موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: ألَّا تَكونَ الشَّفاعةُ في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ


يَحرُمُ أن تَكونَ الشَّفاعةُ في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ إذا بَلَغَتِ السُّلطانَ.
الدَّليلُ على ذلك من السُّنَّةِ والإجماعِ:
أ-مِنَ السُّنَّةِ
1-عن يونُسَ بنِ يَزيدَ، عن ابنِ شِهابٍ، قال: أخبَرَني عُروةُ بنُ الزُّبَيرِ، عن عائِشةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((أنَّ قُرَيشًا أهَمَّهم شَأنُ المَرأةِ المَخزوميَّةِ التي سَرَقَتْ، فقالوا: ومن يُكَلِّمُ فيها رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقالوا: ومَن يَجتَرِئُ عليه إلَّا أسامةُ بنُ زَيدٍ؛ حِبُّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكَلَّمَه أسامةُ، فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَشفَعُ في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ [20] قال الخطَّابيُّ: (إنَّما أنكَر عليه الشَّفاعةَ في الحَدِّ؛ لأنَّه إنما تَشفَّعَ إليه بعدَ أن بلَغَ ذلك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وارتَفَعوا إليه فيه، فأمَّا قَبلَ أن يبلُغَ الإمامَ فإنَّ الشَّفاعةَ جائزةٌ، والسَّترَ على المُذنِبين مندوبٌ إليه، وقد رُوِيَ ذلك عن الزُّبَيرِ بنِ العوَّامِ، وابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، وهو مَذهَبُ الأوزاعيِّ. وقال أحمدُ بنُ حَنبَلٍ: تَشفع في الحَدِّ ما لم يبلُغِ السُّلطانَ. وقال مالِكُ بنُ أنسٍ: مَن لم يُعرَفْ بأذى النَّاسِ، وإنما كانت تلك منه زَلَّةً، فلا بأسَ أن يُشفَعَ له ما لم يَبلُغِ الإمامَ). ((معالم السنن)) (3/ 300). ؟! ثُمَّ قامَ فاختَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهلَكَ الذين قبلَكم أنَّهم كانوا إذا سرَقَ فيهم الشَّريفُ تَرَكوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايمُ اللهِ لو أنَّ فاطِمةَ بِنتَ مُحمَّدٍ سَرَقَت لَقطَعتُ يَدَها. ثمَّ أمَر بتلك المرأةِ التي سرَقَت فقُطِعَت يدُها. قال يونُسُ: قال ابنُ شِهابٍ: قال عُروةُ: قالت عائِشةُ: فحَسُنَت تَوبَتُها بَعدُ، وتَزَوَّجَت، وكانت تَأتيني بَعدَ ذلك فأرفَعُ حاجَتَها إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [21] أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688) واللَّفظُ له. .
(في هذا الحَديثِ النَّهيُ عنِ الشَّفاعةِ في الحُدودِ وإبطالُها، وأنَّ هَلاكَ بَني إسرائيلَ كان مِن سَبَبِ ذلك. وفيه التَّشديدُ على هذا، وأنَّه حَرامٌ لا يَحِلُّ للشَّافِعِ ولا للمَشفوعِ عنه، وذلك كُلُّه بَعدَ بُلوغِ الإمامِ، وفي هذه النَّازِلةِ كانتِ الأحاديثُ. فأمَّا قَبلَ بُلوغِ الإمامِ فقد أجازَ ذلك أكثَرُ أهلِ العِلمِ؛ لِما جاءَ في السَّترِ على المُسلِمِ. قال مالِكٌ: وذلك فيمَن لم يُعرَفْ مِنه أذًى للنَّاسِ، وأمَّا مَن عُرِف مِنه شَرٌّ وفسادٌ فلا أُحِبُّ أن يُشفَعَ فيه.
وأمَّا الشَّفاعةُ فيما ليسَ فيه حَدٌّ وليس فيه حَقٌّ لآدَميٍّ وإنَّما فيه التَّعزيرُ، فجائِزٌ عِندَ العُلَماءِ، بَلَغَ الإمامَ أم لا) [22] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (5/ 501، 502). .
2-عن صَفوانَ بنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أنَّه نامَ في المَسجِدِ وتَوسَّدَ رِداءَه، فأُخِذَ مِن تَحتِ رَأسِه، فجاءَ بسارِقِه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَرَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُقطَعَ، فقال صَفوانُ: يا رَسولَ اللهِ، لم أُرِدْ هذا! رِدائي عليه صَدَقةٌ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فهَلَّا قَبلَ أن تَأتيَني به؟)) [23] أخرجه ابن ماجه (2595) واللَّفظُ له، وأحمد (15303). صحَّحه ابنُ العربي في ((القبس)) (3/1024)، ومحمد ابن عبد الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (4/563)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2595)، وصحَّحه شعيب الأرناؤوط بطرقه وشاهده في تخريج ((مسند أحمد)) (15303). وفي رِوايةٍ: عن صَفوانَ بنِ أُمَيَّةَ، قال: ((كُنتُ نائِمًا في المَسجِدِ على خَميصةٍ لي ثَمَنَ ثَلاثينَ دِرهَمًا، فجاءَ رَجُلٌ فاختَلَسَها مِنِّي، فأُخِذَ الرَّجُلُ فأُتِيَ به رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، فأمَر به ليُقطَعَ، قال: فأتَيتُه فقُلتُ: أتَقطَعُه مِن أجلِ ثَلاثينَ دِرهَمًا! أنا أبيعُه وأُنسِئُه ثَمَنَها، قال: فهَلَّا كان هذا قَبلَ أن تَأتيَني بهـ)). أخرجها أبو داود (4394)، والنسائي (4883)، وأحمد (15310).     صَحَّحها الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4394)، وصَحَّحها شعيب الأرناؤوط بطرقها وشاهدها في تخريج ((مسند أحمد)) (15310). وفي رِوايةٍ: عن صَفوانَ بنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه سُرِقَت خَميصَتُه مِن تَحتِ رَأسِه وهو نائِمٌ في مَسجِدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأُخِذَ اللِّصُّ، فجاءَ به إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَر بقَطعِه، فقال صَفوانُ: أتَقطَعُه؟ قال: ((فهَلَّا قَبلَ أن تَأتيَني به تَرَكتَهـ)). أخرجها النسائي (4884) واللَّفظُ له، وأحمد (15503). صَحَّحها الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (4884)، وصَحَّحها شعيب الأرناؤوط بطرقها وشاهدها في تخريج ((مسند أحمد)) (15503). .
ب-مِنَ الإجماعِ
نُقِل الإجماعُ على تَحريمِ الشَّفاعةِ في الحَدِّ بَعدَ بُلوغِها إلى الإمامِ [24] قال النَّوويُّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على تَحريمِ الشَّفاعةِ في الحَدِّ بَعدَ بُلوغِه إلى الإمامِ لهذه الأحاديثِ، وعلى أنَّه يَحرُمُ التَّشفيعُ فيه، فأمَّا قَبلَ بُلوغِه إلى الإمامِ فقد أجازَ الشَّفاعةَ فيه أكثَرُ العُلَماءِ إذا لم يَكُنِ المَشفوعُ فيه صاحِبَ شَرٍّ وأذًى للنَّاسِ، فإن كان لم يُشفَعْ فيه، وأمَّا المَعاصي التي لا حَدَّ فيها وواجِبُها التَّعزيرُ فتَجوزُ الشَّفاعةُ والتَّشفيعُ فيها سَواءٌ بَلَغَتِ الإمامَ أم لا؛ لأنَّها أهوَنُ، ثُمَّ الشَّفاعةُ فيها مُستَحَبَّةٌ إذا لم يَكُنِ المَشفوعُ فيه صاحِبَ أذًى ونَحوِهـ). ((شرح مسلم)) (11/ 186). .

انظر أيضا: