موسوعة الآداب الشرعية

تَمهيدٌ:


أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ المُؤمِنَ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا [1] لفظُه: عن أبي موسى، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: إنَّ المُؤمِنَ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا. وشَبَّكَ أصابِعَه. أخرجه البخاري (481) واللَّفظُ له، ومسلم (2585). ، وهَذا تَمثيلٌ يُفيدُ الحَضَّ على مَعونةِ المُؤمِنِ للمُؤمِنِ ونُصرتِه، وأنَّ ذلك أمرٌ مُتَأكِّدٌ لا بُدَّ مِنه، فإنَّ البِناءَ لا يَتِمُّ أمرُه ولا تَحصُلُ فائِدَتُه إلَّا بأن يَكونَ بَعضُه يُمسِكُ بَعضًا ويُقَوِّيه، فإن لم يَكُنْ كذلك انحَلَّت أجزاؤُه، وخَرِبَ بناؤُه. وكذلك المُؤمِنُ لا يَستَقِلُّ بأُمورِ دُنياه ودينِه إلَّا بمَعونةِ أخيه ومُعاضَدَتِه ومُناصَرَتِه، فإن لم يَكُنْ ذلك عَجَز عنِ القيامِ بكُلِّ مَصالِحِه، وعن مُقاومةِ مُضادِّه، فحينَئِذٍ لا يَتِمُّ له نِظامُ دُنيا ولا دينٍ [2] يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 565). .
والشَّفاعةُ هيَ مِن بابِ مَعونةِ المُؤمِنِ لأخيه ومُعاضَدَتِه ومُناصَرَتِه، وقد رَغَّبَ فيه اللهُ ورَسولُه، والسَّاعي فيها مَأجورٌ وإن لم تَنقَضِ الحاجةُ [3] يُنظر: ((بهجة النفوس)) لابن أبي جمرة (4/ 88)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 414)، ((عمدة القاري)) للعيني (20/ 269). .
قال تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا [النساء: 85] .
أي: مَن يَسعَ في مُعاونةِ غَيرِه بما يَجلِبُ له النَّفعَ والخَيرَ، ويَدفعُ عنه الضُّرَّ والشَّرّ،َ يَكُنْ له حَظٌّ مِن ثَوابِ اللهِ تعالى، ومَن يَسعَ في مُعاونةِ غَيرِه على أمرٍ مِنَ الشَّرِّ يَكُنْ عليه وِزرٌ وإثمٌ مِن ذلك الأمرِ الذي تَرَتَّبَ على سَعيِه ونيَّتِه. وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا أي: إنَّ اللَّهَ تعالى على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، وحَفيظٌ وحَسيبٌ، فيُجازي كُلًّا بما يَستَحِقُّه [4] ينظر: ((التفسير المحرر- الدرر السنية)) (3/ 405، 406). .
وعن مُعاويةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: اشفَعوا تُؤجَروا؛ فإنِّي لأُريدُ الأمرَ فأُؤَخِّرُه كَيما تَشفَعوا فتُؤجَروا، فإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اشفَعوا تُؤجَروا)) [5] أخرجه أبو داود (5132) واللفظ له، والنسائي (2557). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5132)، والوداعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1122)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5132). .
وعن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((المُؤمِنُ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ، يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا، ثُمَّ شَبَّكَ بَينَ أصابِعِه. وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالِسًا، إذ جاءَ رَجُلٌ يَسألُ، أو طالِبُ حاجةٍ، أقبَلَ علينا بوَجهِه، فقال: اشفَعوا فلتُؤجَروا، وليَقضِ اللهُ على لسانِ نَبيِّه ما شاءَ)) [6] أخرجه البخاري (6026، 6027) واللفظ له، ومسلم (2585 ، 2627) مُفرَّقًا باختلافٍ يسيرٍ .
وفي رِوايةٍ: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا جاءَه السَّائِلُ أو طُلِبَت إليه حاجةٌ قال: اشفَعوا تُؤجَروا، ويَقضي اللهُ على لسانِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما شاءَ)). [7] أخرجها البخاري (1432).
وفي رِوايةٍ أُخرى: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أتاه طالِبُ حاجةٍ أقبَلَ على جُلَسائِه فقال: اشفَعوا فلتُؤجَروا، وليَقضِ اللهُ على لسانِ نَبيِّه ما أحَبَّ)). [8] أخرجها مُسلِم (2627).
قال المُناويُّ: («اشفَعوا» أي: ليَشفَعْ بَعضُكُم في بَعضٍ «تُؤجَروا» أي: يُثِبْكُمُ اللهُ تعالى «ويَقضي اللَّهُ على لسانِ نَبيِّه ما شاءَ» وفي رِوايةٍ: «ما أحَبَّ» أي: يُظهِرُ اللَّهُ تعالى على لسانِ رَسولِه بوحيٍ أو إلهامٍ ما قدَّرَه في عِلمِه أنَّه سَيَكونُ مِن إعطاءٍ وحِرمانٍ، أو يُجري اللَّهُ على لسانِه ما شاءَ مِن موجِباتِ قَضاءِ الحاجةِ أو عَدَمِها، فإذا عَرَضَ صاحِبُ حاجةٍ حاجَتَه عليَّ فاشفَعوا له يَحصُلْ لكُم أجرُ الشَّفاعةِ، أي: ثَوابُها، وإن لم تُقبَلْ، فإن قُضِيَت حاجةُ مَن شَفَعتُم له فبِتَقديرِ اللهِ، وإن لم تُقْضَ فبِتَقديرِ اللهِ.
 وهذا مِن مَكارِمِ أخلاقِ المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَصِلوا جَناحَ السَّائِلِ وطالِبِ الحاجةِ، وهو تَخَلُّقٌ بأخلاقِه تعالى؛ حَيثُ يَقولُ لنَبيِّه: «اشفَعْ تُشَفَّعْ» [9] لفظُه: عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دَعوةٍ، فرُفِعَ إليه الذِّراعُ -وكانت تُعجِبُه- فنَهَسَ مِنها نَهسةً. وقال: أنا سَيِّدُ القَومِ يَومَ القيامةِ، هَل تَدرونَ بمَ؟ يَجمَعُ اللهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ في صَعيدٍ واحِدٍ، فيُبصِرُهمُ النَّاظِرُ ويُسمِعُهمُ الدَّاعي، وتَدنو مِنهمُ الشَّمسُ، فيَقولُ بَعضُ النَّاسِ: ألا تَرَونَ إلى ما أنتُم فيه إلى ما بَلَغَكُم؟ ألا تَنظُرونَ إلى مَن يَشفعُ لكُم إلى رَبِّكُم؟ فيَقولُ بَعضُ النَّاسِ: أبوكُم آدَمُ، فيَأتونَه فيَقولونَ: يا آدَمُ، أنتَ أبو البَشَرِ، خَلَقَك اللهُ بيَدِه، ونَفخَ فيك مِن روحِه، وأمَرَ المَلائِكةَ فسَجَدوا لك، وأسكَنَك الجَنَّةَ، ألا تَشفعُ لنا إلى رَبِّك؟ ألا تَرى ما نَحنُ فيه وما بَلَغَنا؟ فيَقولُ: رَبِّي غَضِبَ غَضَبًا لم يَغضَبْ قَبلَه مِثلَه، ولا يَغضَبُ بَعدَه مِثلَه، ونَهاني عنِ الشَّجَرةِ فعَصَيتُه، نَفسي نَفسي، اذهَبوا إلى غَيري، اذهَبوا إلى نوحٍ، فيَأتونَ نوحًا، فيَقولونَ: يا نوحُ، أنتَ أوَّلُ الرُّسُلِ إلى أهلِ الأرضِ، وسَمَّاك اللهُ عَبدًا شَكورًا، أما تَرى إلى ما نَحنُ فيه؟ ألا تَرى إلى ما بَلَغَنا؟ ألا تَشفعُ لنا إلى رَبِّك؟ فيَقولُ: رَبِّي غَضِبَ اليَومَ غَضَبًا لم يَغضَبْ قَبلَه مِثلَه، ولا يَغضَبُ بَعدَه مِثلَه، نَفسي نَفسي، ائتوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَأتوني فأسجُدُ تَحتَ العَرشِ، فيُقالُ: يا مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأسَك، واشفَعْ تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعطَه. قال مُحَمَّدُ بنُ عُبَيدٍ: لا أحفظُ سائِرَهـ)). أخرجه البخاري (3340) واللَّفظُ له، ومسلم (194). ، وإذا أمَرَ بالشَّفاعةِ عِندَه مَعَ استِغنائِه عنها -لأنَّ عِندَه شافِعًا مِن نَفسِه، وباعِثًا مِن وُجودِه- فالشَّفاعةُ عِندَ غَيرِه مِمَّن يَحتاجُ إلى تَحريكِ داعيةِ الخَيرِ أَولى؛ ففيه حَثٌّ على الشَّفاعةِ، ودَلالةٌ على عَظيمِ ثَوابِها، والأمرُ للنَّدبِ، ورُبَّما يَعرِضُ له ما يُصَيِّرُ الشَّفاعةَ واجِبةً) [10] ((فيض القدير)) (1/ 525). .
وعن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المُسلِمُ أخو المُسلمِ لا يَظلِمُه ولا يُسلِمُه، ومَن كان في حاجةِ أخيه كان اللَّهُ في حاجَتِه، ومَن فرَّجَ عن مُسلمٍ كُربةً فرَّجَ اللهُ عَنه كُربةً مِن كُرُباتِ يَومِ القيامةِ، ومَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتره اللَّهُ يَومَ القيامةِ)) [11] أخرجه البخاري (2442) واللَّفظُ له، ومسلم (2580). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نَفَّسَ عن مُؤمِنٍ كُربةً مِن كُرَبِ الدُّنيا نَفَّسَ اللهُ عنه كُربةً مِن كُرَبِ يَومِ القيامةِ، ومِن يَسَّر على مُعسِرٍ يَسَّر اللَّهُ عليه في الدُّنيا والآخِرةِ، ومَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتره اللَّهُ في الدُّنيا والآخِرةِ، واللهُ في عَونِ العَبدِ ما كان العَبدُ في عَونِ أخيهـ)). [12] أخرجه مسلم (2699).
وعن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((على كُلِّ مُسلِمٍ صَدَقةٌ، قيل: أرَأيتَ إن لم يَجِدْ؟ قال: يَعتَمِلُ بيَدَيه فيَنفعُ نَفسَه ويَتَصَدَّقُ، قال قيل: أرَأيتَ إن لم يَستَطِعْ؟ قال: يُعينُ ذا الحاجةِ المَلهوفَ، قال قيل له: أرَأيتَ إن لم يَستَطِعْ؟ قال: يَأمُرُ بالمَعروفِ أوِ الخَيرِ، قال: أرَأيتَ إن لم يَفعَلْ؟ قال: يُمسِكُ عنِ الشَّرِّ؛ فإنَّها صَدَقةٌ)) [13] أخرجه البخاري (1445)، ومسلم (1008) واللَّفظُ له. .
(وذو الحاجةِ: صاحِبُها. والمَلهوفُ: المُضطَرُّ إليها، الذي قد شَغَلَه هَمُّه بحاجَتِه عن كُلِّ ما سِواها، ولا شَكَّ في أنَّ قَضاءَ حاجةِ مَن كانت هذه حالَه يَتَعَدَّدُ فيها الأجرُ ويَكثُرُ بحَسَبِ ما كشفَ مِن كُربةِ صاحِبِها) [14] ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (3/ 54). ، والمَلهوفُ صادِقٌ بالعاجِزِ والمَظلومِ، فيُعينُه بقَولٍ أو فِعلٍ أو بهما، أو يوصِلُ حاجةً لمَن لا يَقدِرُ على إيصالِها مِن ذي سُلطانٍ ونَحوِه [15] ينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 448)، ((فيض القدير)) للمناوي (4/ 323)، ((دليل الفالحين)) لابن علان (2/ 382). .
وفيما يلي ذِكرُ أهمِّ آدابِ الشَّفاعةِ:

انظر أيضا: