فوائِدُ ومَسائِلُ:
فَضلُ النَّفَقةِ على الأولادِ:1- عَنِ المِقدامِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((ما أطعَمتَ نَفسَك فهو صَدَقةٌ، وما أطعَمتَ وَلَدَك وزَوجَتَك وخادِمَك فهو صَدَقةٌ)) [121] أخرجه أحمد (17179)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9185)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (195) واللفظ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (143)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17179)، وصحَّح إسنادَه ابن كثير في ((التفسير)) (2/264)، وجَوَّده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/106). .
2- عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له:
((... إنَّك أن تَذَرَ ورَثَتَك أغنياءَ خَيرٌ مِن أن تَذَرَهم عالةً [122] عالةً: أي: فُقَراءَ، جَمعُ عائِلٍ، وهو الفقيرُ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 686). يَتَكَفَّفونَ [123] يَتَكَفَّفونَ، أي يَتَعَرَّضونَ للمَسألةِ بأكُفِّهم. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 686). النَّاسَ، وإنَّك لن تُنفِقَ نَفقةً تَبتَغي بها وَجهَ اللهِ إلَّا أُجِرتَ بها، حتَّى ما تَجعَلُ في في [124] أي: في فَمِ. يُنظر: ((فتح البارِّي)) لابن حجر (1/ 169). امرَأتِك)) [125] أخرجه البخاري (1295) واللَّفظُ له، ومسلم (1628). .
3- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((دينارٌ أنفَقْتَه في سَبيلِ اللهِ، ودينارٌ أنفَقْتَه في رَقَبةٍ، ودينارٌ تَصَدَّقتَ به على مِسكينٍ، ودينارٌ أنفَقْتَه على أهلِك، أعظَمُها أجرًا الذي أنفَقْتَه على أهلِك)) [126] أخرجه مسلم (995). .
4-عن أبي قِلابةَ، عن أبي أسماءَ، عن ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أفضَلُ دينارٍ يُنفِقُه الرَّجُلُ دينارٌ يُنفِقُه على عِيالِه، ودينارٌ يُنفِقُه الرَّجُلُ على دابَّتِه في سَبيلِ اللهِ، ودينارٌ يُنفِقُه على أصحابِه في سَبيلِ اللهِ))، قال أبو قِلابةَ: وبَدَأ بالعيالِ، ثُمَّ قال أبو قِلابةَ: وأيُّ رَجُلٍ أعظَمُ أجرًا مِن رَجُلٍ يُنفِقُ على عِيالٍ صِغارٍ يُعفُّهم أو يَنفَعُهمُ اللَّهُ به، ويُغنيهم
[127] أخرجه مسلم (994). ؟!
مِن كَلامِ السَّلَفِ والعُلَماءِ في فَضلِ النَّفَقةِ على العِيالِ1- عن عبدِ اللهِ بنِ المُبارَكِ، قال: (لا يَقَعُ مَوقِعَ الكَسبِ على العِيالِ شَيءٌ، ولا الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. وقال: رُبَّ عَمَلٍ صَغيرٍ تُكَثِّرُه النِّيَّةُ، ورُبَّ عَمَلٍ كَثيرٍ تُصَغِّرُه النِّيَّةُ)
[128] ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (2/ 326)، ((سير أعلام النبلاء)) (8/ 399، 400). .
2-عنِ الشَّعبيِّ، قال: (ما تَرَكَ عَبدٌ مالًا هو فيه أعظَمُ أجرًا مِن مالٍ يَترُكُه لوَلَدِه يَتَعَفَّفُ به عنِ النَّاسِ)
[129] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (4/ 313). .
