موسوعة الآداب الشرعية

تاسعًا: تَعليمُهم وإرشادُهم إلى ما يَنفعُهم ومَنعُهم مِمَّا يَضُرُّهم وتَعويدُهم على الخَيرِ


مِن حُقوقِ الأبناءِ: تَعليمُهم [154] قال ابنُ مُفلحٍ: (قال في "المستوعب": ... وعلى الوالدَينِ أن يُعَلِّما وَلَدَهما الكِتابةَ وما يُتقِنُ به دينَه مِن فرائِضِه وسُنَنِه، والسِّباحةَ والرَّميَ، وأن يورِثَه طَيِّبًا). ((الآداب الشرعية)) (1/433). وقال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (كَتَب عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ إلى أهلِ الأمصارِ: عَلِّموا أولادَكُمُ العَومَ والفُروسيَّةَ، ورَوُّوهم ما سارَ مِنَ المَثَلِ، وما حَسُنَ مِنَ الشِّعرِ. كان يُقالُ: مِن تَمامِ ما يَجِبُ للأبناءِ على الآباءِ تَعليمُ الكِتابةِ والسِّباحةِ). ((بهجة المجالس)) (1/ 768، 769). ، وإرشادُهم إلى ما يَنفَعُهم، ومَنعُهم مِمَّا يَضُرُّهم، وتعويدُهم على الخَيرِ ليَعتادوه، ولا يَصعُبَ عليهم إذا كَبِروا.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ-مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا أمرٌ بصَرفِ الأبناءِ عن أسبابِ العَذابِ، فيأمُرُهم وينهاهم بما يُصلِحُهم [155] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/300). .
2-قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 16 - 19] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1-عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((ألا كُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مَسؤولٌ عن رعيَّتِه؛ فالأميرُ الذي على النَّاسِ راعٍ، وهو مَسؤولٌ عن رعيَّتِه، والرَّجُلُ راعٍ على أهلِ بَيتِه، وهو مَسؤولٌ عنهم، والمرأةُ راعيةٌ على بَيتِ بَعلِها ووَلَدِه، وهى مَسؤولةٌ عنهم، والعَبدُ راعٍ على مالِ سَيِّدِه، وهو مَسؤولٌ عنه، ألا فكُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مَسؤولٌ عن رعيَّتِهـ)) [156] أخرجه البخاري (2554)، ومسلم (1829). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه: ((كُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مَسؤولٌ عن رعيَّتِهـ)) دَليلٌ على القيامِ بمَصالحِ رَعيَّتِه الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، بتعليمِهم ونَهيِهم، وأهلُ الرَّجُلِ -ومِنهم الأبناءُ- مِن جُملةِ رَعِيَّتِه [157] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/254)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (8/99). .
2-عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مُروا أولادَكُم بالصَّلاةِ وهم أبناءُ سَبعِ سِنينَ، واضرِبوهم عليها وهم أبناءُ عَشرٍ، وفرِّقوا بَينَهم في المَضاجِعِ)) [158] أخرجه أبو داود (495) واللَّفظُ له، وأحمد (6689). حسَّن إسنادَه النووي في ((المجموع)) (3/10)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (495). وذهب إلى تصحيحِه ابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (3/238)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (7/184)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (495): حسنٌ صحيحٌ. .
قال القاريُّ: ("مُرُوا": أمرٌ مِنَ الأمرِ حُذِفَت هَمزَتُه للتَّخفيفِ، ثُمَّ استُغنيَ عن هَمزةِ الوَصلِ تَخفيفًا، ثُمَّ حُرِّكَت فاؤُه؛ لتَعَذُّرِ النُّطقِ بالسَّاكِنِ "أولادَكُم" يَشمَلُ الذُّكورَ والإناثَ "بالصَّلاةِ"، وبما يَتَعَلَّقُ بها مِنَ الشُّروطِ "وهم أبناءُ سَبعِ سِنينَ" ليَعتادوا ويَستَأنِسوا بها "واضرِبوهم عليها" أي: على تَركِ الصَّلاةِ "وهم أبناءُ عَشرِ سِنينَ"؛ لأنَّهم بَلَغوا، أو قارَبوا البُلوغَ) [159] ((مرقاة المفاتيح)) (2/ 512). وقال الطِّيبيُّ: (يَعني: إذا بَلَغَ أولادُكُم سَبعَ سِنينَ فأْمُروهم بأداءِ الصَّلاةِ؛ ليَعتادوها ويَستَأنِسوا بها. فإذا بَلغوا عَشرًا ضُرِبوا على تَركِها، وفَرقوا بَينَ الأخِ والأُختِ مَثَلًا في المَضاجِعِ؛ لئَلَّا يَقَعوا فيما لا يَنبَغي؛ لأنَّ بُلوغَ العَشرِ مَظِنَّةُ الشَّهوةِ وإن كُنَّ أخَواتٍ. وإنَّما جَمَعَ بَينَ الأمرِ بالصَّلاةِ، والفَرقِ بَينَهم في المَضاجِعِ في الطُّفوليَّةِ تَأديبًا ومُحافظةً لأمرِ اللهِ كُلِّه؛ لأنَّ الصَّلاةَ أصلُها وأسبَقُها، وتَعليمًا لهم [المُعاشَرةَ] بَينَ الخَلقِ، وألَّا يَقِفوا مَواقِفَ التُّهَمِ، فيَتَجَنَّبوا مَحارِمَ اللهِ كُلَّها). ((الكاشف عن حقائق السنن)) (3/ 870، 871). .
3- عنِ الرُّبَيِّعِ بنتِ مُعَوِّذٍ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((أرسَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَداةَ عاشوراءَ إلى قُرى الأنصارِ: مَن أصبَحَ مُفطِرًا فليُتِمَّ بَقيَّةَ يَومِه، ومَن أصبَحَ صائِمًا فليَصُمْ، قالت: فكُنَّا نَصومُه بَعدُ، ونُصَوِّمُ صِبيانَنا، ونَجعَلُ لهمُ اللُّعبةَ مِنَ العِهنِ [160] العِهنُ: الصُّوفُ، واحِدَتُها عِهنةٌ، مِثلُ صوفٍ وصوفةٍ، وقيل: لا يُقالُ للصُّوفِ عِهنٌ إلَّا إذا كان مَصبوغًا. يُنظر: ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (2/ 58). ، فإذا بَكى أحَدُهم على الطَّعامِ أعطَيناه ذاكَ حتَّى يَكونَ عِندَ الإفطارِ)) [161] أخرجه البخاري (1960). .
وفي رِوايةٍ: ((ونَذهَبُ إلى المَسجِدِ، فنَجعَلُ لهمُ اللُّعبةَ مِنَ العِهنِ، فإذا بَكى أحَدُهم على الطَّعامِ أعطَيناها إيَّاهـ)) [162] أخرجها مسلم (1136). .
وفي رِوايةٍ أُخرى: ((ونَصنَعُ لهمُ اللُّعبةَ مِنَ العِهنِ، فنَذهَبُ به مَعنا، فإذا سَألونا الطَّعامَ أعطَيناهمُ اللُّعبةَ تُلهيهم حتَّى يُتِمُّوا صَومَهم)) [163] أخرجها مسلم (1136). .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (في هذا الحَديثِ تَدريجُ الصِّبيانِ بالنَّفلِ إلى زَمانِ فِعلِ الواجِبِ) [164] ((كشف المشكل)) (4/ 472). .
وقال النَّوويُّ: (في هذا الحَديثِ تَمرينُ الصِّبيانِ على الطَّاعاتِ، وتَعويدُهمُ العِباداتِ، ولكِنَّهم ليسوا مُكَلَّفينَ) [165] ((شرح مسلم)) (8/ 14). ويُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (4/ 91). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (في الحَديثِ حُجَّةٌ على مَشروعيَّةِ تَمرينِ الصِّبيانِ على الصِّيامِ...؛ لأنَّ مَن كان في مِثلِ السِّنِّ الذي ذُكِرَ في هذا الحَديثِ فهو غَيرُ مُكَلَّفٍ، وإنَّما صُنِع لهم ذلك للتَّمرينِ) [166] ((فتح الباري)) (4/ 201). .
4-عن عُمَرَ بنِ أبي سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: كُنتُ غُلامًا في حِجرِ [167] أي: في تَربيَتِه وتَحتَ نَظَرِه، وأنَّه يُرَبِّيه في حِضنِه تَربيةَ الولدِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 521). وينظر أيضًا: ((إكمال المعلم)) لعياض (6/ 487). رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانت يَدي تَطيشُ [168] تَطيشُ، أي: تَتَحَرَّكُ وتَمتَدُّ إلى نواحي الصَّحفةِ، ولا تَقتَصِرُ على مَوضِعٍ واحِدٍ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (13/ 193). في الصَّحفةِ [169] الصَّحفةُ: دونَ القَصعةِ، وهيَ ما تَسَعُ ما يُشبعُ خَمسةً، فالقَصعةُ تُشبعُ عَشَرةً، وقيل: الصَّحفةُ كالقَصعةِ، وجَمعُها صِحافٌ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (13/ 193). وينظر أيضًا: ((الصحاح)) للجوهري (4/ 1384). ، فقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا غُلامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمينِك، وكُلْ مِمَّا يَليك)) [170] أخرجه البخاري (5376) واللفظ له، ومسلم (2022). .
5-عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه قال: ((كُنتُ رَديفَ [171] الرَّديفُ والرِّدفُ: هو الرَّاكِبُ خَلفَ الرَّاكِبِ، يُقالُ مِنه: رَدِفَه يَردَفُه، بكَسرِ الدَّالِ في الماضي وفتحِها في المُضارِعِ: إذا رَكِبَ خَلفَه، وأردَفتُه أنا، وأصلُه مِن رُكوبِه على الرِّدفِ، وهو العَجُزُ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (1/ 259، 260)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (3/ 139)، ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (6/ 219). رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا غُلامُ، أو يا غُلَيِّمُ، ألا أعلِّمُك كلماتٍ ينفعُك اللهُ بهنَّ؟ فقُلتُ: بلى، فقال: احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تجِدْه أمامَك، تَعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعرِفْك في الشِّدَّةِ، وإذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استَعنتَ فاستعِنْ باللهِ؛ قد جَفَّ القَلَمُ بما هو كائنٌ، فلو أنَّ الخَلقَ كُلَّهم جميعًا أرادوا أن ينفَعوك بشيءٍ لم يكتُبْه اللهُ لك لم يَقدِروا عليه، وإن أرادوا أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يَكتُبْه اللهُ لك لم يَقدِروا عليه، واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرَهُ خيرًا كثيرًا، وأنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مع الكَربِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا)) [172] أخرجه مِن طُرُقٍ: أحمَدَ (2803) واللَّفظُ له، والطبراني (11/223) (11560)، والحاكِم (6449). صَحَّحه عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/333)، والقرطبي في ((التفسير)) (8/335)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2803)، وحَسَّنه وجَوَّده ابنُ رَجَب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/459)، وحَسَّنه ابنُ حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/327). وأخرجه بنحوه الترمذي (2516)، وأحمد (2669)، ولفظ الترمذيِّ: (كنتُ خَلفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فقال: ((يا غُلامُ، إنِّي أعلِّمُك كَلِماتٍ: احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَك، إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ، وإذا استعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلَمْ أنَّ الأُمَّة لو اجتمَعَت على أن ينفعوك بشَيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشَيءٍ قد كتبه اللهُ لك، واعلَمْ أنَّ الأُمَّة لو اجتمَعَت على أن يضُرُّوك بشَيءٍ لم يضرُّوك إلَّا بشَيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحُفُ). صحَّحه الترمذي، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 160)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2516)، وصححه لغيره الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (699). .
6-عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أخَذَ الحَسَنُ بنُ عَليٍّ تَمرةً مِن تَمرِ الصَّدَقةِ، فجَعَلها في فيه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كِخْ كِخْ [173] كِخْ كِخْ: زَجرٌ للصِّبيانِ، ورَدعٌ عَمَّا يُلابسونَه مِنَ الأفعالِ، فهيَ كَلمةٌ تُقالُ للصَّبيِّ إذا زُجِرَ عن تَناوُلِ شَيءٍ، وعنِ التَّقَذُّرِ مِنَ الشَّيءِ أيضًا. وتُقالُ بفتحِ الكافِ وكَسرِها، وسُكونِ الخاءَينِ وكَسرِهما مَعًا، وبالتَّنوينِ مَعَ الكَسرِ وبغَيرِ التَّنوينِ. يُنظر: ((الفائق)) للزمخشري (3/ 248)، ((مشارق الأنوار)) لعياض (1/ 337)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 658). ، ارمِ بها، أمَا عَلِمتَ أنَّا لا نَأكُلُ الصَّدَقةَ؟)) [174] أخرجه البخاري (1491)، ومسلم (1069) واللَّفظُ له. .
قال عِياضٌ: (في الحَديثِ أنَّ الصَّغيرَ مِن أبناءِ المُسلمينَ يُوقى كَما يُوقى الكَبيرُ مِنَ المَحاذيرِ والخَبائِثِ، وإن كان غَيرَ مُخاطَبٍ، فوَلِيُّه مُخاطَبٌ بحِراسَتِه مِن ذلك) [175] ((إكمال المعلم)) (3/ 624). .
فائِدةٌ:
قال ابنُ القَيِّمِ: (مِمَّا يَحتاجُ إليه الطِّفلُ غايةَ الاحتياجِ الاعتِناءُ بأمرِ خُلُقِه؛ فإنَّه يَنشَأُ على ما عَوَّدَه المُرَبِّي في صِغَرِه مِن حَردٍ وغَضَبٍ ولجاجٍ وعَجَلةٍ وخِفَّةٍ مَعَ هَواه، وطَيشٍ وحِدَّةٍ وجَشَعٍ، فيَصعُبُ عليه في كِبَرِه تَلافي ذلك، وتَصيرُ هذه الأخلاقُ صِفاتٍ وهَيئاتٍ راسِخةً له، فلو تحرَّز مِنها غايةَ التَّحَرُّزِ فضَحَته -ولا بُدَّ- يَومًا ما؛ ولهذا تَجِدُ أكثَرَ النَّاسِ مُنحَرِفةً أخلاقُهم، وذلك مِن قِبَلِ التَّربيةِ التي نَشَأ عليها.
وكذلك يَجِبُ أن يَتَجَنَّبَ الصَّبيُّ إذا عَقَل مَجالِسَ اللَّهوِ والباطِلِ والغِناءِ وسَماعِ الفُحشِ والبدَعِ ومَنطِقِ السُّوءِ؛ فإنَّه إذا عَلِقَ بسَمعِه عَسُرَ عليه مُفارَقَتُه في الكِبَرِ، وعَزَّ على وليِّه استِنقاذُه مِنه، فتَغييرُ العَوائِدِ مِن أصعَبِ الأُمورِ، يَحتاجُ صاحِبُه إلى استِجدادِ طَبيعةٍ ثانيةٍ، والخُروجُ عن حُكمِ الطَّبيعةِ عَسِرٌ جِدًّا.
ويَنبَغي لوليِّه أن يُجَنِّبَه الأخذَ مِن غَيرِه غايةَ التَّجَنُّبِ؛ فإنَّه مَتى اعتادَ الأخذَ صارَ له طَبيعةً، ونَشَأ بأن يَأخُذَ لا بأن يُعطيَ، ويُعَوِّدَه البَذلَ والإعطاءَ، وإذا أرادَ الوليُّ أن يُعطيَ شَيئًا أعطاه إيَّاه على يَدِه ليَذوقَ حَلاوةَ الإعطاءِ.
ويُجَنِّبَه الكَذِبَ والخيانةَ أعظَمَ مِمَّا يُجَنِّبُه السُّمَّ النَّاقِعَ؛ فإنَّه مَتى سَهَّل له سَبيلَ الكَذِبِ والخيانةِ أفسَدَ عليه سَعادةَ الدُّنيا والآخِرةِ، وحَرَمه كُلَّ خَيرٍ.
ويُجَنِّبَه الكَسَلَ والبطالةَ والدَّعَةَ والرَّاحةَ، بَل يَأخُذُه بأضدادِها، ولا يُريحُه إلَّا بما يُجِمُّ نَفسَه وبَدَنَه للشُّغلِ؛ فإنَّ الكَسَلَ والبطالةَ عَواقِبُ سُوءٍ ومَغَبَّةُ نَدَمٍ، وللجِدِّ والتَّعَبِ عَواقِبُ حَميدةٌ، إمَّا في الدُّنيا، وإمَّا في العُقبى، وإمَّا فيهما؛ فأروَحُ النَّاسِ أتعَبُ النَّاسِ، وأتعَبُ النَّاسِ أروَحُ النَّاسِ؛ فالسِّيادةُ في الدُّنيا والسَّعادةُ في العُقبى لا يوصَلُ إليها إلَّا على جِسرٍ مِنَ التَّعَبِ، قال يَحيى بنُ أبي كَثيرٍ: لا يُنالُ العِلمُ براحةِ الجِسمِ.
ويُعَوِّدَه الانتِباهَ آخِرَ اللَّيلِ؛ فإنَّه وقتُ قَسمِ الغَنائِمِ وتَفريقِ الجَوائِزِ، فمُستَقِلٌّ ومُستَكثِرٌ ومَحرومٌ، فمَتى اعتادَ ذلك صَغيرًا سَهُل عليه كَبيرًا.
ويُجَنِّبَه فُضولَ الطَّعامِ والكَلامِ والمَنامِ ومُخالطةَ الأنامِ؛ فإنَّ الخَسارةَ في هذه الفَضلاتِ، وهيَ تُفوِّتُ على العَبدِ خَيرَ دُنياه وآخِرَتِه، ويُجَنِّبَه مَضارَّ الشَّهَواتِ المُتَعَلِّقةِ بالبَطنِ والفَرجِ غايةَ التَّجَنُّبِ؛ فإنَّ تَمكينَه مِن أسبابِها والفَسْحَ له فيها يُفسِدُه فسادًا يَعِزُّ عليه بَعدَه صَلاحُه، وكَم مِمَّن أشقى وَلَدَه وفِلذةَ كَبدِه في الدُّنيا والآخِرةِ بإهمالِه وتَركِ تَأديبِه، وإعانَتِه له على شَهَواتِه، ويَزعُمُ أنَّه يُكرِمُه وقد أهانَه، وأنَّه يَرحَمُه وقد ظَلمَه وحَرَمَه! ففاتَه انتِفاعُه بوَلَدِه، وفوَّتَ عليه حَظَّه في الدُّنيا والآخِرةِ، وإذا اعتَبَرتَ الفسادَ في الأولادِ رَأيتَ عامَّتَه مِن قِبَلِ الآباءِ.
والحَذَرُ كُلُّ الحَذَرِ مِن تَمكينِه مِن تَناوُلِ ما يُزيلُ عَقلَه مِن مُسكِرٍ وغَيرِه، أو عِشرةِ مَن يُخشى فسادُه أو كَلامُه له أوِ الأخذُ في يَدِه [176] عن أبي بَكرِ بنِ أيُّوبَ، قال: سَمِعتُ إبراهيمَ الحَربيَّ يَقولُ: (جَنِّبوا أولادَكُم قُرَناءَ السُّوءِ قَبلَ أن تَصبَغوهم في البَلاءِ كَما يُصبَغُ الثَّوبُ. قال: وسَمِعتُه يَقولُ: أوَّلُ فَسادِ الصِّبيانِ بَعضِهم مِن بَعضٍ). رواه ابنُ الجَوزيِّ في ((ذم الهوى)) (ص: 116). ؛ فإنَّ ذلك الهَلاكُ كُلُّه، ومَتَّى سَهَّل عليه ذلك فقدِ استَسهَل الدِّياثةَ، ولا يَدخُلُ الجَنَّةَ دَيُّوثٌ، فما أفسَدَ الأبناءَ مِثلُ تَغفُّلِ الآباءِ وإهمالِهم واستِسهالِهم شَرَرَ النَّارِ بَيْنَ الثِّيابِ، فأكثَرُ الآباءِ يَعتَمِدونَ مَعَ أولادِهم أعظَمَ ما يَعتَمِدُ العَدوُّ الشَّديدُ العَداوةِ مَعَ عَدوِّه وهم لا يَشعُرونَ، فكَم مِن والدٍ حَرَم وَلَدَه خَيرَ الدُّنيا والآخِرةِ، وعَرَّضه لهَلاكِ الدُّنيا والآخِرةِ! وكُلُّ هذا عَواقِبُ تَفريطِ الآباءِ في حُقوقِ اللهِ، وإضاعَتِهم لها. وإعراضُهم عَمَّا أوجَبَ اللَّهُ عليهم مِنَ العِلمِ النَّافِعِ والعَمَلِ الصَّالحِ حَرَمَهمُ الانتِفاعَ بأولادِهم، وحَرَم الأولادَ خَيرَهم ونَفْعَهم لهم، وهو مِن عُقوبةِ الآباءِ.
ويُجَنِّبَه لُبسَ الحَريرِ [177] وكَذا يَحرُمُ تَزيينُ الصِّبيانِ بالذَّهَبِ -والإثمُ على مَن يُزَيِّنُه ويُلبِسُه؛ لأنَّا أُمِرنا بحِفظِهم- وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ، والحَنابِلةِ، وقَولٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ، ورَجَّحَه ابنُ القَيِّمِ، وبه قال ابنُ عُثيمين. يُنظر بَيانُ ذلك في: ((فقه اللباس والزينة)) بإشراف علوي السقاف (ص: $). ؛ فإنَّه مُفسِدٌ له ومُخَنِّثٌ لطَبيعَتِه كَما يُخَنِّثُه اللِّواطُ وشُربُ الخَمرِ والسَّرِقةُ والكَذِبُ، وقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "حُرِّم الحَريرُ والذَّهَبُ على ذُكورِ أُمَّتي، وأُحِلَّ لإناثِهم" [178] أخرجه الترمذي (1720)، والنسائي (5148)، وأحمد (19645) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ الترمذيِّ: عن أبي موسى الأشعَريِّ: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((حُرِّم لِباسُ الحَريرِ والذَّهَبِ على ذُكورِ أُمَّتي، وأُحِلُّ لإناثِهم)). صَحَّحه بشَواهدِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19645)، وقال الترمذي، والنووي في ((المجموع)) (1/254): حَسَنٌ صحيحٌ. وذَهَبَ إلى تَصحيحِه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (1720). ، والصَّبيُّ وإن لم يكنْ مُكَلَّفًا فوَليُّه مُكَلَّفٌ، لا يَحِلُّ له تمكينُه من المحَرَّمِ؛ فإنَّه يعتادُه ويَعسُرُ فِطامُه عنه، وهذا أصَحُّ قَولَيِ العُلَماءِ، واحتجَّ مَن لم يَرَه حرامًا عليه بأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ، فلم يُحَرِّمْ لُبسَه للحريرِ كالدَّابَّةِ، وهذا من أفسَدِ القياسِ؛ فإنَّ الصَّبيَّ وإن لم يكُنْ مُكَلَّفًا فإنَّه مستَعِدٌّ للتَّكليفِ؛ ولهذا لا يُمكَّنُ من الصَّلاةِ بغيرِ وضوءٍ، ولا من الصَّلاةِ عُريانًا ونَجِسًا، ولا مِن شُربِ الخَمرِ، والقِمارِ، واللِّواطِ.
ومِمَّا يَنبَغي أن يُعتَمَدَ حالُ الصَّبيِّ وما هو مُستَعِدٌّ له مِنَ الأعمالِ ومُهَيَّأٌ له مِنها، فيَعلمُ أنَّه مَخلوقٌ له، فلا يَحمِلُه على غَيرِه ما كان مَأذونًا فيه شَرعًا؛ فإنَّه إن حَمَله على غَيرِ ما هو مُستَعِدٌّ له لم يُفلِحْ فيه، وفاتَه ما هو مُهَيَّأٌ له، فإذا رَآه حَسَنَ الفَهمِ صحيحَ الإدراكِ جَيِّدَ الحِفظِ واعيًا، فهذه مِن عَلاماتِ قَبولِه وتَهَيُّئِه للعِلمِ ليَنقُشَه في لوحِ قَلبِه ما دامَ خاليًا؛ فإنَّه يَتَمَكَّنُ فيه ويَستَقِرُّ ويَزكو مَعَه، وإن رَآه بخِلافِ ذلك مِن كُلِّ وجهٍ وهو مُستَعِدٌّ للفُروسيَّةِ وأسبابِها مِنَ الرُّكوبِ والرَّميِ واللَّعِبِ بالرُّمحِ، وأنَّه لا نَفاذَ له في العِلمِ ولم يُخلَقْ له، مَكَّنَه مِن أسبابِ الفُروسيَّةِ والتَّمَرُّنِ عليها؛ فإنَّه أنفعُ له وللمُسلمينَ، وإن رَآه بخِلافِ ذلك وأنَّه لم يُخلَقْ لذلك، ورَأى عَينَه مَفتوحةً إلى صَنعةٍ مِنَ الصَّنائِعِ مُستَعِدًّا لها قابلًا لها، وهيَ صِناعةٌ مُباحةٌ نافِعةٌ للنَّاسِ، فليُمَكِّنْه مِنها. هذا كُلُّه بَعدَ تَعليمِه له ما يَحتاجُ إليه في دينِه؛ فإنَّ ذلك مُيَسَّرٌ على كُلِّ أحَدٍ لتَقومَ حُجَّةُ اللهِ على العَبدِ، فإنَّ له على عِبادِه الحُجَّةَ البالغةَ، كَما له عليهمُ النِّعمةُ السَّابغةُ. واللَّهُ أعلَمُ) [179] ((تحفة المودود بأحكام المولود)) (ص: 240-244). .

انظر أيضا: