موسوعة التفسير

سورةُ القَلَمِ
الآيات (17-33)

ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ

غريب الكلمات:

بَلَوْنَاهُمْ: أي: امتَحَنَّاهم واختَبَرْناهم، والبلاءُ: الاختبارُ والامتحانُ، وأصلُ (بلو) هنا: نوعٌ مِن الاختبارِ [143] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/171)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/292)، ((المفردات)) للراغب (ص: 145)، ((تفسير البغوي)) (5/137). قال الراغب: (يُقالُ: بَلِيَ الثَّوبُ بِلًى وبَلاءً، أي: خَلَقَ، ومنه قيل لِمَن سافَر: بِلْوُ سَفَرٍ وبِلْيُ سفَرٍ، أي: أبلاه السَّفرُ، وبَلَوْتُه: اختَبَرْتُه، كأنِّي أخلَقْتُه مِن كثرةِ اختباري له). ((المفردات)) (ص: 145). .
لَيَصْرِمُنَّهَا: أي: لَيَجتَنُونَها، ويَقطَعونَ ثَمَرَها، وأصلُ (صرم): يدُلُّ على قَطعٍ [144] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 479)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/344)، ((المفردات)) للراغب (ص: 483)، ((تفسير القرطبي)) (18/240). .
وَلَا يَسْتَثْنُونَ: أي: ولا يَقولونَ: إن شاء اللهُ. يُقالُ: حلَفَ فُلانٌ يمينًا ليس فيها ثُنْيا ولا ثَنْوَى ولا ثَنِيَّةٌ ولا مَثْنَويَّةٌ ولا استِثناءٌ، كلُّه واحدٌ، وأصلُ هذا كلِّه مِن الثَّنْيِ، وهو الكفُّ والرَّدُّ؛ وذلك أنَّ الحالِفَ إذا قال: واللهِ لَأفعَلَنَّ كذا إلَّا أن يَشاءَ اللهُ غَيْرَه، فقد ردَّ ما قاله بمشيئةِ الله غيرَه [145] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/171)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (15/102)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7634)، ((البسيط)) للواحدي (22/97)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 410)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 977). .
طَائِفٌ: أي نارٌ أو عَذابٌ، وأصلُ (طوف): يدُلُّ على دَوَرانِ الشَّيءِ على الشَّيءِ، وإحاطتِه به [146] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/432)، ((المفردات)) للراغب (ص: 531)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 410)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 215). .
كَالصَّرِيمِ: أي: كاللَّيلِ المُظلِمِ البَهيمِ، أو كالمَصرومةِ المقطوعةِ لهلاكِ ثَمَرِها. وكُلُّ شَيءٍ قُطِعَ فهو صَريمٌ، وأصلُ (صرم): يدُلُّ على قَطعٍ [147] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 479)، ((تفسير ابن جرير)) (23/174)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 307)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/344، 345)، ((تفسير البغوي)) (8/195). .
اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ: أي: أقبِلُوا على ثِمارِكم وزُروعِكم باكِرينَ، أو: اخرُجوا غُدوةً، يقالُ: غَدا يَغْدو غُدُوًّا، والغُدُوُّ: سيرُ أوَّلِ النَّهارِ، وأصلُ (غدو): يدُلُّ على زمانٍ، وأصلُ (حرث) هنا: يدُلُّ على الجمعِ والكسبِ [148] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/49) و(4/415)، ((المفردات)) للراغب (ص: 603)، ((تفسير البغوي)) (8/195)، ((تفسير الزمخشري)) (4/590)، ((تفسير الرازي)) (30/608)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/346)، ((تفسير الشوكاني)) (5/324). .
صَارِمِينَ: أي: حاصِدينَ زَرْعَكم أو عازِمينَ، وأصلُ (صرم): يدُلُّ على قَطعٍ [149] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/344)، ((المفردات)) للراغب (ص: 483)، ((تفسير القرطبي)) (18/241)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 567). .
يَتَخَافَتُونَ: أي: يَتهامَسونَ بيْنَهم، ويُسِرُّ بَعضُهم إلى بعضٍ، وأصلُ (خفت): يدُلُّ على إسرارٍ وكِتمانٍ [150] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 479)، ((تفسير ابن جرير)) (16/161)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 515)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/202)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 290، 422). .
حَرْدٍ: الحَرْدُ: المَنعُ مِن حِدَّةٍ وغَضَبٍ، ويُطلَقُ الحرْدُ على القَصدِ والغَضَبِ والمَنْعِ [151] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 479)، ((تفسير ابن جرير)) (23/176)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 197)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/51)، ((المفردات)) للراغب (ص: 227)، ((تفسير البغوي)) (8/196). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى ضاربًا المثَلَ للمشركينَ بقصَّةِ أصحابِ الجنَّةِ: إنَّا امتَحَنَّا أهلَ مكَّةَ كما امتحَنَّا أصحابَ البُستانِ حينَ حَلَفوا فيما بيْنَهم على قَطْعِ ثمارِ بُستانِهم أوَّلَ النَّهارِ قبْلَ مَجيءِ المساكينِ إليه؛ لِيَحرِموا المساكينَ مِن ثمارِ بُستانِهم، ولم يَسْتَثْنوا في قَسَمِهم بقَولِهم: إنْ شاء اللهُ. فنَزَل على بُستانِهم ليلًا وهم نائِمونَ عَذابٌ مِن رَبِّك -يا مُحمَّدُ- فأهلَكَه وأباده، فصار مُحترقًا، أسْوَدَ كسَوادِ اللَّيلِ المُظلِمِ!
 فنادى أصحابُ البُستانِ بَعضُهم بَعضًا في أوَّلِ الصَّباحِ؛ لِيَذهَبوا لقَطعِ ثَمَرِهم: بَكِّروا في الخُروجِ إلى بُستانِكم إنْ كُنتُم اليومَ عازِمينَ على قَطعِ ثَمَرِه قبْلَ مَجيءِ المساكينِ إليه! فانطَلَقوا إلى بُستانِهم وهم يُسِرُّونَ الحديثَ فيما بيْنَهم: لا يَدخُلَنَّ اليومَ بُستانَكم أحدٌ مِن المساكينِ. وخَرَجوا في أوَّلِ الصَّباحِ قاصِدينَ في غَضَبٍ مَنْعَ المساكينِ مِن ثمارِهم، قادِرينَ على ما عَزَموا عليه مِن قَطْعِ الثِّمارِ ومَنْعِ المساكينِ، فلمَّا رأَوا بُستانَهم أنكَروا أن يكونَ هو! وقال بعضُهم لبَعضٍ: إنَّا قد ضلَلْنا الطَّريقَ إلى بُستانِنا! وقالوا: لا، لم نَضِلَّ الطَّريقَ، بل حُرِمْنا مِن ثَمَرِه!
قال أعدَلُهم وأعقَلُهم: ألمْ أقُلْ لكم ناصِحًا: هلا نزَّهتُم اللهَ عن السُّوءِ بقَولِكم: سُبْحانَ اللهِ؟! فقالوا مُعتَرِفينَ بخَطَئِهم: نُنَزِّهُ ربَّنا عن أن يكونَ ظالِمًا فيما فَعَل ببُسْتانِنا، بل كنَّا نحن الظَّالِمينَ. فأقْبَلَ بَعضُهم على بَعضٍ لائِمينَ أنفُسَهم، قالوا: يا حَسْرَتَنا وهَلاكَنا، إنَّا قد تجاوَزْنا حدودَ اللهِ تعالى، نَرجو مِن ربِّنا بَعْدَ أن تُبْنا إليه أن يُعوِّضَنا خيرًا مِن بُستانِنا الَّذي هلَك، إنَّا إلى رَبِّنا وَحْدَه راغِبونَ وراجُونَ.
 ثمَّ يختمُ الله تعالى قصَّتَهم بقولِه: مِثلَ هذا العذابِ الدُّنيويِّ الَّذي حَلَّ بأصحابِ البُستانِ يُعَذِّبُ اللهُ تعالى أيضًا كُلَّ مَن خالَفَ أمْرَه، فبَخِلَ بما أنعَمَ به عليه، ومَنَع المحتاجينَ، ولَعَذابُ اللهِ في الآخِرةِ لِمَن يَستَحِقُّه أكبَرُ مِن عذابِ الدُّنيا لو كان الكُفَّارُ يَعلَمونَ!

تفسير الآيات:

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالَى لَمَّا قال: مِن أجْلِ أنْ كان ذا مالٍ وبَنينَ جَحَد وكفَرَ وعَصى وتمرَّدَ؟! وكان هذا استِفهامًا على سَبيلِ الإنكارِ -على قولٍ-؛ بيَّن في هذه الآيةِ أنَّه تعالَى إنَّما أعطاهُ المالَ والبَنينَ على سَبيلِ الابتلاءِ والامتحانِ، وليَصرِفَه إلى طاعةِ اللهِ، وليُواظِبَ على شُكرِ نِعَمِ اللهِ، فإنْ لم يَفعَلْ ذلك فإنَّه تعالَى يَقطَعُ عنه تلك النِّعَمَ، ويَصُبُّ عليه أنواعَ البلاءِ والآفاتِ، فقال: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ، أي: كلَّفْنا هؤلاء أنْ يَشكُروا على النِّعَمِ، كما كلَّفْنا أصحابَ الجنَّةِ ذاتِ الثِّمارِ أنْ يَشكُروا ويُعطُوا الفُقراءَ حُقوقَهم [152] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/607). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ سُبحانه المتَّصِفينَ بتِلك الأوصافِ الذَّميمةِ -وهم كُفَّارُ قُريشٍ- أخبَرَ تعالَى بما حلَّ بهم مِن الابتلاءِ بالقحْطِ والجُوعِ بدَعوةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اللَّهُمَّ اشدُدْ وَطْأَتَك على مُضَرَ، واجْعَلَها عليهم سِنينَ كَسِنِي يُوسفَ )) [153] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/241). والحديث أخرجه مطوَّلًا البخاريُّ (804) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (675) من حديث أبي هريرةَ رضيَ الله عنه. .
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ.
أي: إنَّا امتحَنَّا أهلَ مَكَّةَ كما امتحَنَّا أصحابَ البُستانِ [154] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/171)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/306، 307)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/79). قيل: المرادُ أنَّ اللهَ تعالى أنعَمَ على أهلِ مكَّةَ كما أنعَمَ على أصحابِ الجنَّةِ بجَنَّتِهم، ثمَّ اختَلَفوا في النِّعَمِ الَّتي أُعطِيَها أهلُ مكَّةَ؛ فقيل: هي نبُوَّةُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جُزَي، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/400)، ((تفسير ابن كثير)) (8/195). وقيل: هي الأموالُ. والمعنى: أعطَيْناهم أموالًا ليَشكُروا لا لِيَبطَروا، فلمَّا بَطِروا وعادَوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ابتَلَيْناهم بالجُوعِ والقَحْطِ كما بَلَونا أهلَ الجنَّةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: القرطبيُّ، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/239)، ((تفسير الشوكاني)) (5/323). وقال السعدي: (يقولُ تعالى: إنَّا بَلَونا هؤلاء المكَذِّبينَ بالخَيرِ وأمهَلْناهم، وأمدَدْناهم بما شِئْنا مِن مالٍ ووَلَدٍ، وطولِ عُمُرٍ، ونحوِ ذلك ممَّا يُوافِقُ أهواءَهم، لا لكرامتِهم علينا، بل رُبَّما يكونُ استدراجًا لهم مِن حيثُ لا يَشعُرونَ؛ فاغتِرارُهم بذلك نظيرُ اغتِرارِ أصحابِ الجنَّةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 880). وذكَر ابنُ عاشور أنَّ البلوى هنا بالخيرِ، وأنَّ اللهَ أمدَّ أهلَ مكَّةَ بنعمةِ الأمنِ، والرِّزقِ الذي يأتيهم مِن كلِّ جهةٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/79). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/306، 307). وقيل: المرادُ: إنَّا ابتَلَيْنا أهلَ مكَّةَ بالجُوعِ كما ابتَلَيْنا أصحابَ الجنَّةِ حينَ هلَكَت جَنَّتُهم. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، والزمخشريُّ، وأبو حيان. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/405)، ((الوسيط)) للواحدي (4/337)، ((تفسير الزمخشري)) (4/589)، ((تفسير ابن حيان)) (10/241). قال ابنُ عطية: (قال كثيرٌ مِن المفسِّرينَ: السِّنُونَ السَّبْعُ التي أصابت قُرَيشًا هي بمثابةِ ما أصاب أولئك في جنَّتِهم). ((تفسير ابن عطية)) (5/349). وقال البِقاعي: (أَصْحَابَ الْجَنَّةِ عرَّفَها؛ لأنَّها كانت شهيرةً عِندَهم... كان صاحِبُه يُنادي الفُقَراءَ وقْتَ الصِّرامِ، ويَترُكُ لهم ما أخطَأَ المِنجَلَ [ما يُحْصَدُ به]، أو ألقَتْه الرِّيحُ، أو بَعُدَ عن البِساطِ الَّذي يُبسَطُ تحت النَّخلةِ، فلمَّا مات شَحَّ بنوه بذلك، فحَلَفوا على أن يَجُذُّوها قبْلَ الشَّمسِ؛ حتَّى لا يأتيَ الفُقَراءُ إلَّا بعْدَ فَراغِهم!). ((نظم الدرر)) (20/307). .
كما قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل: 112 - 114].
وقال سُبحانَه: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ [الدخان: 10 - 17] .
إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ.
أي: حينَ حَلَف أصحابُ البُستانِ فيما بيْنَهم على جَذِّ ثِمارِ بُستانِهم في أوَّلِ الصَّباحِ قبْلَ مَجيءِ المساكينِ إليه؛ لئلَّا يَعلَموا بهم، فتتوفَّرَ ثمارُه عليهم بالكامِلِ، ولا يتصَدَّقوا منه بشَيءٍ [155] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/171)، ((تفسير القرطبي)) (18/241)، ((تفسير ابن كثير)) (8/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/80، 81). !
وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18).
أي: ولم يَسْتَثْنِ أصحابُ الجَنَّةِ في قَسَمِهم، ولم يَقولوا: إنْ شاء اللهُ [156] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/406)، ((تفسير ابن جرير)) (23/171)، ((تفسير القرطبي)) (18/240)، ((تفسير ابن كثير)) (8/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880). قال الماوَرْدي: (وَلَا يَسْتَثْنُونَ فيه ثلاثةُ أوجُهٍ؛ أحدُها: لا يَستَثنونَ حقَّ المساكينِ. قاله عِكْرِمةُ. الثَّاني: استثناؤُهم: قَولُ: سُبْحَانَ رَبِّنَا. قاله أبو صالحٍ. الثَّالثُ: قَولُ: إن شاء اللهُ). ((تفسير الماوردي)) (6/67). وممَّن نَصَّ على أنَّ المرادَ أنَّهم لم يقولوا: إنْ شاء اللهُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والقرطبيُّ، ونسَبَه الرَّازيُّ إلى الأكثرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/406)، ((تفسير ابن جرير)) (23/171)، ((تفسير القرطبي)) (18/240)، ((تفسير الرازي)) (30/607). قال الرَّسْعَني: (وقال جمهورُ المفسِّرينَ واللُّغَويِّينَ: لا يَقولون: إن شاء اللهُ. وسُمِّيَ استِثناءً؛ لأنَّه يؤدِّي مؤدَّى الاستثناءِ، مِن حيث إنَّ قولَك: لَأخرجَنَّ إن شاء الله، في معنى: لا أخرجُ إلَّا أن يشاءَ اللهُ). ((تفسير الرسعني)) (8/231). وقال البِقاعي: (والحالُ أنَّهم لا يَسْتَثْنُونَ، أي: لا يَطلُبونَ ولا يُوجِدونُ ثُنْيَا -أي: عَودًا- إلى ما قبْلَ اليَمينِ بقَولِهم: «إنْ شاء اللهُ» أو غيرَ ذلك مِن الألفاظِ المُوجِبةِ لأنْ يكونَ شَيءٌ مِن جَنَّتِهم مُطلَقًا غيرَ ممنوعٍ). ((نظم الدرر)) (20/308). وممَّن قال بأنَّهم لا يَستَثنُونَ مِن الثَّمَرةِ شَيئًا للمَساكينِ، أي: أقسَموا لَيَصرِمُنَّ جميعَ الثَّمَرِ، ولا يَترُكونَ منه شيئًا: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/81). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الألوسي)) (15/34). قال ابن عطية: (قولُه تعالى: وَلَا يَسْتَثْنُونَ ولا يَتوقَّفونَ في ذلك، أو ولا يَنثَنونَ عن رأيِ مَنْعِ المساكينِ. وقال مجاهدٌ: معناه: لا يَقولونَ: إن شاء اللهُ، بل عَزَموا على ذلك عَزْمَ مَن يَملِكُ أمْرَه!). ((تفسير ابن عطية)) (5/349). .
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19).
أي: فوَقَع على بُستانِهم ليلًا عَذابٌ مِن رَبِّك -يا مُحمَّدُ- فأهلَكَه وأباده ودَمَّرَه كلَّه، وأصحابُه نائِمونَ، وعمَّا أصابه غافِلونَ [157] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/406)، ((تفسير ابن جرير)) (23/173)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/208)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/308، 309)، ((تفسير أبي السعود)) (9/14)، ((تفسير القاسمي)) (9/300)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880). ممَّن قال: المرادُ بالطَّائفِ: العذابُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمعانيُّ، والبغوي، والرازي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/406)، ((تفسير السمعاني)) (6/23)، ((تفسير البغوي)) (5/138)، ((تفسير الرازي)) (30/607)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880). قيل: كان نارًا أحرَقتِ الجنَّةَ، وممن نصَّ على ذلك: الواحديُّ، والسمعانيُّ، والبغويُّ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1122)، ((تفسير السمعاني)) (6/23)، ((تفسير البغوي)) (5/138). قال القرطبي: (قيل: الطَّائِفُ جِبريلُ عليه السَّلامُ...، وقال ابنُ عبَّاسٍ: أمرٌ مِن رَبِّك. وقال قتادةُ: عذابٌ مِن رَبِّك. [وقال] ابنُ جُرَيجٍ: عُنُقٌ مِن نارٍ خَرَج من وادي جهنَّمَ). ((تفسير القرطبي)) (18/241). وقال ابنُ عاشور: (لم يُعَيِّنْ جِنسَ الطَّائِفِ؛ لظُهورِ أنَّه مِن جِنسِ ما يُصيبُ الجنَّاتِ مِن الهلاكِ، ولا يتعلَّقُ غَرَضٌ بتَعيينِ نَوعِه؛ لأنَّ العِبرةَ في الحاصِلِ به). ((تفسير ابن عاشور)) (29/81). وقال ابن كثير: (أصابَتْها آفةٌ سماويَّةٌ). ((تفسير ابن كثير)) (8/196). وقال الفرَّاءُ، وابنُ جريرٍ: الطَّائِفُ لا يكونُ إلَّا باللَّيلِ، ولا يكونُ نَهارًا. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/175)، ((تفسير ابن جرير)) (23/173). !
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20).
أي: فصار ذلك البُستانُ مُحترقًا، أسْوَدَ كسَوادِ اللَّيلِ المظلمِ [158] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/174)، ((تفسير القرطبي)) (18/242)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/81). قال ابن جُزَي: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فيه أربعةُ أقوالٍ: الأوَّل: أصبحتْ كاللَّيلِ؛ لأنَّها اسوَدَّتْ لِما أصابها، والصَّريمُ في اللُّغةِ اللَّيلُ. الثَّاني: أصبحتْ كالنَّهارِ؛ لأنَّها ابيضَّتْ كالحَصيدِ، ويُقالُ: «صَريمٌ» لِلَّيلِ والنَّهارِ. الثَّالثُ: أنَّ الصَّريمَ: الرَّمادُ الأسْوَدُ بلُغةِ بعضِ العربِ. الرَّابعُ: أصبحت كالمَصرومةِ، أي: المقطوعةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/400). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/67، 68)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/323). وممَّن ذهب إلى القَولِ الأوَّلِ -أي: أنَّها أصبحتْ كاللَّيلِ سَوْداءَ-: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والفرَّاءُ، وابنُ قُتَيْبةَ، والزَّجَّاجُ، والواحديُّ، والسمعاني، والبغوي، والقرطبي، والخازن، وابن كثير، وجلال الدين المحلي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/406)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/175)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 479)، ((معاني القرآن)) للزَّجَّاج (5/208)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1122)، ((تفسير السمعاني)) (6/24)، ((تفسير البغوي)) (5/ 138)، ((تفسير القرطبي)) (18/242)، ((تفسير الخازن)) (4/326)، ((تفسير ابن كثير)) (3/349)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 758)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (22/98)، ((تفسير ابن كثير)) (8/196)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/251). قيل: سُمِّيَ اللَّيلُ صَريمًا؛ لأنَّه يَقطَعُ بظُلمتِه عن التَّصرُّفِ، وعلى هذا هو فَعِيلٌ بمعنى فاعِل. وقيل: سُمِّيَتِ اللَّيلةُ بالصَّريمِ؛ لأنَّها تَصرِمُ نورَ البصرِ وتَقطَعُه. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/ 608). وممَّن قال في الجُملةِ بالقَولِ الرَّابعِ -أي: أنَّها صارت كالمَصرومةِ، أي المقطوعةِ المَجذوذةِ، قد ذهَبَ ما فيها مِن الثَّمَرِ، فكأنَّه قد قُطِع لهَلاكِه-: ابنُ أبي زَمَنِين، والزمخشريُّ، والبِقاعي، والعُلَيمي، وأبو السعود، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/21)، ((تفسير الزمخشري)) (4/590)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/309)، ((تفسير العليمي)) (7/128)، ((تفسير أبي السعود)) (9/15)، ((تفسير الشوكاني)) (5/324). ويُنظر أيضًا: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 307). وممَّن قال بنحوِ ذلك مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ، وابنُ زَيدٍ، والثَّوريُّ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/ 16)، ((تفسير ابن كثير)) (8/196). وقال القرطبيُّ بعدَ أنْ ذكَر أنَّه يُقالُ أيضًا للنَّهارِ: صَرِيمٌ: (إنْ كان أراد بالصَّريمِ النَّهارَ فلِذَهابِ الشَّجرِ والزَّرعِ ونقاءِ الأرضِ منه. وكان الطَّائفُ الَّذي طاف عليها جبريلُ عليه السَّلامُ فاقتَلَعها). ((تفسير القرطبي)) (18/239). وقال ابن قُتَيْبةَ: (يُقالُ للصُّبحِ: صَريمٌ، ولِلَّيلِ: صَريمٌ...؛ لأنَّ اللَّيلَ يَنصَرِمُ عن النَّهارِ، والنَّهارَ يَنصرِمُ عن اللَّيلِ). ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 119). قال الرَّازيُّ: (وعلى هذا الصَّريمُ بمعنى الصَّارِم). ((تفسير الرازي)) (30/608). !
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21).
أي: فنادى أصحابُ الجنَّةِ بَعضُهم بَعضًا في أوَّلِ الصَّباحِ؛ لِيَذهَبوا لجَذاذِ ثَمَرِهم [159] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/175)، ((تفسير القرطبي)) (18/240)، ((تفسير ابن كثير)) (8/196)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/309)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/83). .
أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22).
أي: قالوا: بَكِّروا في الخُروجِ إلى بُستانِكم إنْ كُنتُم اليومَ عازِمينَ على قَطعِ ثَمَرِه قبْلَ مَجيءِ المساكينِ إليه [160] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/208)، ((تفسير السمرقندي)) (3/483)، ((تفسير الماوردي)) (6/68)، ((الوسيط)) للواحدي (4/337)، ((تفسير البيضاوي)) (5/235)، ((تفسير أبي حيان)) (10/242)، ((تفسير ابن جزي)) (2/400)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 196)، ((تفسير ابن عرفة)) (4/272)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/309، 310)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/83). !
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23).
أي: فانطَلَق أصحابُ البُستانِ إلى بُستانِهم وهم يَتناجَونَ فيما بَيْنَهم بحيثُ لا يَسمَعُ حَديثَهم أحدٌ [161] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/175)، ((تفسير القرطبي)) (18/242)، ((تفسير ابن كثير)) (8/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880). .
أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24).
أي: قال بَعضُهم لبَعضٍ سِرًّا: لا يَدخُلَنَّ بُستانَكم أحدٌ مِن المساكينِ في هذا اليَومِ [162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/175)، ((تفسير ابن كثير)) (8/196)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/310)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880). !
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25).
أي: وخَرَجوا في أوَّلِ الصَّباحِ وهم قاصِدونَ بإرادةٍ جازِمةٍ وغَضَبٍ وحِدَّةٍ مَنْعَ المساكينِ مِن ثمارِهم، وقادِرونَ على ما عَزَموا عليه مِن قَطْعِ الثِّمارِ، ومَنْعِ المساكينِ [163] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/179)، ((الوسيط)) للواحدي (4/337، 338)، ((تفسير القرطبي)) (18/242)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/13-15)، ((تفسير ابن كثير)) (8/196)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/311)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/84، 85). .
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26).
أي: فلمَّا رأى أصحابُ البُستانِ بُستانَهم أنكَروا أن يكونَ هو! وقال بعضُهم لبَعضٍ: إنَّا قد ضلَلْنا وأخطَأْنا الطَّريقَ إلى بُستانِنا [164] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/179)، ((تفسير القرطبي)) (18/244)، ((تفسير ابن كثير)) (8/196)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (2/579)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/311)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ للضَّلالِ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابن كثير، والبقاعي، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وقال ابنُ عاشورٍ: (معنى إِنَّا لَضَالُّونَ أنَّهم عَلِموا أنَّهم كانوا في ضَلالٍ، أي: عن طريقِ الشُّكرِ، أي: كانوا غيرَ مُهتَدينَ...، ويحتَمِلُ أن يكونَ الضَّلالُ حقيقيًّا، أي: ضلالُ طريقِ الجنَّةِ، أي: قالوا: إنَّا أخطَأْنا الطَّريقَ في السَّيرِ إلى جنَّتِنا؛ لأنَّهم توَهَّموا أنَّهم شاهَدوا جنَّةً أُخرى غيرَ جَنَّتِهم الَّتي عَهِدوها، قالوا ذلك تحيُّرًا في أمرِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/85، 86). !
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27).
أي: قالوا: كلَّا، لم نَضِلَّ الطَّريقَ إليه، وإنَّما حقيقةُ الأمرِ أنَّنا حُرِمْنا الانتِفاعَ به، فلا حظَّ لنا في شَيءٍ مِن ثمارهِ [165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/179، 180)، ((تفسير القرطبي)) (18/244)، ((تفسير ابن كثير)) (8/196)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/311)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880). !
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28).
أي: قال أعدَلُهم وأعقَلُهم وأفضَلُهم: ألم أقُلْ لكم ناصِحًا: هلا نزَّهتُم اللهَ عن السُّوءِ بقَولِكم: سبحانَ اللهِ [166] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/407)، ((تفسير ابن جرير)) (23/180-182)، ((تفسير السمعاني)) (6/25، 26)، ((تفسير القرطبي)) (18/244)، ((تفسير ابن جزي)) (2/401)، ((تفسير ابن كثير)) (8/196، 197)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/86). قال الثعلبي: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أعدلُهم وأعقلُهم وأفضلُهم). ((تفسير الثعلبي)) (10/17). قيل: المعنى: أنَّه أمَرَهم مِن قَبْلُ بذِكرِ اللهِ وتَنزيهِه عن السُّوءِ. وممَّن استظهر هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جُزَي، وذهب إليه أبو حيَّان، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/401)، ((تفسير أبي حيان)) (10/243)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/86). قال أبو حيان: (أنَّبَهم ووبَّخَهم على تَرْكِهم ما حَضَّهم عليه مِن تسبيحِ اللهِ، أي: ذِكْرِه وتنزيهِه عن السُّوءِ، ولو ذكَروا اللهَ وإحسانَه إليهم لَامتَثَلوا ما أَمَر به مِن مُواساةِ المساكينِ، واقتَفَوا سُنَّةَ أبيهم في ذلك. فلمَّا غَفَلوا عن ذِكرِ اللهِ تعالى وعَزَموا على مَنعِ المساكينِ، ابتلاهم اللهُ، وهذا يدُلُّ على أنَّ أوسَطَهم كان قد تقَدَّمَ إليهم وحرَّضَهم على ذِكرِ اللهِ تعالى). ((تفسير أبي حيان)) (10/243). وقال ابن عاشور: (المرادُ بـ تُسَبِّحُونَ تنزيهُ اللهِ عن أن يُعصى أمرُه في شأنِ إعطاءِ زكاةِ ثمارِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/86). وقيل: المرادُ: هلَّا قُلْتُم: إنْ شاء اللهُ، فأنكر عليهم تَرْكَ الاستِثناءِ في قَولِه: أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فسَمَّى الاستِثناءَ تَسبيحًا. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحديُّ، والسمعاني، والبغوي، والقرطبي، والسعدي، ونسَبَه ابنُ الجوزيِّ إلى الجُمهورِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان (4/407)، ((تفسير ابن جرير)) (23/182)، ((الوسيط)) للواحدي (4/338)، ((تفسير السمعاني)) (6/25)، ((تفسير البغوي)) (5/ 138)، ((تفسير القرطبي)) (18/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/324). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، وأبو صالحٍ، والسُّدِّيُّ، وابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/182)، ((تفسير الثعلبي)) (10/17)، ((تفسير ابن كثير)) (8/196). قيل: سُمِّيَ الاستثناءُ تسبيحًا؛ لأنَّه تعظيمٌ لله، وإقرارٌ بأنَّه لا يَقدِرُ أحدٌ أن يَفعلَ شيئًا إلَّا بمشيئةِ الله تعالى، وكلُّ تعظيمٍ لله فهو تسبيحٌ له. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/338). قال الشوكاني: (وهذا يدُلُّ على أنَّ أوْسَطَهم كان أمَرَهم بالاستثناءِ فلم يُطيعوه). ((تفسير الشوكاني)) (5/325). وقال البِقاعي: (لَمَّا كان منْعُ الخَيرِ -ولا سيَّما في مِثلِ هذا- مُستلزِمًا لظنِّ النَّقصِ في اللهِ تعالى: إمَّا بأنَّه سُبحانَه لا يُخلِفُ ما حصَل التَّصدُّقُ به، وإمَّا أنَّه لا يَقدِرُ على إهلاكِ ما شحَّ الإنسانُ به؛ قال مُستأنِفًا: لَوْلَا أي: هَلَّا ولِمَ لا تُسَبِّحُونَ أي: تُوقِعونَ التَّنزيهَ لله سُبحانَه وتعالى عمَّا أوهَمَه فِعلُكم، وأقَلُّ التَّسبيحِ الاستِثْناءُ عندَ الإقسامِ شكًّا في قُدرةِ الإنسانِ، وإثباتًا لقدرةِ الملِكِ الدَّيَّانِ؛ استِحضارًا لعَظَمَتِه سُبحانَه وتعالى). ((نظم الدرر)) (20/312). وقال الشوكاني: (قيل: المعنَى: هَلَّا تَستَغفِرونَ اللهَ مِن فِعْلِكم، وتَتوبونَ إليه مِن هذه النِّيَّةِ الَّتي عَزَمْتُم عليها). ((تفسير الشوكاني)) (5/325). ؟!
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أنَّبَهم، رَجَعوا إلى ذِكرِ اللهِ تَعالى، واعتَرَفوا على أنفُسِهم بالظُّلمِ، وبادَروا إلى تَسبيحِ اللهِ تعالَى [167] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/243). .
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29).
أي: قالوا مُعتَرِفينَ بخَطَئِهم: نُنَزِّهُ ربَّنا عن أن يَكونَ ظالِمًا فيما فَعَل ببُسْتانِنا، وإنَّما نحن الَّذين وقَعْنا في الظُّلمِ فجَنَيْنا على أنفُسِنا [168] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/182)، ((الوسيط)) للواحدي (4/338)، ((تفسير القرطبي)) (18/244، 245)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/312)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/87). قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: قال أصحابُ الجنَّةِ: سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ في تَرْكِنا الاستثناءَ في قَسَمِنا، وعَزْمِنا على تَركِ إطعامِ المساكينِ مِن ثَمَرِ جَنَّتِنا). ((تفسير ابن جرير)) (23/182). !
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30).
أي: فأقبَلَ بَعضُهم على بَعضٍ لائِمينَ أنفُسَهم على ما وَقَع منهم مِن ظُلمٍ [169] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/182)، ((تفسير القرطبي)) (18/245)، ((تفسير ابن كثير)) (8/197)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/313). قال ابنُ عاشورٍ: (يَتَلَاوَمُونَ: أيْ: يَلومُ بعضُهم بعضًا... واللَّوْمُ: إنكارٌ مُتَوسِّطٌ على فِعلٍ أوْ قولٍ، وهو دونَ التَّوبيخِ، وفوقَ العِتابِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/87). !
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31).
أي: قالوا: يا حَسْرَتَنا وهَلاكَنا، إنَّا قد اعتَدَيْنا وبَغَيْنا وتَجاوَزْنا حدودَ اللهِ تعالى حتَّى أصابَنا ما أصابَنا [170] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/183)، ((تفسير القرطبي)) (18/245)، ((تفسير ابن كثير)) (8/197)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/313، 314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/88). قال البِقاعي: (أي: هذا وَقتُ حُضورِك -أيُّها الوَيلُ- إيَّانا، ومُنادَمَتِك لنا؛ فإنَّه لا نديمَ لنا إلَّا أنت، والوَيلُ هو الهَلاكُ والإشرافُ عليه). ((نظم الدرر)) (20/314). .
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32).
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا.
أي: نَرجو مِن ربِّنا بَعْدَ أن تُبْنا إليه أن يُعوِّضَنا خيرًا مِن بُستانِنا الَّذي هلَك [171] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/407)، ((تفسير ابن جرير)) (23/183)، ((تفسير السمرقندي)) (3/484)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1123)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/ 314، 315)، ((تفسير الشوكاني)) (5/326)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880). .
إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ.
أي: إنَّا إلى رَبِّنا وَحْدَه راغِبونَ وراجُونَ؛ فلذا نَطمَعُ أن يُبْدِلَنا خيرًا مِن بُستانِنا [172] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/183)، ((تفسير السمعاني)) (6/26)، ((تفسير البيضاوي)) (5/236)، ((تفسير الألوسي)) (15/37). قال الشوكاني: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ أي: طالِبونَ منه الخيرَ، راجُون لِعَفوِه، راجِعونَ إليه). ((تفسير الشوكاني)) (5/326). وقال أبو السعود: (إِلَى لانتِهاءِ الرَّغبةِ، أو لتَضَمُّنِها معنى الرُّجوعِ). ((تفسير أبي السعود)) (9/16). .
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33).
كَذَلِكَ الْعَذَابُ.
أي: مِثلَ هذا العذابِ الدُّنيويِّ الَّذي حَلَّ بأصحابِ البُستانِ يُعَذِّبُ اللهُ تعالى أيضًا كُلَّ مَن خالَفَ أمْرَه، فبَخِلَ بما أنعَمَ به عليه ومَنَع المحتاجينَ، فبَدَّلَ نِعمةَ اللهِ كُفرًا، وطغى وبغى وآثَرَ الحياةَ الدُّنيا؛ فإنَّ اللهَ تعالى يَسلُبُه نِعمتَه ويُزيلُها عنه [173] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/183)، ((تفسير القرطبي)) (18/245)، ((تفسير ابن كثير)) (8/197)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/90). .
وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
أي: ولَعَذابُ اللهِ في الآخِرةِ لِمَن يَستَحِقُّه أكبَرُ مِن عذابِ الدُّنيا، فلو كان الكُفَّارُ يَعلَمونَ ذلك لَتابُوا، وانتَهَوا عن كُلِّ سَبَبٍ يُوجِبُ عَذابَهم، ولكِنَّهم لا يَعلَمونَ [174] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/183، 184)، ((تفسير البيضاوي)) (5/236)، ((تفسير ابن كثير)) (8/197)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/316)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/90). قال الواحدي: (تمَّت قِصَّةُ أصحابِ الجنَّةِ، ثمَّ قال: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ يعني: المُشرِكينَ). ((التفسير الوسيط)) (4/338). وقال ابنُ عطية: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ ابتداءُ مُخاطَبةٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أمرِ قُريشٍ، والإشارةُ بذلك إلى العَذابِ الَّذي نَزَل بالجنَّةِ، أي: ذلك العذابُ هو العذابُ الَّذي يَنزِلُ بقُرَيشٍ بَغتةً، ثمَّ عَذابُ الآخرةِ بَعْدَ ذلك أشَدُّ عليهم مِن عذابِ الدُّنيا!). ((تفسير ابن عطية)) (5/351). !

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إلى آخرِ السِّياقِ: بَيانُ حالِ البُخَلاءِ وما يُعاقَبونَ به في الدُّنيا قبْلَ الآخرةِ مِن تَلَفِ الأموالِ؛ إمَّا إغراقًا وإمَّا إحراقًا، وإمَّا نهبًا وإمَّا مصادَرةً، وإمَّا في شَهواتِ الغَيِّ، وإمَّا في غيرِ ذلك ممَّا يُعاقَبُ به البُخلاءُ الَّذين يَمنعونَ الحَقَّ [175] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/69). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَا يَسْتَثْنُونَ عِظَةٌ شديدةٌ، وتنبيهٌ لِمَن يُرسِلُ كلامَه ولا يُقَيِّدُه بالاستِثناءِ الَّذي هو سَبَبُ النَّجاحِ والظَّفَرِ بالحاجةِ، ومُخْرِجٌ مِن المآثمِ، ومُؤَمِّنٌ دَرَكَ العُقوبةِ، وقد عَلَّمَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأدَّبَه ألَّا يَقولَ لفِعلِ شَيءٍ: هو فاعِلُه، إلَّا مَقرونًا بالاستِثناءِ [176] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/382). . فالآيةُ فيها حَثٌّ على الاستثناءِ في اليَمينِ، وذَمُّ تَرْكِه، وأنَّ تَرْكَه سبَبٌ للحِنْثِ [177] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 272). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ عَجَّل العِقابَ لهم قبْلَ التَّلَبُّسِ بمَنعِ الصَّدَقةِ؛ لأنَّ عَزْمَهم على المَنعِ، وتقاسُمَهم عليه حَقَّق أنَّهم مانِعونَ صَدَقاتِهم، فكانوا مانِعينَ. ويُؤخَذُ مِن الآيةِ مَوعِظةٌ للَّذين لا يُواسُونَ بأموالِهم [178] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/82). .
4- قال الله تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أرسَلَ اللهُ على جنَّتِهم طائِفًا وهم نائِمونَ، فأصبَحَت كالصَّريمِ؛ عُقوبةً على احتيالِهم لِمَنعِ الحَقِّ الَّذي كان للمَساكينِ في أموالِهم، فكان في ذلك عِبرةٌ لكُلِّ مَن احتالَ لِمَنعِ حقٍّ لله أو لعِبادِه؛ مِن زَكاةٍ أو شُفعةٍ [179] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/23). .
5- قال الله تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ لَمَّا كان هذا مَقْتًا في الصُّورةِ أخبَرَ بأنَّه لُطفٌ وتربيةٌ في المعنى بقَولِه: مِنْ رَبِّكَ أي: المعروفِ بالعَظَمةِ الَّتي لا تُحَدُّ، وبالإحسانِ إليك؛ فهو جديرٌ بأن يؤدِّبَ قَومَك؛ ليَقبَلوا منك، كما أدَّبَ أصحابَ الجنَّةِ بما أوجَبَ تَوبتَهم، وهو الحَقيقُ بتربيةِ العِبادِ ليَعقِلوا عنك، ويكونوا خليقينَ بالتَّجنُّبِ للدُّنيا، والإقبالِ على المعالي [180] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/308، 309). .
6- في قَولِه تعالى: قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ دليلٌ على أنَّ الشَّيءَ المُتَقَرَّبَ به إلى اللهِ -فرضًا كان أو نَدبًا- إذا فُرِّطَ فيه: تُلوفي؛ فنَفَعَ، إذْ تسبيحُ القومِ بعدَ وقتِه -الَّذي كان موضِعُه- نَفَعَهم تَدارُكُه [181] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/383). .
7- في قَولِه تعالى: قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ دليلٌ على أنَّ المذنِبَ الظَّالمَ لنَفْسِه مُحتاجٌ مع ربِّه إلى الاعترافِ بذَنْبِه وسوءِ صَنيعِه بلِسانِه، وإنْ كان نادِمًا عليه بقَلْبِه، وكذا كان نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ في دُعاءِ الاستِفتاحِ: ((ظَلَمْتُ نفْسي، واعترَفْتُ بذَنْبي )) [182] أخرجه مسلم (771) مطوَّلًا من حديث عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ الله عنه. فكان هذا الاعترافُ مِن تمامِ التَّوبةِ، وتحقيقِ الاستكانةِ والتَّواضُعِ [183] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/383). .
8- قال تعالى: قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ تَضمَّنَ جَوابُهم إقرارًا بأنَّ أوسَطَهم وعَظَهم فعَصَوه، ودلُّوا على ذلك بالتَّسبيحِ حِين نَدَمِهم على عدَمِ الأخْذِ بنَصيحتِه فقالوا: سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ؛ أرادوا إجابةَ تَقريرِه بإقرارٍ بتَسبيحِ اللهِ عن أنْ يُعصى أمْرُه في إعطاءِ حقِّ المساكينِ؛ فإنَّ مِن أُصولِ التَّوبةِ تَدارُكَ ما يُمكِنُ تَدارُكُه، واعترافُهُم بظُلمِ المساكينِ مِن أُصولِ التَّوبةِ؛ لأنَّ التَّسبيحَ مُقدِّمةُ الاستغفارِ مِن الذَّنْبِ؛ قال تعالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [184] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/86، 87). [النصر: 3] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ استُدِلَّ به على أنَّ مَن نَقَص مِن النِّصابِ قبْلَ الحَولِ قَصْدَ الفِرارِ مِن الزَّكاةِ، أو خالَطَ غَيرَه، أو فارَقَه بعْدَ الخُلْطةِ؛ فإنَّ ذلك لا يُسقِطُ الزَّكاةَ عنه [185] وهذا مذهَبُ المالكيَّةِ والحنابلةِ. يُنظر: ((الشرح الكبير)) للدردير و((حاشية الدسوقي)) (1/ 437)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (2/179). وذهب الحنفيَّةُ والشَّافعيَّةُ إلى أنَّ المالكَ إنْ فعَلَ ما تَسقُطُ به الزَّكاةُ عنه -ولو بنيَّةِ الفِرارِ منها- سقطَتْ. يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/15)، ((فتح القدير)) لابن الهُمَام (2/162)، ((روضة الطالبين)) للنووي (2/190)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/379)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (23/287). ، خِلافًا للشَّافِعيِّ. ووَجْهُ الاستدلالِ بالآيةِ أنَّهم قَصَدوا بقَطعِ الثِّمارِ إسقاطَ حَقِّ المساكينِ، فعاقَبَهم اللهُ سُبحانه وتعالى بإتلافِ ثمارِهم [186] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/592). .
2- قال الله تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ دلَّ القُرآنُ على أنَّ المقاصِدَ والنِّيَّاتِ مُعتبَرةٌ في التَّصَرُّفِ والعاداتِ، كما هي مُعتبَرةٌ في القُرُباتِ والعِباداتِ، فتَجْعَلُ الفِعلَ حلالًا أو حَرامًا، وصَحيحًا أو فاسِدًا، وصَحيحًا مِن وجهٍ، فاسدًا مِن وَجهٍ، كما أنَّ القَصدَ والنِّيَّةَ في العباداتِ تَجْعَلُها كذلك، ومِن ذلك: أنَّ جَدَادَ النَّخلِ عَمَلٌ مُباحٌ أيَّ وقتٍ شاء صاحِبُه، لكنْ لَمَّا قَصَد به أصحابُه في اللَّيلِ حِرمانَ الفُقَراءِ عاقبَهم اللهُ تعالى بإهلاكِه [187] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/377). .
3- قَولُه تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ إلى آخرِ السِّياقِ: استدلَّ به بعضُهم على كَراهةِ الجَدادِ والحَصادِ باللَّيلِ [188] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 271). . فقولُه: مُصْبِحِينَ أي: لأوَّلِ وقتٍ يُنسَبُ إلى الصَّباحِ، وذلك يكونُ في آخِرِ اللَّيلِ، كما يُقالُ: مُمْسِينَ، لأوَّلِ وقتٍ يُنسَبُ إلى المساءِ، وإذا كان كذلك فالانصرامُ يقَعُ باللَّيلِ؛ ألَا ترى إلى قولِه: لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، وهم لا يَملِكونَ بعدَ مُضيِّ اللَّيلِ منْعَ المَساكينِ عن الدُّخولِ [189] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/145). .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ بعْدَ أنْ قال: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ: عِبرةٌ لِمَن مَنَعَ الخيرَ، فإنْ كان هؤلاء عُوقِبوا على قَصْدِ مَنْعِ الخَيرِ المُستحَبِّ، فكيف بمَنْ قَصَدَ مَنْعَ الواجِبِ؟! وإنْ كانوا إنَّما قَصَدوا مَنْعَ واجبٍ -وهو الصَّوابُ- فهُم لم يَمنَعوه بعدَ وُجوبِه؛ لأنَّه لو كان قد وَجَبَ لم يكُنْ فَرْقٌ بيْنَ صَرْمِه باللَّيلِ وصَرْمِه بالنَّهارِ، وإنَّما قَصَدوا بالصَّرْمِ لَيلًا الفِرارَ ممَّا كان للمَساكينِ فيه مِن اللُّقاطِ؛ فعُلِمَ أنَّ الأمرَ -كما ذَكَره المفَسِّرون- مِن أنَّ حقَّ المساكينِ كان فيما يَتساقَطُ، ولم يكُنْ شَيئًا مُوَقَّتًا، ووُجوبُ هذا مَشروطٌ بسُقوطِه وحُضورِ مَن يأخُذُه مِن المساكينِ، كأنَّ السَّاقِطَ عَفْوُ المالِ وفَضْلُه، وحُضورَ أهلِ الحاجةِ بمنزلةِ السُّؤالِ والفاقةِ، ومِثلُ هذه الحالِ يجِبُ فيها ما لا يجِبُ في غيرِها، كما يَجِبُ قِرَى الضَّيفِ، وإطعامُ المضطرِّ، ونَفَقةُ الأقاربِ، وحَمْلُ العَقلِ، ونحوُ ذلك، فيكونُ هذا فِرارًا مِن حقٍّ قدِ انعقَدَ بسببِ وُجوبِه قبْلَ وقتِ وجوبِه، فهو مِثلُ الفِرارِ مِن الزَّكاةِ قبْلَ حُلولِ الحَولِ بعدَ مِلْكِ النِّصابِ، والفِرارِ مِن الشُّفعةِ بعدَ إرادةِ البَيعِ قبْلَ تمامِه، والفِرارِ مِن قِرَى الضَّيفِ قبْلَ حُضورِه، ونحوِ ذلك [190] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/24). .
5- يَنبغي لصاحبِ الحائطِ إذا أراد الجِذاذَ ألَّا يَمنَعَ المساكينَ مِن الدُّخولِ، وأن يَتصدَّقَ عليهم؛ لقولِ الله تعالى في ذمِّ أصحابِ الجنَّةِ: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ...، والعِلمُ عندَ الله تعالى [191] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/520). .
6- قال الله تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فلمَّا عزَموا على ما عزَموا عليه عُوقِبوا بنقيضِ قصدِهم، فأذْهَب الله ما بأيديهم بالكُليَّةِ،؛ رأسَ المالِ، والرِّبحَ، والصَّدقةَ، فلم يَبْقَ لهم شيءٌ [192] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/197). ، وقد استقرَّتْ سُنَّةُ الله في خلقِه شرعًا وقدرًا على معاقبةِ العبدِ بنقيضِ قصدِه، فمَن كاد كيدًا محرَّمًا فإنَّ الله يَكيدُه، ويُعامِلُه بنقيضِ قصدِه، وبمِثلِ عملِه، وهذه سنَّةُ الله في أربابِ الحيلِ المحرَّمةِ؛ أنَّه لا يُبارِكُ لهم فيما نالوه بهذه الحيلِ، كما هو الواقعُ، ويُهيِّئُ لهم كيدًا على يدِ مَن يشاءُ مِن خلقِه يُجزَوْنَ به مِن جنسِ كيدِهم وحِيلِهم [193] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (5/161، 195). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فيه دليلٌ على أنَّ العَزمَ ممَّا يُؤاخَذُ به الإنسانُ؛ لأنَّهم عَزَموا على أن يَفعَلوا، فعُوقِبوا قبْلَ فِعْلِهم [194] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/241). .
8- في قَولِه تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ دليلٌ على أنَّ الشَّيءَ يُسمَّى باسمِ غَيرِه وإنْ لَمْ يُشْبِهْه بجَميعِ صِفاتِه؛ ألَا ترى أنَّ اللهَ جلَّ جلالُه قد جَمَعَ بيْن جَنَّةِ الدُّنيا الَّتي هي بُستانٌ، وجَنَّةِ الآخِرةِ بالاسمِ، وهما لا يجتَمِعانِ في جميعِ صِفاتِهما؟! وهذا رَدٌّ على المعتزلةِ -فيما يَزعُمونَ أنَّ اللهَ جلَّ جلالُه لا يجوزُ أنْ يُوصَفَ بشَيءٍ ممَّا يَقَعُ اسمُه مُوافِقًا لاسمِ ما في المخلوقِ- وأغفَلوا مِثلَ هذا وأشباهَه، وما هو أعظمُ مِن هذا، وهو الجَمعُ بيْن أسمائِه سبحانَه وأسماءِ خلْقِه، مِثلُ: «المَلِكِ» و«الجبَّارِ» و«العزيزِ» و«العظيمِ» و«الكريمِ» وما ضاهاها! فلَمْ يُوجِبْ ذلك أنْ يُساويَ خلْقَه في جميعِ صِفاتِه، ولا على خلْقِه أنْ يُساوُوه في جميعِ صِفاتِهم، وإذا كان هذا غيرَ ضَيِّقٍ في الاسمِ وَجَبَ أَلَّا يَضِيقَ فيما وَقَعَ عليه الاسمُ [195] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/381). .
9- قال تعالى: كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، قَولُه: كَذَلِكَ الْعَذَابُ، أي: الدُّنيويُّ، لِمَن أتَى بأسبابِ العَذابِ؛ أن يَسلُبَ اللهُ العَبْدَ الشَّيءَ الَّذي طغى به وبغى، وآثَرَ الحياةَ الدُّنيا، وأن يُزيلَه عنه أحوَجَ ما يكونُ إليه [196] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 880). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ
- جُملةُ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتدائيًّا دَعَت إليه مُناسَبةُ قولِه: أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [القلم: 14-15] ؛ فإنَّ الازدهاءَ والغُرورَ بسَعةِ الرِّزقِ المُفضِيَينِ إلى الاستِخفافِ بدَعوةِ الحقِّ، وإهمالِ النَّظَرِ في كُنْهِها ودَلائلِها؛ قدْ أوقَعَا مِن قَديمِ الزَّمانِ أصحابَهما في بَطَرِ النِّعمةِ، وإهمالِ الشُّكرِ، فجَرَّ ذلك عليهم شَرَّ العواقبِ، فضَرَبَ اللهُ للمشركينَ مثَلًا بحالِ أصحابِ هذه الجنَّةِ؛ لعلَّهم يَستفِيقونَ مِن غَفْلتِهم وغُرورِهم، كما ضُرِبَ المثَلُ بقَريبٍ منه في سُورةِ (الكهْفِ)، وضُرِبَ مَثَلًا بقارونَ في سُورةِ (القَصصِ) [197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/79). .
- والبَلْوى: الاختبارُ، وهي هنا تَمثيلٌ بحالِ المُبتلَى في إرخاءِ الحبْلِ له بالنِّعمةِ ليَشكُرَ أو يَكفُرَ، فالبَلْوى المذكورةُ هنا بَلوى بالخَيرِ -على قولٍ-؛ فإنَّ اللهَ أمدَّ أهلَ مكَّةَ بنِعمةِ الأمْنِ، ونِعمةِ الرِّزقِ، وجَعَل الرِّزقَ يأْتِيهم مِن كلِّ جِهةٍ، ويسَّرَ لهم سُبلَ التِّجارةِ في الآفاقِ بنِعمةِ الإيلافِ برِحلةِ الشِّتاءِ ورِحلةِ الصَّيفِ، فلمَّا أكمَلَ لهم النِّعمةَ بإرسالِ رَسولٍ منهم ليُكمِلَ لهم صَلاحَ أحوالِهم، ويَهْدِيَهم إلى ما فيه النَّعيمُ الدائمُ، فدَعاهم وذكَّرهم بنِعَمِ اللهِ؛ أعْرَضوا وطَغَوا، ولم يَتوجَّهوا إلى النَّظَرِ في النِّعَمِ السَّالفةِ، ولا في النِّعمةِ الكاملةِ الَّتي أكْمَلَت لهم النِّعَمَ، ووَجْهُ المُشابَهةِ بيْنَ حالِهم وحالِ أصحابِ الجنَّةِ المذكورةِ هنا هو الإعراضُ عن طَلَبِ مَرضاةِ اللهِ، وعن شُكرِ نِعمتِه. وهذا التَّمثيلُ تَعريضٌ بالتَّهديدِ بأنْ يَلحَقَ قُريشًا ما لَحِقَ أصحابَ الجنَّةِ مِن البُؤسِ بعْدَ النَّعيمِ، والقحْطِ بعْدَ الخِصبِ، وإنِ اختَلَفَ السَّببُ في نَوعِه فقدِ اتَّحَدَ جِنسُه [198] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/79). . وأهلُ هذه الجنَّةِ لم يَكونوا كُفَّارًا، فوَجْهُ الشَّبَهِ بيْنَهم وبيْنَ المشرِكينَ المَضروبِ لهم هذا المَثَلُ هو بَطَرُ النِّعمةِ، والاغترارُ بالقوَّةِ [199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/81). .
- قولُه: وَلَا يَسْتَثْنُونَ معناه: لا يَسْتثنُون لأيْمانِهم، بأنْ يَقولوا: إنْ شاء اللهُ، وعلى هذا التَّفسيرِ يكونُ قولُه: وَلَا يَسْتَثْنُونَ مِن قَبيلِ الإدماجِ [200] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 449)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/ 484)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/ 339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/ 427). ، أي: لِمَبلَغِ غُرورِهم بقوَّةِ أنفُسِهم صاروا إذا عَزَموا على فِعلِ شَيءٍ لا يَتوقَّعون له عائقًا [201] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/81). .
- قولُه: وَلَا يَسْتَثْنُونَ التَّعبيرُ بالفِعلِ المضارعِ لاستحضارِ حالتِهم العجيبةِ مِن بُخْلِهم على الفُقراءِ والأيتامِ [202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/81). . وذلك على أنَّ المرادَ أنَّهم لا يَسْتَثْنونَ مِن الثَّمرةِ شيئًا للمساكينِ.
2- قولُه تعالَى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ الطَّوافُ: المشْيُ حولَ شَيءٍ مِن كلِّ جَوانبِه، يُقالُ: طاف بالكَعبةِ، وأُريدَ به هنا تَمثيلُ حالةِ الإصابةِ لشَيءٍ كلِّه بحالِ مَن يَطوفُ بمَكانٍ [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/81). .
- إسنادُ فِعلِ (طاف) إلى (طائف) بمَنزلةِ إسنادِ الفِعلِ المَبنيِّ للمَجهولِ، كأنَّه قِيل: فطِيفَ عليها وهمْ نائِمون، فلا يَتعلَّقُ غرَضٌ بتَعيينِ نَوعِ الطَّائفِ؛ لأنَّ العِبرةَ في الحاصلِ به [204] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/81، 82). .
- وتَنكيرُ (طائف) وتَنوينُه الفائدةُ منه الإبهامُ؛ تَعظيمًا لِما أصاب جنَّتَهم، أي: أمْرٌ عَظيمٌ أصابَها، وقد بيَّنَه بقولِه: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فهو طائفُ سَوءٍ [205] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/82)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/178). .
- قولُه: وَهُمْ نَائِمُونَ تَقييدٌ لوقْتِ الطائفِ -إذا كان تَمثيلًا لحالةِ الإصابةِ لشَيءٍ كلِّه بحالِ مَن يطوفُ بمكانٍ-، وهو تَأْكيدٌ لمعْنى (طائف) -إنْ كان الطائفُ لا يكونُ إلَّا باللَّيلِ-، وفائدتُه تَصويرُ الحالةِ [206] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/82). .
- والصَّريمُ قِيل: هو اللَّيلُ، والصَّريمُ مِن أسماءِ اللَّيلِ، ومِن أسماءِ النَّهارِ، كما سُمِّيَ كلٌّ مِن اللَّيلِ والنَّهارِ مَلًا، فيُقال: المَلَوَانِ، وعلى هذا فَفي الجمْعِ بيْنَ (أصبَحَت) و(الصَّريم) مُحسِّنُ الطِّباقِ، وقيل: الصَّريمُ: الرَّمادُ الأسْوَدُ بلُغةِ جَذِيمةَ أو خُزَيمةَ، وقيل: الصَّريمُ: اسمُ رَمْلةٍ مَعروفةٍ باليمَنِ لا تُنبِتُ شيئًا، وإيثارُ كَلمةِ (الصَّريمِ) هنا لكَثرةِ مَعانِيها، وصَلاحيةِ جَميعِ تلك المعاني لأنْ تُرادَ في الآيةِ [207] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/82). .
3- قولُه تعالَى: فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ
- قولُه: فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ الفاءُ للتَّفريعِ على أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، أي: فلمَّا أصْبَحوا تَنادَوا لإنجازِ ما بيَّتوا عليه أمْرَهم [208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/82). .
- والتَّنادي: أنْ يُناديَ بَعضُهم بعضًا، وهو مُشعِرٌ بالتَّحريضِ على الغُدُوِّ إلى جنَّتِهم مُبكِّرينَ [209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/82، 83). .
- قولُه: اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ يجوزُ أنْ يُضمَّنَ الغُدُوُّ معْنى الإقبالِ، كقولِهم: يُغدَى عليه بالجَفنةِ ويُراحُ، أي: فأقْبِلوا على حَرْثِكم باكِرينَ، ويجوزُ أنْ تكونَ (على) مُستعمَلةً في تَمكُّنِ الوُصولِ إليه، كأنَّه قِيل: اغْدُوا تَكونوا على حَرْثِكم، أي: مُستقرِّينَ عليه [210] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/590)، ((تفسير البيضاوي)) (5/235)، ((تفسير أبي حيان)) (10/242)، ((تفسير أبي السعود)) (9/15)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/83)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/176). .
- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (إنْ) شَرطيَّةٌ، وجَوابُها مَحذوفٌ، أي: إنْ كُنتُم صارمينَ فاغْدُوا [211] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/176). . وقيل: ليس قولُه: إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ بشَرطِ تَعليقٍ، ولكنَّه مُستعمَلٌ في الاستبطاءِ، فكأنَّهم لإبطاءِ بَعضِهم في الغُدُوِّ قد عَدَلَ عن الجِذاذِ ذلك اليومَ [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/83). .
4- قولُه تعالَى: فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فيه تأْكيدُ فِعلِ النَّهيِ لَا يَدْخُلَنَّهَا بنُونِ التَّوكيدِ؛ لزِيادةِ تَحقيقِ ما تَقاسَموا عليه [213] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/83). .
- وأُسنِدَ إلى مِسْكِينٌ فِعلُ النَّهيِ عن الدُّخولِ، والمرادُ نهْيُ بَعضِهم بعضًا عن دُخولِ المسكينِ إلى جنَّتِهم، أي: لا يَترُكْ أحدٌ مِسكينًا يَدخُلُها، وهذا مِن قَبيلِ الكِنايةِ، فالمرادُ بنهْيِ المسكينِ عن الدُّخولِ المُبالَغةُ في النَّهيِ عن تَمكينِه مِن الدُّخولِ، كقولِهم: لا أرَيَنَّك هاهنا [214] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/590)، ((تفسير البيضاوي)) (5/235)، ((تفسير أبي حيان)) (10/242)، ((تفسير أبي السعود)) (9/15)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/83). .
- وجُملةُ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ في مَوضعِ الحالِ بتَقديرِ (قد)، أي: انْطَلَقوا في حالِ كَونِهم غادِينَ قادِرينَ على حَرْدٍ. وذُكِرَ فِعلُ وَغَدَوْا في جُملةِ الحالِ؛ لقصْدِ التَّعجيبِ مِن ذلك الغُدُوِّ النَّحسِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/84). .
- والحرْدُ: يُطلَقُ على المنْعِ، وعلى القصْدِ القويِّ، أي: السُّرعةِ، وعلى الغضَبِ، وفي إيثارِ كَلمةِ حَرْدٍ في الآيةِ نُكتةٌ مِن نُكَتِ الإعجازِ المُتعلِّقِ بشَرَفِ اللَّفظِ ورَشاقتِه مِن حيثُ المعْنى، ومِن جِهةِ تَعلُّقِ المجرورِ به بما يُناسِبُ كلَّ معْنًى مِن مَعانِيه، أي: بأنْ يَتعلَّقَ عَلَى حَرْدٍ بـ قَادِرِينَ، أو بقولِه: (غَدَوْا)؛ فإذا عُلِّقَ بـ قَادِرِينَ فتَقديمُ المُتعلَّقِ يُفيدُ تَخصيصًا، أي: قادرينَ على المنْعِ، أي: منْعِ الخيرِ، أو منْعِ ثَمَرِ جَنَّتِهم غيرَ قادرينَ على النَّفعِ. والتَّعبيرُ بـ قَادِرِينَ على حَرْدٍ دونَ أنْ يقولَ: (وَغَدَوا حارِدينَ) تَهكُّمٌ؛ لأنَّ شأْنَ فِعلِ القدرةِ أنْ يُذكَرَ في الأفعالِ الَّتي يشُقُّ على الناسِ إتيانُها، فقولُه: عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ على هذا الاحتمالِ مِن بابِ قَولِهم: فلانٌ لا يَملِكُ إلَّا الحرمانَ، أو لا يَقدِرُ إلَّا على الخَيبةِ! وإذا حُمِلَ الحرْدُ على معْنى السُّرعةِ والقصْدِ، كان عَلَى حَرْدٍ مُتعلِّقًا بـ (غَدَوْا) مُبيِّنًا لنَوعِ الغُدُوِّ، أي: غَدَوا غُدُوَّ سُرعةٍ واعتناءٍ، فتَكون (على) بمعْنى باءِ المصاحَبةِ، والمعْنى: غَدَوا بسُرعةٍ ونَشاطٍ، ويَكون قَادِرِينَ حالًا مِن ضَميرِ (غَدَوْا) حالًا مُقدَّرةً، أي: مُقدِّرينَ أنَّهم قادِرونَ على تَحقيقِ ما أرادوا، وفي الكلامِ تَعريضٌ بأنَّهم خابُوا، دلَّ عليه قولُه بعْدَه: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ [القلم: 26] ، وقولُه قبْلَه: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ [القلم: 19] . وإذا أُرِيدَ بالحرْدِ الغضَبُ والحَنَقُ؛ فإنَّه يُقالُ: حَرَدٌ بالتَّحريكِ، وحرْدٌ بسُكونِ الرَّاءِ، ويَتعلَّقُ المجرورُ بـ قَادِرِينَ، وتَقديمُه للحصْرِ، أي: غَدَوا لا قُدرةَ لهم إلَّا على الحَنَقِ والغضَبِ على المساكينِ، فتَحيَّلوا عليهم بالتَّبكيرِ إلى جِذاذِها، أي: لم يَقدِروا إلَّا على الغضَبِ والحَنَقِ، ولم يَقدِروا على ما أرادُوه مِن اجتناءِ ثَمَرِ الجنَّةِ [216] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/590، 591)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/84، 85). .
5- قولُه تعالَى: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أفادتْ (لَمَّا) اقترانَ جَوابِها بشَرْطِها بالفَورِ والبَداهةِ، والمقصودُ مِن هذا التَّعريضُ للمشركينَ بأنْ يكونَ حالُهم في تَدارُكِ أمْرِهم، وسُرعةِ إنابتِهم كحالِ أصحابِ هذه الجنَّةِ؛ إذ بادَرُوا بالنَّدمِ، وسَأَلوا اللهَ عِوَضَ خَيرٍ [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/85). .
- وإسنادُ هذه المَقالةِ إلى ضَميرِ أصحابِ الجنَّةِ يَقْتضي أنَّهم قالوه جَميعًا، أي: اتَّفَقوا على إدراكِ سَببِ ما أصابَهم [218] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/85). .
- قوله: قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، أي: قالوا: إنَّا أخْطَأْنا الطَّريقَ في السَّيرِ إلى جنَّتِنا، ويكون الإضرابُ في قولِه: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ إبطاليًّا، أي: أبْطَلوا أنْ يَكونوا ضَلُّوا طَريقَ جَنَّتِهم، وأثْبَتوا أنَّهم مَحرومونَ مِن خَيرِ جَنَّتِهم، فيكون المعنى: أنَّها هي جَنَّتُهم، ولكنَّها هَلَكَت فحُرِموا خَيراتِها بأنْ أتلَفَها اللهُ [219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/86). .
وعلى القولِ بأن معْنى إِنَّا لَضَالُّونَ أي: عن طَريقِ الشُّكرِ، أي: كانوا غيرَ مُهتدِينَ، فهو كِنايةٌ عن كَونِ ما أصابَهم عِقابًا على إهمالِ الشُّكرِ، وأكَّدوا الكلامَ لتَنزيلِ أنفُسِهم مَنزلةَ مَن يشُكُّ في أنَّهم ضالُّون طَريقَ الخيرِ؛ لقُرْبِ عَهْدِهم بالغَفلةِ عن ضَلالِهم، ففيه إيذانٌ بالتَّحسُّرِ والتَّندُّمِ [220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/86). . وقولُه: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ إضرابٌ للانتقالِ إلى ما هو أهمُّ بالنَّظَرِ لحالِ تَبْييتِهم؛ إذ بَيَّتوا حِرمانَ المساكينِ مِن فُضولِ ثَمرتِهم، فكانوا همُ المَحرومينَ مِن جَميعِ الثِّمارِ، فالحِرمانُ الأعظمُ قدِ اختَصَّ بهم؛ إذْ ليس حِرمانُ المساكينِ بشَيءٍ في جانبِ حِرمانِهم، والكلامُ يُفيدُ ذلك إمَّا بطَريقِ تَقديمِ المُسنَدِ إليه، بأنْ أُتِيَ به ضَميرًا بارزًا مع أنَّ مُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يكونَ ضَميرًا مُستتِرًا في اسمِ المفعولِ، مُقدَّرًا مُؤخَّرًا عنه؛ لأنَّه لا يُتصوَّرُ إلَّا بعْدَ سَماعِ مُتحمَّلِه، فلمَّا أُبرِزَ الضَّميرُ وقُدِّمَ، كان تَقديمُه مُؤذِنًا بمعْنى الاختصاصِ، أي: القصرِ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ [221] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ، وهذا مِن مُستتبَعاتِ التَّراكيبِ والتَّعويلِ على القرائنِ [222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/86). .
6- قولُه تعالَى: قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ حُكِيَ هذا القولُ بدُونِ عاطفٍ؛ لأنَّه قولٌ في مَجرى المُحاوَرةِ جوابًا عن قولِهم: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [القلم: 27] ، قالهُ لهم على وَجْهِ تَوقيفِهم على تَصويبِ رأْيِه، وخَطَلِ رَأْيِهم [223] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/86). .
- والاستِفهامُ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ تَقريريٌّ، أو إنكاريٌّ [224] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/86)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/177). .
- وتُسَبِّحُونَ مَفعولُه مَحذوفٌ، أي: تُسبِّحون اللهَ [225] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/177). .
- قولُه: قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ خبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّندُّمِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/86، 87). .
- قيل: جُعِلَ التَّسبيحُ مَوضعَ الاستثناءِ بقولِ: إنْ شاء اللهُ؛ لأنَّ المعْنى تَنزيهُ اللهِ أنْ يكونَ شَيءٌ إلَّا بمَشيئتِه، أو لالتِقائِهما في معْنى التَّعظيمِ للهِ؛ لأنَّ الاستثناءَ تَفويضٌ إليه، والتَّسبيحَ تَنزيهٌ له، وكلُّ واحدٍ مِن التَّفويضِ والتَّنزيهِ تَعظيمٌ له [227] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/591)، ((تفسير البيضاوي)) (5/235)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/589)، ((تفسير أبي حيان)) (10/243)، ((تفسير أبي السعود)) (9/16). . وذلك على قولٍ في تفسيرِ التَّسبيحِ هنا.
- وجُملةُ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ إقرارٌ بالذنْبِ، والتَّأكيدُ بـ (إنَّ) لتَحقيقِ الإقرارِ والاهتمامِ به، ويُفيدُ حرْفُ (إنَّ) مع ذلك تَعليلًا للتَّسبيحِ والتَّنزيهِ الَّذي قبْلَه [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/87)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/177). .
- وحُذِفَ مَفعولُ ظَالِمِينَ؛ ليَعُمَّ ظُلْمَهم أنفُسَهم بما جَرُّوه على أنفُسِهم مِن سَلْبِ النِّعمةِ، وظُلْمَ المساكينِ بمَنْعِهم مِن حقِّهم في المالِ [229] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/87). .
7- قولُه تعالَى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ لَمَّا استَقرَّ حالُهم على المُشارَكةِ في منْعِ المساكينِ حقَّهم، أخَذَ بعضُهم يَلومُ بَعضًا على ما فَرَطَ مِن فِعلِهم، كلٌّ يَلومُ غيرَه بما كان قدْ تَلبَّسَ به في هذا الشَّأنِ؛ مِن ابتكارِ فِكرةِ منْعِ المساكينِ ما كان حقًّا لهم مِن حياةِ الأبِ، ومِن المُمالأةِ على ذلك، ومِن الاقتناعِ بتَصميمِ البقيَّةِ، ومِن تَنفيذِ جَميعِهم ذلك العزْمَ الذَّميمَ، فصَوَّرَ قولُه: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ هذه الحالةَ، والتَّقاذُفَ الواقعَ بيْنَهم بهذا الإجمالِ البالغِ غايةَ الإيجازِ؛ ألَا تَرى أنَّ إقبالَ بَعضِهم على بَعضٍ يُصوِّرُ حالةً تُشبِهُ المُهاجَمةَ والتَّقريعَ، وأنَّ صِيغةَ التَّلاوُمِ مع حذْفِ مُتعلَّقِ التَّلاوُمِ تُصوِّرُ في ذِهنِ السَّامعِ صُوَرًا مِن لَومِ بَعضِهم على بَعضٍ [230] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/87). .
- وأُسنِدَ هذا القولُ إلى جَميعِهم؛ لأنَّه قد تلقَّى كلُّ واحدٍ منهم لَومَ غَيرِه عليه بإحقاقِ نفْسِه بالمَلامةِ، وإشراكِ بَقيَّتِهم فيها [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/87). .
- الإقبالُ: المَجيءُ إلى الغيرِ مِن جِهةِ وَجْهِه، وهو مُشتَقٌّ مِن القُبُلِ، وهو ما يَبْدو مِن الإنسانِ مِن جِهةِ وَجْهِه، ضِدُّ الإدبارِ، وهو هنا تَمثيلٌ لحالِ العِنايةِ باللَّومِ [232] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/88). .
8- قولُه تعالَى: قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ
- جُملةُ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ إلى آخِرِها يجوزُ أنْ تكونَ مُبيِّنةً لجُملةِ يَتَلَاوَمُونَ، أي: يَلومُ بَعضُهم بَعضًا بهذا الكلامِ، فتَكونَ خبَرًا مُستعمَلًا في التَّقريعِ على طَريقةِ التَّعريضِ بغَيرِه، والإقرارِ على نفْسِه، مع التَّحسُّرِ والتَّندُّمِ بما أفادهُ يَا وَيْلَنَا، وذلك كَلامٌ جامعٌ للمَلامةِ كلِّها، ولم تُعطَفِ الجُملةُ؛ لأنَّها مُبيِّنةٌ. ويجوزُ أنْ تكونَ جَوابَ بَعضِهم بَعضًا عن لَومِه غيرَه؛ فكما أجْمَعوا على لَومِ بَعضِهم بَعضًا، كذلك أجْمَعوا على إجابةِ بَعضِهم بَعضًا عن ذلك المَلامِ، فقال كلُّ مَلومٍ لِلائمِه: يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ... إلخ، جَوابًا بتَقريرِ مَلامِه، والاعترافِ بالذَّنْبِ، ورَجاءِ العفْوِ مِن اللهِ، وتَعويضِهم عن جنَّتِهم خَيرًا منها إذا قَبِلَ تَوبتَهم، وجَعَلَ لهم ثَوابَ الدُّنيا مع ثَوابِ الآخرةِ، فيكونُ تَرْكُ العطْفِ؛ لأنَّ فِعلَ القولِ جَرى في طَريقةِ المُحاوَرةِ [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/87، 88). .
- وجُملةُ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ بدَلٌ مِن جُملةِ الرَّجاءِ، أي: هو رَجاءٌ مُشتمِلٌ على رَغبةٍ إليه بالقَبولِ والاستجابةِ، والتأْكيدُ في إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ للاهتمامِ بهذا التَّوجُّهِ [234] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/88). .
- والمقصودُ مِن الإطنابِ في قولِهم بعْدَ حُلولِ العذابِ بهم، تَلقينُ الَّذين ضُرِبَ لهم هذا المَثَلُ بأنَّ في مُكْنتِهم الإنابةَ إلى اللهِ بنَبْذِ الكُفرانِ لنِعمتِه؛ إذ أشْرَكوا به مَن لا إنعامَ لهم عليه [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/88). .
9- قولُه تعالى: كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ هذا رُجوعٌ إلى تَهديدِ المشرِكين المَبدوءِ مِن قولِه: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ [القلم: 17] ، فالكلامُ فَذْلَكةٌ [236] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلَكةُ كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقَلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلام، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/ 293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). وخُلاصةٌ لِما قبْلَه، وهو استئنافٌ ابتدائيٌّ [237] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/89). .
- وقولُه: كَذَلِكَ مُسنَدٌ مُقدَّمٌ، والْعَذَابُ مُسنَدٌ إليه، وتَقديمُ المُسنَدِ للاهتِمامِ بإحضارِ صُورتِه في ذِهنِ السَّامعِ، ولإفادةِ القَصرِ. والتَّعريفُ في الْعَذَابُ تَعريفُ الجِنسِ، وفيه تَوجيهٌ بالعهْدِ الذِّهنيِّ، أي: عَذابُكم الموعودُ مِثلُ عَذابِ أولئك [238] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/17)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/89). .
- والمُماثَلةُ في إتلافِ الأرزاقِ والإصابةِ بقطْعِ الثَّمراتِ؛ فالمُماثَلةُ بيْنَ المُشبَّهِ والمُشبَّهِ به مُماثَلةٌ في النَّوعِ، وإلَّا فإنَّ ما تُوُعِّدوا به مِن القحْطِ أشدُّ ممَّا أصاب أصحابَ الجنَّةِ وأطولُ [239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/89، 90). .
وقيل: تَشبيهُ بَلاءِ قُريشٍ ببَلاءِ أصحابِ الجنَّةِ هو أنَّ أصحابَ الجنةِ عَزَموا على الانتفاعِ بثَمَرِها، وحِرمانِ المساكينِ، فقَلَبَ اللهُ تعالَى عليهم وحَرَمَهم، وأنَّ قُريشًا حينَ خَرَجوا إلى بدْرٍ حَلَفوا على قتْلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه، فإذا فَعَلوا ذلك رَجَعوا إلى مكَّةَ، وطافوا بالكعبةِ، وشَرِبوا الخُمورَ، فقَلَبَ اللهُ عليهم بأنْ قُتِلوا، وأُسِروا [240] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/244) .
- قولُه: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ جوابُ (لو) مَحذوفٌ دلَّ عليه سِياقُ الكلامِ، تَقديرُه: لَمَا فَرَط منهم ما سَلَف مِن ظُلمٍ وإحجامٍ عن الاستثناءِ [241] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/178). .