موسوعة الآداب الشرعية

فوائِدُ ومَسائِلُ:


1-قال ابنُ خَلدون: (الشِّدَّةُ على المتعَلِّمين مُضِرَّةٌ بهم؛ وذلك أنَّ إرهافَ الحَدِّ بالتَّعليمِ مُضِرٌّ بالمتعَلِّمِ، سِيَّما في أصاغِرِ الوُلْدِ؛ لأنَّه من سوءِ المَلَكةِ، ومن كان مَرْباه بالعَسْفِ والقَهرِ من المتعَلِّمين أو المماليكِ أو الخَدَمِ، سَطا به القَهرُ وضَيَّق عن النَّفسِ في انبِساطِها، وذَهَب بنَشاطِها، ودعاه إلى الكَسَلِ، وحَمَل على الكَذِبِ والخُبْثِ، وهو التَّظاهُرُ بغيرِ ما في ضَميرِه خوفًا من انبِساطِ الأيدي بالقَهرِ عليه، وعَلَّمَه المكرَ والخديعةَ لذلك، وصارت له هذه عادةً وخُلُقًا، وفسَدَت معاني الإنسانيَّةِ التي له مِن حَيثُ الاجتِماعُ والتَّمَدُّنُ، وهيَ الحَميَّةُ والمُدافَعةُ عن نَفسِه ومَنزِلِه، وصارَ عِيالًا على غَيرِه في ذلك، بَل وكَسِلَت النَّفسُ عنِ اكتِسابِ الفضائِلِ والخُلُقِ الجَميلِ، فانقَبَضَت عن غايَتِها ومَدى إنسانيَّتِها، فارتَكَسَ وعادَ في أسفَلِ السَّافِلينَ) [217] ((العبر وديوان المبتدأ والخبر)) (1/ 743). .
2-قال مُحَمَّد البَشير الإبراهيميُّ: (أي أبنائي المُعَلِّمينَ، إنَّكُم في زَمَنٍ كَراسيُّ المُعَلِّمينَ فيه أجدى على الأُمَمِ مِن عُروشِ المُلوكِ، وأعوَدُ عليها بالخَيرِ والمَنفَعةِ. وكَراسيُّ المُعَلِّمينَ فيه أمنَعُ جانِبًا وأعَزُّ قَبِيلًا مِن عُروشِ المُلوكِ، فكَم عَصَفتِ العَواصِفُ الفِكريَّةُ بالعُروشِ، ولكِنَّها لم تَعصِفْ يَومًا بكُرسيِّ المُعَلِّمِ!
إنَّكُم تَجلِسونَ مِن كَراسيِّ التَّعليمِ على عُروشِ مَمالِكَ رَعاياها أطفالُ الأُمَّةِ؛ فسُوسُوهم بالرِّفقِ والإحسانِ، وتَدَرَّجوا بهم مِن مَرحَلةٍ كامِلةٍ في التَّربيةِ إلى مَرحَلةٍ أكمَلَ.
إنَّهم أمانةُ اللهِ عِندَكُم، وودائِعُ الأُمَّةِ بَينَ أيديكُم، سَلَّمَتْهم إليكُم أطفالًا لتَرُدُّوهم إليها رِجالًا، وقدَّمَتْهم إليكُم هَياكِلَ لتَنفُخوا فيها الرُّوحَ، وألفاظًا لتَعمُروها بالمَعاني، وأوعيةً لتَملَؤوها بالفضيلةِ والمَعرِفةِ.
إنَّكُم رُعاةٌ، وإنَّكُم مسؤولون عن رَعيَّتِكُم، وإنَّكُم بُناةٌ، وإنَّ البانيَ مسؤولٌ عَمَّا يَقَعُ في البناءِ مِن زَيغٍ أوِ انحِرافٍ.
إنَّ مِنَ الطِّباعِ اللَّازِمةِ للأطفالِ أنَّهم يُحِبُّونَ مَن يَتَحَبَّبُ لهم، ويَميلونَ إلى مَن يُحسِنُ إليهم، ويَأنَسونَ بمَن يُعامِلُهم بالرِّفقِ، ويُقابِلُهم بالبَشاشةِ والبِشرِ.
فواجِبُ المُرَبِّي الحاذِقِ المُخلِصِ إذا أرادَ أن يَصِلَ إلى نُفوسِهم مِن أقرَبِ طَريقٍ، وأن يُصلِحَ نَزَعاتِهم بأيسَرِ كُلفةٍ، وأن يَحمِلَهم على طاعَتِه وامتِثالِ أمرِه بأسهَلِ وسيلةٍ: هو أن يَتَحَبَّبَ إليهم، ويُقابِلَهم بوجهٍ مُتَهَلِّلٍ، ويُبادِلَهمُ التَّحيَّةَ بأحسَنَ مِنها، ويَسألَهم عن أحوالِهم باهتِمامٍ، ويُضاحِكَهم ويُحادِثَهم بلُطفٍ وبشاشةٍ، ويَبسُطَ لهمُ الآمالَ، ويُظهِرَ لهم مِنَ الحَنانِ والعَطفِ ما يَحمِلُهم على مَحَبَّتِه، فإذا أحَبُّوه أطاعوه وامتَثَلوا أمرَه، وإذا أطاعوا أمرَه وصَل مِن تَوجيهِهم في الصَّالحاتِ إلى ما يُريدُ، وتمَكَّن مِن حَملِهم على الاستِقامةِ وطَبْعِهم على الخَيرِ والفضيلةِ. فإذا مَلكَ نُفوسَهم بهذه الطَّريقةِ -طَريقةِ التَّرغيبِ- حَبَّبَ إليهمُ المَدرَسةَ والقِراءةَ والعِلمَ. وإنَّ الصَّغيرَ لا يُفلِحُ في التَّربيةِ ولا يَنجَحُ في القِراءةِ إلَّا إذا أحَبَّ مُعَلِّمَه كحُبِّه لأبَوَيه أو أعظَمَ، وأحَبَّ المَدرَسةَ كحُبِّه لبَيتِ أبَوَيه أو أشَدَّ. وكَثيرًا ما رَأينا الصِّغارَ الذينَ يُرَبِّيهم مُعَلِّموهم على هذه الطَّريقةِ الحَكيمةِ يُباهي أحَدُهم تِرْبَه بقِسْمِه وبمُعَلِّمِه، ويُباهي زَميلُه في مَدرَسةٍ أُخرى بمَدرَسَتِه، كَما يَتَباهَونَ في العادةِ بالآباءِ والبُيوتِ. وما ذلك إلَّا أثَرٌ مِن آثارِ المُعامَلةِ مِنَ المُعَلِّمِ...
ليَحذَرِ المُعَلِّمونَ الكِرامُ مِن سُلوكِ تلك الطَّريقةِ العَتيقةِ التي كانت شائِعةً بَينَ مُعَلِّمي القُرآنِ، وهيَ أخذُ الأطفالِ بالقَسوةِ والتَّرهيبِ في حِفظِ القُرآنِ؛ فإنَّ تلك الطَّريقةَ هيَ التي أفسَدَت هذا الجيلَ وغَرَسَت فيه رَذائِلَ مُهلِكةً. إنَّ القَسوةَ والإرهابَ والعُنفَ تَحمِلُ الأطفالَ على الكَذِبِ والنِّفاقِ، وتَغرِسُ فيهمُ الجُبنَ والخَوفَ، وتُبَغِّضُ إليهمُ القِراءةَ والعِلمَ. وكُلُّ ذلك مَعدودٌ في جِناياتِ المُعَلِّمينَ الجاهِلينَ بأُصولِ التَّربيةِ.
وليَدرُسِ المُعَلِّمُ مُيولَ الأطفالِ بالاختِلاطِ بهم، وليَكُنْ بَينَهم كَأخٍ كَبيرٍ لهم يُفيضُ عليهم عَطفَه، ويوزِّعُ بشاشَتَه، ويَزرَعُ بَينَهم نَصائِحَه، ويَرُدُّ النَّادَّ مِنهم عنِ المَحَجَّةِ برِفقٍ.
إنَّ دَرْسَ المُيولِ يُمَكِّنُ المُعَلِّمَ مِن إصلاحِ الفاسِدِ مِنها، ومِن غَرسِ أضدادِها مِنَ الفضائِلِ في نُفوسِهم.
وإنَّ المُعَلِّمَ لا يَستَطيعُ أن يُرَبِّيَ تَلاميذَه على الفضائِلِ إلَّا إذا كان هو فاضِلًا، ولا يَستَطيعُ إصلاحَهم إلَّا إذا كان هو صالحًا؛ لأنَّهم يَأخُذونَ مِنه بالقُدوةِ أكثَرَ مِمَّا يَأخُذونَ مِنه بالتَّلقينِ) [218] ((آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي)) (2/ 112، 113). .

انظر أيضا: