موسوعة الآداب الشرعية

سادسًا: جَمعُ الصَّلاةِ للمَطَرِ


يَجوزُ الجَمعُ [539] المُرادُ بجَمعِ الصَّلَواتِ: هو أن يَجمَعَ المُصَلِّي بَينَ فريضَتَينِ في وقتِ إحداهما؛ إمَّا جَمعَ تَقديمٍ، وإمَّا جَمعَ تَأخيرٍ. والصَّلَواتُ التي يَجوزُ فيها الجَمعُ هيَ: الظُّهرُ مَعَ العَصر، والمَغرِبُ مَعَ العِشاءِ. يُنظر: ((ملخص فقه العبادات)) بإشراف علوي السقاف (ص: 323). بَينَ الصَّلاتَينِ للمَطَرِ [540] وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: المالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ. وضابِطُ هذا المَطَرِ عِندَ المالِكيَّةِ: أن يَكونَ مَطَرًا غَزيرًا، ولَو مُتَوقَّعًا، وهو الذي يَحمِلُ النَّاسَ على تَغطيةِ الرَّأسِ، أوِ الطِّين الذي يَمنَعُ المَشيَ بالمَداسِ مَعَ ظُلمةِ الشَّهرِ. يُنظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/ 514). وعِندَ الشَّافِعيَّةِ: قَوِيُّ المَطَرِ وضَعيفُه سَواءٌ إذا بَلَّ الثَّوبَ، ويُشتَرَطُ وُجودُ المَطَرِ في أوَّلِ الصَّلاتَينِ، ويَكونُ الجَمعُ في وقتِ الأولى، ولا يَجوزُ في وقتِ الثَّانيةِ على أصَحِّ القَولَينِ. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (4/378، 382،381). وعِندَ الحَنابِلةِ: المَطَرُ المُبيحُ للجَمعِ هو ما يَبُلُّ الثِّيابَ، وتَلحَقُ المَشَقَّةُ بالخُروجِ فيه. وأمَّا الطَّلُّ والمَطَرُ الخَفيفُ الذي لا يَبُلُّ الثِّيابَ، فلا يُبيحُ. يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/202). والجَمعُ للمَطَرِ قال به الفُقَهاءُ السَّبعةُ، وحُكيَ الإجماعُ على ذلك: قال ابنُ قُدامةَ: (يَجوزُ الجَمعُ لأجلِ المَطَرِ بَينَ المَغرِبِ والعِشاءِ. ويُروى ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وفعَلَه أبانُ بنُ عُثمانَ في أهلِ المَدينةِ. وهو قَولُ الفُقَهاءِ السَّبعةِ، ومالِكٍ، والأوزاعيِّ، والشَّافِعيِّ، وإسحاقَ، ورُويَ عن مَروانَ، وعُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ) ((المغني)) (2/202). والمُرادُ بالفُقَهاءِ السَّبعةِ: (سَعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، وعُروةُ بنُ الزُّبَيرِ، والقاسِمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ، وخارِجةُ بنُ زَيدِ بنِ ثابِتٍ، وعُبَيدُ اللَّهِ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ، وسُلَيمانُ بنُ يَسارٍ، وأبو بَكرِ بنُ عَبدِ الرَّحمَنِ). يَنظُرُ ((الذخيرة)) للقرافي (13/343). وقال ابنُ قُدامةَ أيضًا: (ولَنا: أنَّ أبا سَلَمةَ بنَ عَبدِ الرَّحمَنِ قال: "إنَّ مِنَ السُّنَّةِ إذا كان يَومٌ مَطيرٌ: أن يُجمَعَ بَينَ المَغرِبِ والعِشاءِ"، رَواه الأثرَمُ. وهذا يَنصَرِفُ إلى سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وقال نافِعٌ: "إنَّ عَبدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ كان يَجمَعُ إذا جَمَعَ الأُمَراءُ بَينَ المَغرِبِ والعِشاءِ". وقال هشامُ بنُ عُروةَ: "رَأيتُ أبانَ بنَ عُثمانَ يَجمَعُ بَينَ الصَّلاتَينِ في اللَّيلةِ المَطيرةِ؛ المَغرِبِ والعِشاءِ، فيُصَلِّيهما مَعَه عُروةُ بنُ الزُّبَيرِ، وأبو سَلَمةَ بنُ عَبدِ الرَّحمَنِ، وأبو بَكرِ بنُ عَبدِ الرَّحمَنِ، لا يُنكِرونَه"، ولا يُعرَفُ لهم في عَصرِهم مُخالِفٌ؛ فكان إجماعًا). ((المغني)) (2/202). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((جَمع رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَ الظُّهرِ والعَصرِ والمَغرِبِ والعِشاءِ بالمَدينةِ في غَيرِ خَوفٍ ولا مَطَرٍ. قُلتُ لابنِ عبَّاسٍ: لمَ فَعَل ذلك؟ قال: كَي لا يُحرِجَ أُمَّتَهـ)) [541] أخرجه مسلم (705). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ تَعبيرَ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (مِن غَيرِ خَوفٍ ولا مَطَرٍ) يُشعِرُ أنَّ الجَمعَ للمَطَرِ كان مَعروفًا في عَهدِه صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم، ولَو لم يَكُنْ كذلك لما كان ثَمَّةَ فائِدةٌ مِن نَفيِ المَطَرِ كَسَبَبٍ مُسَوِّغٍ للجَمعِ [542] ينظر: ((إرواء الغليل)) للألباني (3/40). .
2- عن ابنِ عبَّاسٍ ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَّى بالمَدينةِ سَبعًا وثَمانيًا، الظُّهرَ والعَصرَ، والمَغرِبَ والعِشاءَ. فقال أيُّوبُ: لعَلَّه في ليلةٍ مَطيرةٍ؟ قال: عسى)) [543] أخرجه البخاري (543) واللَّفظُ له، ومسلم (705). .
ب- مِنَ الآثارِ
عن نافِعٍ: (أنَّ ابنَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه كان إذا جَمَعَ الأُمَراءُ بَينَ المَغرِبِ والعِشاءِ في المَطَرِ جَمَعَ مَعَهم) [544] أخرجه مالك (2/199) واللفظ له، وعبد الرزاق (4438)، والبيهقي (5625). صحَّحه الألباني في ((إرواء الغليل)) (583). .
أمَّا التَّعليلُ: فلأنَّ هذا مَعنًى يَلحَقُ به المَشَقَّةُ غالِبًا؛ فكان له تَأثيرٌ في أداءِ الصَّلاةِ في وقتِ الضَّرورةِ، كالسَّفَرِ والمَرَضِ [545] ينظر: ((المنتقى))‏ للباجي (1/257). .
فائدةٌ:
عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((بَينا رَجُلٍ بفَلاةٍ [546] الفَلاةُ: الأرضُ التي لا ماءَ فيها، والصَّحراءُ الواسِعةُ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 481)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/ 1327). مِنَ الأرضِ، فسَمِعَ صَوتًا في سَحابةٍ: اسقِ حَديقةَ [547] الحَديقةُ: كُلُّ ما أحاطَ به البِناءُ مِنَ البَساتينِ وغَيرِها. ويُقالُ للقِطعةِ مِنَ النَّخلِ حَديقةٌ وإن لم يَكُنْ مُحاطًا بها. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (8/ 534)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 354). فلانٍ، فتَنَحَّى [548] فتَنَحَّى ذلك السَّحابُ: أي: اعتَمَدَ وقَصَدَ، يُقالُ: تَنَحَّيتُ وانتَحَيتُ ونَحَوتُ الشَّيءَ: إذا قَصَدتَه، ومِنه سُمِّي عِلمُ النَّحوِ، أي: قَصْدُ كَلامِ العَرَبِ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (8/ 534). ذلك السَّحابُ، فأفرَغَ ماءَه في حَرَّةٍ [549] الحَرَّةُ: أرضٌ ذاتُ حِجارةٍ سودٍ كَأنَّها أُحرِقَت بالنَّارِ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (8/ 534)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 520). ، فإذا شَرْجةٌ [550] الشَّرجةُ: واحِدةُ الشِّراجِ، وهيَ مَسايِلُ الماءِ إلى السَّهلِ مِنَ الأرضِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 520). مِن تلك الشِّراجِ قدِ استَوعَبَت [551] استَوعَبَت: جَمَعَت. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (7/ 137). ذلك الماءَ كُلَّه، فتَتَبَّع الماءَ، فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَديقَتِه يُحَوِّلُ الماءَ بمِسحاتِه [552] المِسحاةُ: المِجرَفةُ مِنَ الحَديدِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 520). ، فقال له: يا عَبدَ اللهِ، ما اسمُك؟ قال: فلانٌ -للِاسمِ الذي سَمِعَ في السَّحابةِ- فقال له: يا عَبدَ اللهِ، لم تَسأَلُني عنِ اسمي؟ فقال: إنِّي سَمِعتُ صَوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُه يَقولُ: اسقِ حَديقةَ فُلانٍ، لاسمِك، فما تَصنَعُ فيها؟! قال: أمَّا إذ قُلتَ هذا، فإنِّي أنظُرُ إلى ما يَخرُجُ مِنها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِه، وآكُلُ أنا وعِيالي ثُلُثًا، وأرُدُّ فيها ثُلُثَهـ)) [553] أخرجه مسلم (2984). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحَديثِ مِنَ الفِقهِ: أنَّ كُلَّ قَطرةٍ تَنزِلُ مِنَ السَّماءِ فإنَّما تَنزِلُ بأمرٍ مِنَ اللهِ سُبحانَه وتعالى في وقتٍ مَعلومٍ وبقَدَرٍ عِندَه جَلَّ جَلالُه، فليس مِن ذلك شَيءٌ يكونُ سُدًى ولا هَمَلًا، ولا يَقَعُ شَيءٌ مِنه إلَّا في المَكانِ الذي يُعَيَّنُ مِنَ السَّماءِ.
وأمَّا سَماعُ الرَّجُلِ للصَّوتِ: «اسقِ حَديقةَ فُلانٍ» فإنَّه كان وقتَ سَماعِه لهذا النُّطقِ يَعرِفُ أنَّ الغَيثَ يَقَعُ ناحيةً مِنَ الحَديقةِ، ثُمَّ يَسيلُ إليها؛ لقَولِه: «اسقِ حَديقةَ فُلانٍ»، وإنَّما يَكونُ السَّقيُ عن ماءٍ يَسيلُ، فجَمَعَ له بَينَ أن يَرويَ حَديقَتَه مِن ماءِ السَّماءِ، وبَين ألَّا يَبُلَّ له ثَوبًا ولا يُفسِدَ عليه طَريقًا.
وقَولُه: «ما تَصنَعُ في هذه الحَديقةِ؟» أي: ما تَصنَعُ في حاصِلِها؟ فأخبَرَه بحُسنِ تَدبيرِه في حاصِلِ تلك الحَديقةِ بأنَّه يَأكُلُ مِنه ثُلُثَه، ويَتَصَدَّقُ في سَبيلِ اللهِ بثُلُثِه، ثُمَّ يَرُدُّ في عِمارَتِها وحِفظِ أصلِها ثُلُثَه، فلَمَّا أحسَنَ تَدبيرَ النِّعمةِ عِندَه، تَولَّى اللَّهُ سُبحانَه وتعالى تَدبيرَ سَوقِ الماءِ إلى حَديقَتِه.
ولَم يَذكُرْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا الحَديثَ إلَّا مُنَبِّهًا لأُمَّتِه على الِاقتِداءِ بهذا الرَّجُلِ) [554] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (8/ 152). وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (وفي هذا الحَديثِ دَليلٌ على صِحَّةِ كَراماتِ الأولياءِ، وأنَّ الوليَّ قد يَكونُ له مالٌ وضَيعةٌ... وأمَّا مَنِ اتَّخَذَها مَعاشًا يَصونُ بها دينَه وعيالَه، فاتِّخاذُها بهذه النِّيَّةِ من أفضَلِ الأعمالِ، وهيَ من أفضَلِ الأموالِ). ((المفهم)) (7/ 137، 138). ويُنظر مِنه: (4/ 421، 422). .

انظر أيضا: