موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: السُّكوتُ


يَنبَغي إذ غَضِبَ أن يَسكُتَ [410] أي: فليَسكُتْ عنِ النُّطقِ بغَيرِ الذِّكرِ المَشروعِ؛ لأنَّ الغَضَبَ يَصدُرُ عنه مِن قَبيحِ القَولِ ما يوجِبُ النَّدَمَ عليه عِندَ سُكونِ سَورةِ الغَضَبِ، ولأنَّ الانفِعالَ ما دامَ مَوجودًا فنارُ الغَضَبِ تَتَأجَّجُ وتَتَزايَدُ، فإذا سَكَتَ أخَذَت في الهدوءِ والخُمودِ، وإنِ انضَمَّ إلى السُّكوتِ الوُضوءُ كان أَولى؛ فليسَ شَيءٌ يُطفئُ النَّارَ كالماءِ. يُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 407). .
قال ابنُ رَجَبٍ عن السُّكوتِ: (هذا أيضًا دَواءٌ عَظيمٌ للغَضَبِ؛ لأنَّ الغَضبانَ يصدُرُ مِنه في حالِ غَضَبِه مِن القَولِ ما يندَمُ عليه في حالِ زَوالِ غَضَبِه كثيرًا؛ مِن السِّبابِ وغَيرِه مِمَّا يَعظُمُ ضَرَرُه، فإذا سَكتَ زال هذا الشَّرُّ كُلُّه عنه، وما أحسَنَ قَولَ مُوَرِّقٍ العِجليِّ رَحِمَه اللهُ: ما امتَلأتُ غَيظًا قَطُّ، ولا تَكلَّمتُ في غَضَبٍ قَطُّ بما أندَمُ عليه إذا رَضيتُ!
وغَضِب يَومًا عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ فقال له ابنُه عَبدُ المَلِكِ رَحِمَهما اللهُ: أنتَ يا أميرَ المُؤمِنينَ مَعَ ما أعطاك اللهُ وفضَّلَك به تَغضَبُ هذا الغَضَبَ؟ فقال له: أوما تَغضَبُ يا عَبدَ المَلِكِ؟ فقال عَبدُ المَلِكِ: وما يُغني عنِّي سَعةُ جَوفي إذا لم أردُدْ فيه الغَضَبَ حتَّى لا يَظهَرَ؟!
فهَؤُلاءِ قَومٌ مَلكوا أنفُسَهم عِندَ الغَضَبِ رَضِيَ اللهُ عنهم) [411] ((جامع العلوم والحكم)) (1/366). ويُنظر: ((الزهد والرقائق)) لابن المبارك (2/11/زوائد نعيم)، ((المعرفة والتاريخ)) ليعقوب بن سفيان (2/252)، ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (2/235). .
فَوائِدُ:
1- قال ابن رجب: (الغَضبانُ مُكَلَّفٌ في حالِ غَضَبِه بالسُّكوتِ، فيَكونُ حينَئِذٍ مُؤاخَذًا بالكَلامِ، وقد صَحَّ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه أمَرَ مَن غَضِبَ أن يَتَلافى غَضَبَه بما يُسكِنُه مِن أقوالٍ وأفعالٍ، وهذا هو عَينُ التَّكليفِ له بقَطعِ الغَضَبِ، فكَيف يُقالُ: إنَّه غَيرُ مُكَلَّفٍ في حالِ غَضَبِه بما يَصدُرُ مِنه؟!
وقال عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ: ما أبكى العُلماءَ بُكاءٌ آخِرَ العُمرِ مِن غَضبةٍ يَغضَبُها أحَدُهم فتَهدِمُ عُمرَ خَمسينَ سَنةً، أو سِتِّينَ سَنةً، أو سَبعينَ سَنةً، ورُبَّ غَضبةٍ قد أقحَمَت صاحِبَها مُقحَمًا ما استَقاله. خَرَّجَه ابنُ أبي الدُّنيا) [412] ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 374). .
2- عن مَيمونَ بنِ مِهرانَ، قال: جاءَ رَجُلٌ إلى سَلمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، فقال: يا أبا عَبدِ اللَّهِ، أوصِني. قال: لا تَكَلَّمْ، قال: ما يَستَطيعُ مَن عاشَ في النَّاسِ أن لا يَتَكَلَّمَ، قال: فإن تَكَلَّمتَ فتَكَلَّمْ بحَقٍّ أوِ اسكُتْ، قال: زِدْني، قال: لا تَغضَبْ، قال: أمَرتَني ألَّا أغضَبَ، وإنَّه ليَغشاني ما لا أملِكُ، قال: فإن غَضِبتَ فاملِكْ لِسانَك ويَدَك، قال: زِدْني، قال: لا تُلابِسِ النَّاسَ، قال: ما يَستَطيعُ مَن عاشَ في النَّاسِ أن لا يُلابِسُهم، قال: فإن لابَسْتَهم فاصدُقِ الحَديثَ، وأدِّ الأمانةَ) [413] أخرجه ابنُ أبي الدنيا في ((الصمت)) (610) واللفظ له، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (21/443). .
3- عن ضَمضَمِ بنِ جَوسٍ اليماميِّ قال: قال لي أبو هرَيرةَ: يا يماميُّ، لا تَقولَنَّ لرَجُلٍ: واللهِ لا يَغفِرُ اللهُ لك، أو لا يُدخِلُك اللهُ الجَنَّةَ أبَدًا. قُلتُ: يا أبا هرَيرةَ، إنَّ هذه لكَلِمةٌ يَقولُها أحَدُنا لأخيه وصاحِبِه إذا غَضِبَ! قال: فلا تَقُلْها؛ فإنِّي سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((كان في بَني إسرائيلَ رَجُلانِ، كان أحَدُهما مُجتَهِدًا في العِبادةِ، وكان الآخَرُ مُسرِفًا على نَفسِه، فكانا مُتَآخيَينِ، فكان المُجتَهِدُ لا يَزالُ يَرى الآخَرَ على ذَنبٍ، فيَقولُ: يا هذا، أقصِرْ. فيَقولُ: خَلِّني وربِّي، أبُعِثتَ عليَّ رَقيبًا؟! قال: إلى أن رَآه يَومًا على ذَنبٍ استَعظَمَه، فقال له: وَيحَك أقصِرْ! قال: خَلِّني ورَبِّي، أبُعِثتَ عليَّ رَقيبًا؟! قال: فقال: واللهِ لا يَغفِرُ اللهُ لك، أو لا يُدخِلُك اللهُ الجَنَّةَ أبَدًا! قال أحَدُهما، قال: فبَعَثَ اللَّهُ إليهما مَلكًا فقَبَضَ أرواحَهما واجتَمَعا عِندَه، فقال للمُذنِبِ: اذهَبْ فادخُلِ الجَنَّةَ برَحمَتي. وقال للآخَرِ: أكُنتَ بي عالِمًا، أكُنتَ على ما في يَدي قادِرًا؟! اذهَبوا به إلى النَّارِ. قال: فوالذي نَفسُ أبي القاسِمِ بيَدِه لتَكَلَّمَ بكَلِمةٍ أوبقَت دُنياه وآخِرَتَه!)) [414] أخرجه أبو داود (4901)، وأحمد (8292) واللفظ له. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (5712)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/320)، وابن حجر في ((المطالب العالية)) (3/272)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4901). .
4- كان مِن دُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أسألُك كلمةَ الحَقِّ في الغَضَبِ والرِّضا)) [415] لَفظُه: عن أبي مِجلَزٍ، عن قَيسِ بنِ عبادٍ، قال: ((صلَّى عَمَّارُ بنُ ياسرٍ صلاةً خَفَّفها، فقال له رجلٌ: لقد خفَّفْتَها! قال: ألم أتمَّ الرُّكوعَ والسُّجودَ؟ قال: بلى، قال: أما إنِّي قد دَعَوتُ -يعني فيها- بدَعَواتٍ أو بدعاءٍ سَمِعتُه من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اللَّهُمَّ بعِلمِك الغَيبَ، وقُدرَتِك على خَلقِك، أحيِني ما كانت الحَياةُ خَيرًا لي، وتوَفَّني إذا كانت الوفاةُ خَيرًا لي، وأسألُك خَشيَتَك في الغَيبِ والشَّهادةِ، وأسألُك كَلِمةَ الحَقِّ في الغَضَبِ والرِّضا، وأسألُك القَصدَ في الفَقرِ والغِنى، وأسألُك نَعيمًا لا يَبيدُ، وقُرَّةَ عَينٍ لا تَنقَطِعُ، وأسألُك الرِّضا بَعدَ القَضا، وأسألُك بَردَ العَيشِ بَعدَ المَوتِ، وأسألُك لَذَّةَ النَّظَرِ في وَجهِك، وأسألُك الشَّوقَ إلى لقائِك في غَيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فِتنةٍ مُضِلَّةٍ)). أخرجه من طرقٍ: النسائي (1306)، وأحمد (18325)، والبزار (1392) واللفظ له. صحَّحه ابنُ القيم في ((شفاء العليل)) (2/759)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1306)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (18325). وأخرجه من طريقٍ آخر: النسائي (1305)، وابن حبان (1971)، والحاكم (1947) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ النَّسائيِّ: عن عَطاءِ بنِ السَّائِبِ، عن أبيه، قال: صَلَّى بنا عَمَّارُ بنُ ياسِرٍ صَلاةً، فأوجَزَ فيها، فقال له بَعضُ القَومِ: لَقد خَفَّفتَ أو أوجَزتَ الصَّلاةَ! فقال: أمَّا على ذلك فقد دَعَوتُ فيها بدَعَواتٍ سَمِعتُهنَّ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمَّا قامَ تَبعَه رَجُلٌ مِنَ القَومِ هو أبي، غَيرَ أنَّه كَنَّى عن نَفسِه، فسَألَه عنِ الدُّعاءِ، ثُمَّ جاءَ فأخبَرَ به القَومَ: ((اللَّهُمَّ بعِلمِك الغَيبَ، وقُدرَتِك على الخَلقِ، أحيِني ما عَلِمتَ الحَياةَ خَيرًا لي، وتوَفَّني إذا عَلِمتَ الوفاةَ خَيرًا لي، اللَّهُمَّ وأسألُك خَشيَتَك في الغَيبِ والشَّهادةِ، وأسألُك كَلِمةَ الحَقِّ في الرِّضا والغَضَبِ، وأسألُك القَصدَ في الفَقرِ والغِنى، وأسألُك نَعيمًا لا يَنفَدُ، وأسألُك قُرَّةَ عَينٍ لا تَنقَطِعُ، وأسألُك الرِّضاءَ بَعدَ القَضاءِ، وأسألُك بَردَ العَيشِ بَعدَ المَوتِ، وأسألُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلى وَجهِك، والشَّوقَ إلى لقائِك في غَيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فِتنةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زيِّنا بزينةِ الإيمانِ، واجعَلْنا هُداةً مُهتَدينَ)). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (1971)، وابن القيم في ((شفاء العليل)) (2/759)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1305)، وصحَّح إسنادَه الحاكم. ، وهذا عَزيزٌ جِدًّا، وهو أنَّ الإنسانَ لا يقولُ سِوى الحَقِّ سَواءٌ غَضِبَ أو رَضيَ؛ فإنَّ أكثَرَ النَّاسِ إذا غَضِبَ لا يتَوقَّفُ فيما يقولُ) [416] ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/372). .

انظر أيضا: