالي؟ قال: لا، فقُلتُ: بالشَّطرِ؟ فقال: لا، ثُمَّ قال: الثُّلثُ، والثُّلثُ كَبيرٌ -أو كَثيرٌ- إنَّك أن تَذَرَ ورَثَتَك أغنياءَ خَيرٌ مِن أن تَذَرَهم عالةً [111] عالةً: أي: فُقَراءَ، جَمعُ عائِلٍ، وهو الفقيرُ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 686). يَتَكَفَّفونَ [112] يَتَكَفَّفونَ، أي: يَتَعَرَّضونَ للمَسألةِ بأكُفِّهم. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 686). النَّاسَ، وإنَّك لن تُنفِقَ نَفقةً تَبتَغي بها وَجهَ اللهِ إلَّا أُجِرتَ بها، حتَّى ما تَجعَلُ في في [113] أي: في فَمِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 169). امرَأتِك)) [114] أخرجه البخاري (1295) واللَّفظُ له، ومسلم (1628). .