فوائِدُ مُتَفرِّقةٌ:
طلبُ صاحِبِ الحاجةِ الشَّفاعةَ مِنَ الإمامِ عِندَ الغُرَماءِعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما:
((أنَّ أباه توُفِّيَ وتَرَكَ عليه ثَلاثينَ وَسقًا لرَجُلٍ مِنَ اليَهودِ، فاستَنظَرَه [38] الِاستِنظارُ: طَلَبُ التَّأخيرِ إلى وقتٍ آخَرَ، وأنظَرتُه: أخَّرتُه. ينظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 372). جابِرٌ، فأبى أن يُنظِرَه، فكَلَّم جابِرٌ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَشفَعَ له إليه، فجاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكَلَّم اليَهوديَّ ليَأخُذَ ثَمَرَ نَخلِه بالذي له، فأبى، فدَخَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّخلَ، فمَشى فيها، ثُمَّ قال لجابِرٍ: جُدَّ [39] جُدَّ: أي: اقطَعْ، والجِدادُ: قَطعُ ثَمَرِ النَّخلِ، وهو الصِّرامُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 372)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 220). له، فأوفِ له الذي له، فجَدَّه [40] فجَدَّه: أي: فقَطَعَه. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 220). بَعدَما رَجَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأوفاه ثَلاثينَ وَسقًا، وفضَلَت له سَبعةَ عَشَرَ وَسقًا، فجاءَ جابِرٌ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُخبِرَه بالذي كان، فوجَدَه يُصَلِّي العَصرَ، فلَمَّا انصَرَف أخبَرَه بالفَضلِ، فقال: أخبِرْ ذلك ابنَ الخَطَّابِ، فذَهَبَ جابِرٌ إلى عُمَرَ فأخبَرَه، فقال له عُمَرُ: لقد عَلِمتُ حينَ مَشى فيها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُبارَكَنَّ فيها)) [41] أخرجه البخاري (2396). .
قال ابنُ رَسلانَ: («فكَلَّم جابِرٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَشفَعَ له إليه» فيه طَلَبُ صاحِبِ الحاجةِ الشَّفاعةَ مِنَ الإمامِ عِندَ الغُرَماءِ ولَو كُفَّارًا.
«فجاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى اليَهوديِّ» فيه فضيلةُ مَشيِ المَشفوعِ إليه إلى مَن يَشفَعُ عِندَه ولَو كافِرًا، وفيه كَثرةُ تَواضُعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَشيُه في الشَّفاعةِ إلى اليَهوديِّ، وهذا التَّواضُعُ العَظيمُ لا يَكادُ يوجَدُ اليَومَ مِن أهلِ العِلمِ والصَّلاحِ، بَل إن سَمَحَ بالشَّفاعةِ لا يَمشي إلى اليَهوديِّ ليَأتيَ إليه فيَشفَعَ عِندَه، وهذا الحَديثُ حُجَّةٌ علينا وعلى أمثالِنا، فنَسألُ اللَّهَ العافيةَ مِن مُخالَفةِ السُّنَّةِ، والهدايةَ إلى سُلوكِ سَبيلِها، ونَستَغفِرُه مِن سَيِّئاتِ أعمالِنا. «فكَلَّم اليَهوديَّ» مُشافهةً مِن غَيرِ إرسالِ مَن يَتَكَلَّمُ مَعَه مِن جِهَتِه على لسانِه... وساقَ الحَديثَ إلى آخِرِه مِن مَجيءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المِربَدِ وجُلوسِه عليه، ودُعائِه بالبَرَكةِ، وهو عَلَمٌ مِن أعلامِ النُّبوَّةِ، وهو ظُهورُ البَرَكةِ في التَّمرِ حتَّى قَضى ما عليه وفضَلَت له فضلةٌ كَثيرةٌ)
[42] ((شرح سنن أبي داود)) (12/ 407، 408). .
الشَّفاعةُ زَكاةُ الجاهِ.عن أبي مُزاحِمٍ موسى بنِ عُبَيدِ اللَّهِ بنِ يَحيى بنِ خاقانَ المُقرِئِ الخاقانيِّ، قال: حَدَّثَني أبي، عن أبيه، قال:
حَضَرتُ الحَسَنَ بنَ سَهلٍ، وجاءَه رَجُلٌ يَستَشفِعُ به في حاجةٍ، فقَضاها، فأقبَلَ الرَّجُلُ يَشكُرُه، فقال له الحَسَنُ بنُ سَهلٍ: عَلامَ تَشكُرُنا ونَحنُ نَرى أنَّ للجاهِ زَكاةً، كما أنَّ للمالِ زَكاةً؟!
ثُمَّ أنشَأ الحَسَنُ، يَقولُ:
فُرِضَت عليَّ زَكاةُ ما مَلَكَت يَدي
وزَكاةُ جاهي أن أُعِينَ وأشفَعَا
فإذا مَلَكتَ فجُدْ فإنْ لم تَستَطِعْ
فاجهَدْ بوُسعِك كُلِّه أن تَنفَعَا
[43] ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (8/ 287)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (38/ 143). (... فإذا رَأيتَ أنَّ إساءةً نَزَلَت بأخيك أو مَهانةً وقَعَت عليه، فأَرِه مِن نَفسِك الاستِعدادَ لمُظاهَرَتِه والسَّيرَ مَعَه حتَّى يَنالَ بك الحَقَّ ويَرُدَّ الظُّلمَ.
وهذا الواجِبُ العَظيمُ يَزدادُ تَأكيدًا إذا كُنتَ ذا جاهٍ في المُجتَمَعِ، أو صاحِبَ مَنصِبٍ تحُفُّه الرَّغبةُ والرَّهبةُ.
إنَّ للجاهِ زَكاةً تُؤتى كما تُؤتى زَكاةُ المالِ، فإذا رَزَقَك اللهُ سيادةً في الأرضِ أو تَمكينًا بَينَ النَّاسِ فليس ذلك لتَنتَفِخَ بَعدَ انكِماشٍ، أو تَزدَهيَ بَعدَ تَواضُعٍ، إنَّما يسَّر اللَّهُ لك ذلك ليَربِطَ بعُنُقِك حاجاتٍ لا تُقضى إلَّا عن طَريقِك، فإن أنتَ سَهَّلتَها قُمتَ بالحَقِّ المَفروضِ، وأحرَزتَ الثَّوابَ المَوعودَ، وإلَّا فقدَ جَحَدتَ النِّعمةَ وعَرَّضتَها للزَّوالِ.
واستِخدامُ المَرءِ جاهَه لنَفعِ النَّاسِ ومَنعِ أذاهم يَنبَغي أن يَتِمَّ في حُدودِ الإخلاصِ والنَّزاهةِ، فإن فَعَل أحَدٌ ذلك لقاءَ هَديَّةٍ يَنتَظِرُها فَقَدَ أجرَه عِندَ اللهِ، وتَأكَّلَ بعَمَلِه السُّحتَ)
[44] ((خلق المسلم)) (ص: 171-175). .
من أمثلةِ الشفاعةِ الحسنةِعن عَوفِ بنِ مالِكِ بنِ الطُّفَيلِ، هو ابنُ الحارِثِ -وهو ابنُ أخي عائشةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأمِّها- أنَّ عائشةَ حُدِّثَت أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ الزُّبَيرِ قال في بَيعٍ أو عَطاءٍ أعطَتْه عائشةُ: واللَّهِ لتَنْتَهِيَنَّ عائشةُ أو لأحجُرَنَّ عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو للهِ عليَّ نَذرٌ ألَّا أُكَلِّمَ ابنَ الزُّبَيرِ أبدًا! فاستشفَعَ ابنُ الزُّبَيرِ إليها حينَ طالت الهِجرةُ، فقالت: لا واللَّهِ لا أشفَعُ فيه أبدًا، ولا أتحنَّثُ إلى نَذْري. فلمَّا طال ذلك على ابنِ الزُّبَيرِ كلَّم المِسْوَرَ بنَ مَخْرَمةَ، وعبدَ الرَّحمنِ بنَ الأسوَدِ بنِ عبدِ يَغوثَ، وهما من بني زُهرةَ، وقال لهما: أَنشُدُكما باللَّهِ لَمَا أدخَلْتُماني على عائشةَ؛ فإنَّها لا يَحِلُّ لها أن تَنذِرَ قطيعَتي.. فأقبَلَ به المِسْوَرُ وعبدُ الرَّحمنِ مُشتَمِلينِ بأرديتِهما، حتَّى استأذَنا على عائشةَ، فقالا: السَّلامُ عليكِ ورحمةُ اللَّهِ وبركاتُه، أندخُلُ؟ قالت عائشةُ: ادخُلوا، قالوا: كُلُّنا؟ قالت: نعم، ادخُلوا كُلُّكم، ولا تَعلَمُ أنَّ معهما ابنَ الزُّبَيرِ، فلمَّا دخلوا دَخَل ابنُ الزُّبَيرِ الحِجابَ، فاعتَنَق عائِشةَ وطَفِق يُناشِدُها ويبكي، وطَفِق المِسْوَرُ وعبدُ الرَّحمنِ يُناشِدانِها إلَّا ما كلَّمَتْه، وقَبِلَت منه، ويقولان: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عمَّا قد عَلِمْتِ من الهِجرةِ، فإنَّه:
((لا يحِلُّ لمُسلِمٍ أن يَهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ لَيالٍ)) فلمَّا أكثَروا على عائشةَ مِن التَّذكِرةِ والتَّحريجِ طَفِقَت تُذَكِّرُهما نَذْرَها وتبكي وتقولُ: إنِّي نذَرْتُ، والنَّذرُ شديدٌ، فلم يزالا بها حتَّى كَلَّمَت ابنَ الزُّبَيرِ، وأعتَقَت في نَذْرِها ذلك أربعينَ رَقَبةً، وكانت تَذكُرُ نَذْرَها بعدَ ذلك فتبكي حتَّى تَبُلَّ دُموعُها خِمارَها!)
[45] أخرجه البخاري (6073، 6074، 6075). .