3-عن حَمَّادٍ، قال: (رَأيتُ أيُّوبَ لا يَنصَرِفُ مِن سوقِه إلَّا مَعَه شَيءٌ يَحمِلُه لعيالِه، حتَّى رَأيتُ قارورةَ الدُّهنِ بيَدِه يَحمِلُها، فقُلتُ له في ذلك، فقال: إنِّي سَمِعتُ الحَسَنَ يَقولُ: إنَّ المُؤمِنَ أخَذَ عنِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أدَبًا حَسَنًا، فإذا أوسَعَ عليه أوسَعَ، وإذا أمسَكَ عليه أمسَكَ)
[130] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (3/ 9). .
4-قال الغَزاليُّ: (قال بَعضُهم لبَعضِ العُلماءِ: مِن كُلِّ عَمَلٍ أعطاني اللهُ نَصيبًا حتَّى ذَكَر الحَجَّ والجِهادَ وغَيرَهما، فقال له: أينَ أنتَ مِن عَمَلِ الأبدانِ؟ قال: وما هو؟ قال: كَسبُ الحَلالِ، والنَّفَقةُ على العِيالِ.
5-قال ابنُ تَيميَّةَ: (مَن أحَبَّ أن يَلحَقَ بدَرَجةِ الأبرارِ، ويَتَشَبَّهَ بالأخيارِ، فليَنوِ في كُلِّ يَومٍ تَطلُعُ فيه الشَّمسُ نَفعَ الخَلقِ فيما يَسَّر اللَّهُ مِن مَصالحِهم على يَدَيه، وليُطِعِ اللَّهَ في أخذِ ما حَلَّ، وتَركِ ما حَرُمَ، وليَتَورَّعْ عنِ الشُّبُهاتِ ما استَطاعَ، فإنَّ طَلَبَ الحَلالِ والنَّفقةَ على العِيالِ بابٌ عَظيمٌ لا يَعدِلُه شَيءٌ مِن أعمالِ البرِّ...
وقال ابنُ المُبارَكِ لأصحابِه وهو في الغَزوِ: هَل تَعلَمونَ عَمَلًا أفضَلَ مِن هذا؟ قالوا: لا نَعلمُه، قال: بَلى أنا أعلَمُه، رَجُلٌ مُتَعَفِّفٌ مُحتَرِفٌ أبو عِيالٍ، قامَ مِنَ اللَّيلِ، فوجَدَ صِبيانَه مُكَشَّفينَ فغَطَّاهم، وثارَ إلى صَلاتِهـ)
[131] ((الإيمان الأوسط)) (ص: 609، 610). .
احتِسابُ النَّفَقةِ على الأولادِ والأهلِ:عن عَمرِو بنِ أُمَيَّةَ، قال: مَرَّ عُثمانُ بنُ عَفَّانَ -أو عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ- بمِرطٍ
[132] المرطُ: كِساءٌ مِن صوفٍ أَو خَزٍّ أَو كتَّانٍ. وقيل غير ذلك يُنظر: ((مشارق الأنوار)) لعياض (1/ 377). ، فاستَغلاه، فمُرَّ به على عَمرِو بنِ أُميَّةَ فاشتَراه، فكَساه امرَأتَه سُخَيلةَ بنتَ عُبَيدةَ بنِ الحارِثِ بنِ المُطَّلِبِ، فمَرَّ به عُثمانُ -أو عَبدُ الرَّحمَنِ- فقال: ما فَعَل المِرطُ الذي ابتَعتَ؟ قال عَمرٌو: تَصَدَّقَتُ به على سُخَيلةَ بنتِ عُبَيدةَ. فقال: إنَّ كُلَّ ما صَنَعتَ إلى أهلِك صَدَقةٌ؟ قال عَمرٌو: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ ذاكَ، فذُكِر ما قال عَمرٌو لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال:
((صَدَق عَمرٌو، كُلُّ ما صَنَعتَ إلى أهلِك فهو صَدَقةٌ عليهم)) [133] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (9140) مُختَصَرًا، وابن حبان (4237)، وأبو يعلى (6877) واللَّفظُ له حَسَّنه السُّيوطيُّ في ((الجامع الصغير)) (6321)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (4546). وذَهَبَ إلى تَصحيحِه ابنُ حبان. وأخرجه مِن طَريقٍ آخَرَ: أحمَد (17617) مُختَصَرًا ولفظه: عن عَمرِو بنِ أُميَّةَ قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما أعطى الرَّجُلُ امرَأتَه فهو صَدَقةٌ)). صَحَّحه لغَيرِه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (1962)، وشُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((مسند أحمد)) (17617)، وحَسَّنه السُّيوطيُّ في ((الجامع الصغير)) (7808). .
وعن أبي مَسعودٍ البَدريِّ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((إنَّ المُسلمَ إذا أنفقَ على أهلِه نَفقةً وهو يَحتَسِبُها [134] قال النَّوويُّ: (مَعناه أرادَ بها وَجهَ اللهِ تعالى، فلا يَدخُلُ فيه مَن أنفقَها ذاهلًا، ولكِن يَدخُلُ المُحتَسِبُ، وطَريقُه في الاحتِسابِ أن يَتَذَكَّرَ أنَّه يَجِبُ عليه الإنفاقُ على الزَّوجةِ وأطفالِ أولادِه والمَملوكِ وغَيرِهم مِمَّن تَجِبُ نَفقَتُه على حَسَبِ أحوالِهم واختِلافِ العُلماءِ فيهم، وأنَّ غَيرَهم مِمَّن يُنفِقُ عليه مَندوبٌ إلى الإنفاقِ عليهم، فيُنفِقُ بنيَّةِ أداءِ ما أُمِرَ به، وقد أُمِرَ بالإحسانِ إليهم. واللَّهُ أعلمُ). ((شرح مسلم)) (7/88). ، كانت له صَدَقةً)) [135] أخرجه مسلم (1002). .
قال النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ المُسلمَ إذا أنفَقَ على أهلِه نَفَقةً يَحتَسِبُها كانت له صَدَقةً» فيه بَيانُ أنَّ المُرادَ بالصَّدَقةِ والنَّفقةِ المُطلَقةِ في باقي الأحاديثِ إذا احتَسَبَها، ومَعناه أرادَ بها وجهَ اللهِ تعالى، فلا يَدخُلُ فيه مَن أنفقَها ذاهلًا، ولكِن يَدخُلُ المُحتَسِبُ، وطَريقُه في الاحتِسابِ: أن يَتَذَكَّرَ أنَّه يَجِبُ عليه الإنفاقُ على الزَّوجةِ وأطفالِ أولادِه والمَملوكِ وغَيرِهم مِمَّن تَجِبُ نَفقَتُه، على حَسَبِ أحوالِهم واختِلافِ العُلَماءِ فيهم، وأنَّ غَيرَهم مِمَّن يُنفِقُ عليه مَندوبٌ إلى الإنفاقِ عليهم، فيُنفِقُ بنيَّةِ أداءِ ما أُمِر به، وقد أُمِرَ بالإحسانِ إليهم، واللهُ أعلَمُ)
[136] ((شرح مسلم)) (7/ 88، 89). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (نَفَقةُ المَرءِ على نَفسِه وعيالِه أفضَلُ مِن نَفقَتِه على مَن لا تَلزَمُه نَفقَتُه؛ لأنَّ ذلك واجِبٌ، وما تَقرَّب العِبادُ إلى اللهِ بمِثلِ أداءِ ما افتَرَضَ عليهم ...
ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ يَفعَلونَ ذلك طَبعًا وعادةً لا يَبتَغونَ به وَجهَ اللهِ تعالى، كما يَفعَلونَ في قَضاءِ الدُّيونِ مِن أثمانِ المَبيعاتِ والقُروضِ وغَيرِ ذلك مِنَ المُعاوَضاتِ والحُقوقِ، وهذه كُلُّها واجِباتٌ، فمَن فعَلها ابتِغاءَ وَجهِ اللهِ كان له عليها مِنَ الأجرِ أعظَمُ مِن أجرِ المُتَصَدِّقِ نافِلةً. لكِن يَتَصَدَّقُ أحَدُهم بالشَّيءِ اليَسيرِ على المِسكينِ وابنِ السَّبيلِ ونَحوِ ذلك لوَجهِ اللهِ تعالى، فيَجِدُ طَعمَ الإيمانِ والعِبادةِ للَّهِ، ويُعطي في هذه أُلوفًا فلا يَجِدُ في ذلك طَعمَ الإيمانِ والعِبادةِ؛ لأنَّه لم يُنفِقْه ابتِغاءَ وَجهِ اللهِ.
فمِن هذا الوَجهِ صارَ في عُرفِهم أنَّ هذه النَّفقاتِ التي لا بُدَّ مِنها ليسَت عِبادةً، وقد لا يَستَشعِرونَ إيجابَ الشَّارِعِ لها، وإنَّما يَستَشعِرُ أحَدُهم ما في تَركِه مِنَ المَضرَّةِ العاجِلةِ، إمَّا في نَفسِه وإمَّا مِن جِهةِ الخَلقِ؛ فإنَّهم لا يَترُكونَ حُقوقَهم، فهو يَفعَلُها لرَغبَتِهم ورَهبَتِهم، وللعادةِ التي هو عليها، وقد يَفعَلُها مَحَبَّةً للحَقِّ ورَغبةً فيه مِن غَيرِ أن يَرجوَ أحَدًا ولا يَخافَه، ومِن غَيرِ أن يَفعَلَها تَعبُّدًا. وهذا حَسَنٌ لا بَأسَ به؛ فإنَّ مَن فَعَل الحَسَناتِ لأنَّها حَسَناتٌ نَفَعه ذلك، كَما يَنفعُ الحَيَوانَ أكلُه وشُربُه، لكِن لا يَكونُ عِبادةً للهِ. بخِلافِ مَن لا يَفعَلُه إلَّا خَوفًا مِنَ الخَلقِ؛ فإنَّ هذا مَذمومٌ.
ولهذا لمَّا قيل للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الرَّجُلُ يُقاتِلُ شُجاعةً ويُقاتِلُ حَميَّةً ويُقاتِلُ ليُريَ مَكانَه، فأيُّ ذلك في سَبيلِ اللهِ؟ فقال: «مَن قاتَل لتَكونَ كَلِمةُ اللهِ هيَ العُليا فهو في سَبيلِ اللهِ». وهذا يَكونُ في القِتالِ باليَدِ واللِّسانِ وإنفاقِ المالِ، وذلك كُلُّه يَكونُ جِهادًا، لكِن ما ليسَ في سَبيلِ اللهِ مِنه ما لا يُعاقَبُ عليه المَرءُ، ومِنه ما يُعاقَبُ عليه.
والمَقصودُ هنا: أنَّ هذه الأُمورَ العاديَّةَ المُباحةَ تُفعَلُ لمَحَبَّةٍ وهَوًى وإرادةٍ، فإن كان ذلك يُستَعانُ بها على عِبادةِ اللهِ كانت طاعةً وعِبادةً، وإن كان ذلك لمُجَرَّدِ العادةِ والطَّبعِ على الوَجهِ الحَقِّ لم يَكُنْ ذلك مَعصيةً ولا إثمًا، وإن لم يَقصِدْ بها صاحِبُها العِبادةَ للَّهِ)
[137] ((جواب الاعتراضات المصرية)) (ص: 94 - 96). .
وقال زَبيدٌ: (يَسُرُّني أن يَكونَ لي في كُلِّ شَيءٍ نيَّةٌ، حتَّى في الأكلِ والنَّومِ)
[138] أخرجه ابن المبارك في ((الزهد)) (195)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 61). .