ثالثًا: أن تكونَ الشَّفاعةُ على وَجهِ العَرضِ والتَّرغيبِ
مِن أدَبِ الشَّفاعةِ: أن تكونَ على وَجهِ العَرضِ والتَّرغيبِ، وألَّا يَظُنَّ الشَّافِعُ أنَّ شَفاعَتَه واجِبٌ قَبولُها في كُلِّ أمرٍ، أو أنَّها مُلزِمةٌ لغَيرِه على كُلِّ حالٍ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما
((أنَّ زَوجَ بَريرةَ كان عبدًا يُقالُ له مُغيثٌ كأنِّي أنظُرُ إليه يطوفُ خَلْفَها يبكي ودموعُه تسيلُ على لحيتِه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعبَّاسٍ: يا عبَّاسُ، ألا تعجَبُ مِن حُبِّ مُغيثٍ بريرةَ، ومِن بُغضِ بَريرةَ مُغيثًا؟! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو راجَعْتِه! قالت: يا رسولَ اللَّهِ، تأمُرُني؟ قال: إنَّما أنا أشفَعُ، قالت: لا حاجةَ لي فيهـ)) [25] أخرجه البخاري (5283). .
وفي رِوايةٍ:
((كان زَوجُ بَريرةَ عَبدًا يُقالُ له مُغيثٌ كَأنِّي أنظُرُ إليه يَطوفُ خَلفَها ويَبكي، ودُموعُه تَسيلُ على خَدِّه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للعَبَّاسِ: يا عبَّاسُ، ألَّا تَعجَبُ مِن حُبِّ مُغيثٍ بَريرةَ، ومِن بُغضِ بَريرةَ مُغيثًا؟! فقال لها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو راجَعْتِيه؛ فإنَّه أبو وَلَدِك، قالت: يا رَسولَ اللهِ، تَأمُرُني؟ قال: إنَّما أشفَعُ، قالت: لا حاجةَ لي فيهـ)) [26] أخرجها أبو داود (2231)، والنسائي (5417)، وابن ماجه (2075) واللَّفظُ له. صَحَّحها البخاري كما في ((السنن الصغير)) للبيهقي (3/67)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (4273)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2075)، وصحَّح إسنادَها على شرط مسلم شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (4273). .
فقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّما أشفَعُ)) أي: أقولُ ذلك على سَبيلِ الشَّفاعةِ له لا على سَبيلِ الحَتمِ عليك، وقَولُها:
((لا حاجةَ لي فيهـ)) أي: فإذا لم تُلزِمْني بذلك لا أختارُ العَودَ إليه
[27] ينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 409). .
وفي الحَديثِ (جَوازُ مُخالَفةِ المُشيرِ فيما يُشيرُ به في غَيرِ الواجِبِ واستِحبابُ شَفاعةِ الحاكِمِ في الرِّفقِ بالخَصمِ حَيثُ لا ضَرَرَ ولا إلزامَ ولا لومَ على مَن خالَف ولا غَضَبَ ولَو عَظُمَ قَدرُ الشَّافِعِ... ولا يَجِبُ على المَشفوعِ عِندَه القَبولُ، ويُؤخَذُ مِنه أنَّ التَّصميمَ في الشَّفاعةِ لا يَسوغُ فيما تَشُقُّ الإجابةُ فيه على المَسؤولِ، بَل يَكونُ على وَجهِ العَرضِ والتَّرغيبِ)
[28] ينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 414). .
وقال ابنُ أبي جَمرةَ: (ظاهِرُ الحَديثِ يَدُلُّ على إعذارِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لذَوي الِابتِلاءاتِ، وشَفاعَتِه لهم. والكَلامُ عليه مِن وُجوهٍ:
مِنها: جَوازُ شَفاعةِ الحاكِمِ لمَن تَحت إيالتِه
[29] الإيالةُ: السِّياسةُ، يُقالُ: هو حَسَنُ الإيالةِ: أي: السِّياسةِ، وآلَ الرَّعيَّةَ يَؤُولُها إيالةً حَسَنةً. يُنظر: ((غريب الحديث)) لابن قتيبة (2/ 535)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (1/ 126)، ((أساس البلاغة)) للزمخشري (1/ 39). ، والمَشفوعُ عِندَه بالخيارِ في قَبولِ الشَّفاعةِ ورَدِّها لعُذرٍ يَكونُ به بخِلافِ الحُكمِ؛ فإنَّه ليسَ له فيه اختيارٌ على أيِّ حالٍ كان، يُؤخَذُ ذلك مِن قَولِها: «أتَأمُرُني؟» فقال لها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّما أشفَعُ»، فلَم تَقبَلِ الشَّفاعةَ لما كان بها مِن عُذرِ شِدَّةِ بُغضِها له، ولِعِلمِها بشَفَقةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الجَميعِ على حَدٍّ سَواءٍ.
وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الشَّافِعَ بنَفسِ الشَّفاعةِ يَحصُلُ له الأجرُ، وليس مِن شَرطِ ذلك قَضاءُ الحاجةِ، يُؤخَذُ ذلك مِن قَولِه عليه السَّلامُ: «إنَّما أشفَعُ»، فقوَّةُ الكَلامِ تُعطي أنَّه ما كان قَصدُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَّا نَفسَ الشَّفاعةِ لا غَيرُ، وقد بَيَّنَ ذلك الكِتابُ والسُّنَّةُ الواضِحةُ بالتَّصريحِ:
أمَّا الكِتابُ فقَوله تعالى:
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء: 85] ، ولَم يُشتَرَطْ فيها قَبولُ الشَّفاعةِ.
وأمَّا السُّنَّةُ فقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اشفَعوا تُؤجَروا، ويَخلُقُ اللهُ على لسانِ نَبيِّه ما شاءَ».
[30] أخرجه البخاري (1432)، ومسلم (2627) باختلافٍ يسيرٍ، ولَفظُ البخاريِّ: عن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا جاءَه السَّائِلُ أو طُلِبَت إليه حاجةٌ، قال: اشفَعوا تُؤجَروا، ويَقضي اللهُ على لسانِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما شاءَ)). وفيه أيضًا دَليلٌ على أنَّه يَشفَعُ الفاضِلُ عِندَ المَفضولِ، يُؤخَذُ ذلك مِن أنَّ سَيِّدَنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الفاضِلُ، وقد شَفَعَ عليه السَّلامُ عِندَ أَمَةٍ مُعتَقةٍ.
وفيه دَليلٌ على حُسنِ أدَبِ جَميعِهم أحرارًا وعَبيدًا، يُؤخَذُ ذلك مِن حُسنِ جَوابِها في مُراجَعَتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأن أبدَت عُذرَها بقَولِها: «فلا حاجةَ لي فيه»، ولَم تُفصِحْ برَدِّ الشَّفاعةِ بَعدَ أن سَألَت: هَل ذلك أمرٌ أم لا؟
ويَتَرَتَّبُ عليه أنَّ مِن حُسنِ الأدَبِ التِماسَ العُذرِ إلى أهلِ الفضلِ، ولا تُرَدُّ لهم شَفاعةٌ مواجَهةً، بَل يَكونُ بَدَلَ ذلك تَبيينُ العُذرِ المانِعِ لقَبولِ شَفاعَتِهم)
[31] ((بهجة النفوس)) (4/ 87-88). .
وقال العَينيُّ: (يُستَفادُ مِنه فوائِدُ؛ الأولى: استِشفاعُ الإمامِ والعالِم والخَليفةِ في حَوائِجِ الرَّعيَّةِ، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اشفَعوا تُؤجَروا، ويَقضي اللهُ على لسانِ نَبيِّه ما شاءَ»
[32] أخرجه البخاري (1432) واللَّفظُ له، ومسلم (2627) مِن حَديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، والسَّاعي فيه مَأجورٌ وإن لم تَنقَضِ الحاجةُ...
الثَّالِثةُ: أنَّ مَن يَسألُ مِنَ الأُمورِ مِمَّا هو غَيرُ واجبٍ عليه فِعلُه، فله رَدُّ سائِلِه وتَركُ قَضاءِ حاجَتِه، وإن كان الشَّفيعُ سُلطانًا أو عالِمًا أو شَريفًا؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُنكِرْ على بَريرةَ رَدَّها إيَّاه فيما شَفَعَ فيهـ)
[33] ((عمدة القاري)) (20/ 269). .