موسوعة التفسير

سورةُ القَلَمِ
الآيات (17-33)

ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ

غريب الكلمات:

بَلَوْنَاهُمْ: أي: امتَحَنَّاهم واختَبَرْناهم، والبلاءُ: الاختبارُ والامتحانُ، وأصلُ (بلو) هنا: نوعٌ مِن الاختبارِ .
لَيَصْرِمُنَّهَا: أي: لَيَجتَنُونَها، ويَقطَعونَ ثَمَرَها، وأصلُ (صرم): يدُلُّ على قَطعٍ .
وَلَا يَسْتَثْنُونَ: أي: ولا يَقولونَ: إن شاء اللهُ. يُقالُ: حلَفَ فُلانٌ يمينًا ليس فيها ثُنْيا ولا ثَنْوَى ولا ثَنِيَّةٌ ولا مَثْنَويَّةٌ ولا استِثناءٌ، كلُّه واحدٌ، وأصلُ هذا كلِّه مِن الثَّنْيِ، وهو الكفُّ والرَّدُّ؛ وذلك أنَّ الحالِفَ إذا قال: واللهِ لَأفعَلَنَّ كذا إلَّا أن يَشاءَ اللهُ غَيْرَه، فقد ردَّ ما قاله بمشيئةِ الله غيرَه .
طَائِفٌ: أي نارٌ أو عَذابٌ، وأصلُ (طوف): يدُلُّ على دَوَرانِ الشَّيءِ على الشَّيءِ، وإحاطتِه به .
كَالصَّرِيمِ: أي: كاللَّيلِ المُظلِمِ البَهيمِ، أو كالمَصرومةِ المقطوعةِ لهلاكِ ثَمَرِها. وكُلُّ شَيءٍ قُطِعَ فهو صَريمٌ، وأصلُ (صرم): يدُلُّ على قَطعٍ .
اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ: أي: أقبِلُوا على ثِمارِكم وزُروعِكم باكِرينَ، أو: اخرُجوا غُدوةً، يقالُ: غَدا يَغْدو غُدُوًّا، والغُدُوُّ: سيرُ أوَّلِ النَّهارِ، وأصلُ (غدو): يدُلُّ على زمانٍ، وأصلُ (حرث) هنا: يدُلُّ على الجمعِ والكسبِ .
صَارِمِينَ: أي: حاصِدينَ زَرْعَكم أو عازِمينَ، وأصلُ (صرم): يدُلُّ على قَطعٍ .
يَتَخَافَتُونَ: أي: يَتهامَسونَ بيْنَهم، ويُسِرُّ بَعضُهم إلى بعضٍ، وأصلُ (خفت): يدُلُّ على إسرارٍ وكِتمانٍ .
حَرْدٍ: الحَرْدُ: المَنعُ مِن حِدَّةٍ وغَضَبٍ، ويُطلَقُ الحرْدُ على القَصدِ والغَضَبِ والمَنْعِ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى ضاربًا المثَلَ للمشركينَ بقصَّةِ أصحابِ الجنَّةِ: إنَّا امتَحَنَّا أهلَ مكَّةَ كما امتحَنَّا أصحابَ البُستانِ حينَ حَلَفوا فيما بيْنَهم على قَطْعِ ثمارِ بُستانِهم أوَّلَ النَّهارِ قبْلَ مَجيءِ المساكينِ إليه؛ لِيَحرِموا المساكينَ مِن ثمارِ بُستانِهم، ولم يَسْتَثْنوا في قَسَمِهم بقَولِهم: إنْ شاء اللهُ. فنَزَل على بُستانِهم ليلًا وهم نائِمونَ عَذابٌ مِن رَبِّك -يا مُحمَّدُ- فأهلَكَه وأباده، فصار مُحترقًا، أسْوَدَ كسَوادِ اللَّيلِ المُظلِمِ!
 فنادى أصحابُ البُستانِ بَعضُهم بَعضًا في أوَّلِ الصَّباحِ؛ لِيَذهَبوا لقَطعِ ثَمَرِهم: بَكِّروا في الخُروجِ إلى بُستانِكم إنْ كُنتُم اليومَ عازِمينَ على قَطعِ ثَمَرِه قبْلَ مَجيءِ المساكينِ إليه! فانطَلَقوا إلى بُستانِهم وهم يُسِرُّونَ الحديثَ فيما بيْنَهم: لا يَدخُلَنَّ اليومَ بُستانَكم أحدٌ مِن المساكينِ. وخَرَجوا في أوَّلِ الصَّباحِ قاصِدينَ في غَضَبٍ مَنْعَ المساكينِ مِن ثمارِهم، قادِرينَ على ما عَزَموا عليه مِن قَطْعِ الثِّمارِ ومَنْعِ المساكينِ، فلمَّا رأَوا بُستانَهم أنكَروا أن يكونَ هو! وقال بعضُهم لبَعضٍ: إنَّا قد ضلَلْنا الطَّريقَ إلى بُستانِنا! وقالوا: لا، لم نَضِلَّ الطَّريقَ، بل حُرِمْنا مِن ثَمَرِه!
قال أعدَلُهم وأعقَلُهم: ألمْ أقُلْ لكم ناصِحًا: هلا نزَّهتُم اللهَ عن السُّوءِ بقَولِكم: سُبْحانَ اللهِ؟! فقالوا مُعتَرِفينَ بخَطَئِهم: نُنَزِّهُ ربَّنا عن أن يكونَ ظالِمًا فيما فَعَل ببُسْتانِنا، بل كنَّا نحن الظَّالِمينَ. فأقْبَلَ بَعضُهم على بَعضٍ لائِمينَ أنفُسَهم، قالوا: يا حَسْرَتَنا وهَلاكَنا، إنَّا قد تجاوَزْنا حدودَ اللهِ تعالى، نَرجو مِن ربِّنا بَعْدَ أن تُبْنا إليه أن يُعوِّضَنا خيرًا مِن بُستانِنا الَّذي هلَك، إنَّا إلى رَبِّنا وَحْدَه راغِبونَ وراجُونَ.
 ثمَّ يختمُ الله تعالى قصَّتَهم بقولِه: مِثلَ هذا العذابِ الدُّنيويِّ الَّذي حَلَّ بأصحابِ البُستانِ يُعَذِّبُ اللهُ تعالى أيضًا كُلَّ مَن خالَفَ أمْرَه، فبَخِلَ بما أنعَمَ به عليه، ومَنَع المحتاجينَ، ولَعَذابُ اللهِ في الآخِرةِ لِمَن يَستَحِقُّه أكبَرُ مِن عذابِ الدُّنيا لو كان الكُفَّارُ يَعلَمونَ!

تفسير الآيات:

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالَى لَمَّا قال: مِن أجْلِ أنْ كان ذا مالٍ وبَنينَ جَحَد وكفَرَ وعَصى وتمرَّدَ؟! وكان هذا استِفهامًا على سَبيلِ الإنكارِ -على قولٍ-؛ بيَّن في هذه الآيةِ أنَّه تعالَى إنَّما أعطاهُ المالَ والبَنينَ على سَبيلِ الابتلاءِ والامتحانِ، وليَصرِفَه إلى طاعةِ اللهِ، وليُواظِبَ على شُكرِ نِعَمِ اللهِ، فإنْ لم يَفعَلْ ذلك فإنَّه تعالَى يَقطَعُ عنه تلك النِّعَمَ، ويَصُبُّ عليه أنواعَ البلاءِ والآفاتِ، فقال: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ، أي: كلَّفْنا هؤلاء أنْ يَشكُروا على النِّعَمِ، كما كلَّفْنا أصحابَ الجنَّةِ ذاتِ الثِّمارِ أنْ يَشكُروا ويُعطُوا الفُقراءَ حُقوقَهم .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ سُبحانه المتَّصِفينَ بتِلك الأوصافِ الذَّميمةِ -وهم كُفَّارُ قُريشٍ- أخبَرَ تعالَى بما حلَّ بهم مِن الابتلاءِ بالقحْطِ والجُوعِ بدَعوةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اللَّهُمَّ اشدُدْ وَطْأَتَك على مُضَرَ، واجْعَلَها عليهم سِنينَ كَسِنِي يُوسفَ )) .
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ.
أي: إنَّا امتحَنَّا أهلَ مَكَّةَ كما امتحَنَّا أصحابَ البُستانِ .
كما قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل: 112 - 114].
وقال سُبحانَه: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ [الدخان: 10 - 17] .
إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ.
أي: حينَ حَلَف أصحابُ البُستانِ فيما بيْنَهم على جَذِّ ثِمارِ بُستانِهم في أوَّلِ الصَّباحِ قبْلَ مَجيءِ المساكينِ إليه؛ لئلَّا يَعلَموا بهم، فتتوفَّرَ ثمارُه عليهم بالكامِلِ، ولا يتصَدَّقوا منه بشَيءٍ !
وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18).
أي: ولم يَسْتَثْنِ أصحابُ الجَنَّةِ في قَسَمِهم، ولم يَقولوا: إنْ شاء اللهُ .
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19).
أي: فوَقَع على بُستانِهم ليلًا عَذابٌ مِن رَبِّك -يا مُحمَّدُ- فأهلَكَه وأباده ودَمَّرَه كلَّه، وأصحابُه نائِمونَ، وعمَّا أصابه غافِلونَ !
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20).
أي: فصار ذلك البُستانُ مُحترقًا، أسْوَدَ كسَوادِ اللَّيلِ المظلمِ !
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21).
أي: فنادى أصحابُ الجنَّةِ بَعضُهم بَعضًا في أوَّلِ الصَّباحِ؛ لِيَذهَبوا لجَذاذِ ثَمَرِهم .
أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22).
أي: قالوا: بَكِّروا في الخُروجِ إلى بُستانِكم إنْ كُنتُم اليومَ عازِمينَ على قَطعِ ثَمَرِه قبْلَ مَجيءِ المساكينِ إليه !
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23).
أي: فانطَلَق أصحابُ البُستانِ إلى بُستانِهم وهم يَتناجَونَ فيما بَيْنَهم بحيثُ لا يَسمَعُ حَديثَهم أحدٌ .
أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24).
أي: قال بَعضُهم لبَعضٍ سِرًّا: لا يَدخُلَنَّ بُستانَكم أحدٌ مِن المساكينِ في هذا اليَومِ !
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25).
أي: وخَرَجوا في أوَّلِ الصَّباحِ وهم قاصِدونَ بإرادةٍ جازِمةٍ وغَضَبٍ وحِدَّةٍ مَنْعَ المساكينِ مِن ثمارِهم، وقادِرونَ على ما عَزَموا عليه مِن قَطْعِ الثِّمارِ، ومَنْعِ المساكينِ .
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26).
أي: فلمَّا رأى أصحابُ البُستانِ بُستانَهم أنكَروا أن يكونَ هو! وقال بعضُهم لبَعضٍ: إنَّا قد ضلَلْنا وأخطَأْنا الطَّريقَ إلى بُستانِنا !
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27).
أي: قالوا: كلَّا، لم نَضِلَّ الطَّريقَ إليه، وإنَّما حقيقةُ الأمرِ أنَّنا حُرِمْنا الانتِفاعَ به، فلا حظَّ لنا في شَيءٍ مِن ثمارهِ !
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28).
أي: قال أعدَلُهم وأعقَلُهم وأفضَلُهم: ألم أقُلْ لكم ناصِحًا: هلا نزَّهتُم اللهَ عن السُّوءِ بقَولِكم: سبحانَ اللهِ ؟!
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أنَّبَهم، رَجَعوا إلى ذِكرِ اللهِ تَعالى، واعتَرَفوا على أنفُسِهم بالظُّلمِ، وبادَروا إلى تَسبيحِ اللهِ تعالَى .
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29).
أي: قالوا مُعتَرِفينَ بخَطَئِهم: نُنَزِّهُ ربَّنا عن أن يَكونَ ظالِمًا فيما فَعَل ببُسْتانِنا، وإنَّما نحن الَّذين وقَعْنا في الظُّلمِ فجَنَيْنا على أنفُسِنا !
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30).
أي: فأقبَلَ بَعضُهم على بَعضٍ لائِمينَ أنفُسَهم على ما وَقَع منهم مِن ظُلمٍ !
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31).
أي: قالوا: يا حَسْرَتَنا وهَلاكَنا، إنَّا قد اعتَدَيْنا وبَغَيْنا وتَجاوَزْنا حدودَ اللهِ تعالى حتَّى أصابَنا ما أصابَنا .
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32).
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا.
أي: نَرجو مِن ربِّنا بَعْدَ أن تُبْنا إليه أن يُعوِّضَنا خيرًا مِن بُستانِنا الَّذي هلَك .
إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ.
أي: إنَّا إلى رَبِّنا وَحْدَه راغِبونَ وراجُونَ؛ فلذا نَطمَعُ أن يُبْدِلَنا خيرًا مِن بُستانِنا .
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33).
كَذَلِكَ الْعَذَابُ.
أي: مِثلَ هذا العذابِ الدُّنيويِّ الَّذي حَلَّ بأصحابِ البُستانِ يُعَذِّبُ اللهُ تعالى أيضًا كُلَّ مَن خالَفَ أمْرَه، فبَخِلَ بما أنعَمَ به عليه ومَنَع المحتاجينَ، فبَدَّلَ نِعمةَ اللهِ كُفرًا، وطغى وبغى وآثَرَ الحياةَ الدُّنيا؛ فإنَّ اللهَ تعالى يَسلُبُه نِعمتَه ويُزيلُها عنه .
وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
أي: ولَعَذابُ اللهِ في الآخِرةِ لِمَن يَستَحِقُّه أكبَرُ مِن عذابِ الدُّنيا، فلو كان الكُفَّارُ يَعلَمونَ ذلك لَتابُوا، وانتَهَوا عن كُلِّ سَبَبٍ يُوجِبُ عَذابَهم، ولكِنَّهم لا يَعلَمونَ !

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إلى آخرِ السِّياقِ: بَيانُ حالِ البُخَلاءِ وما يُعاقَبونَ به في الدُّنيا قبْلَ الآخرةِ مِن تَلَفِ الأموالِ؛ إمَّا إغراقًا وإمَّا إحراقًا، وإمَّا نهبًا وإمَّا مصادَرةً، وإمَّا في شَهواتِ الغَيِّ، وإمَّا في غيرِ ذلك ممَّا يُعاقَبُ به البُخلاءُ الَّذين يَمنعونَ الحَقَّ .
2- في قَولِه تعالى: وَلَا يَسْتَثْنُونَ عِظَةٌ شديدةٌ، وتنبيهٌ لِمَن يُرسِلُ كلامَه ولا يُقَيِّدُه بالاستِثناءِ الَّذي هو سَبَبُ النَّجاحِ والظَّفَرِ بالحاجةِ، ومُخْرِجٌ مِن المآثمِ، ومُؤَمِّنٌ دَرَكَ العُقوبةِ، وقد عَلَّمَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأدَّبَه ألَّا يَقولَ لفِعلِ شَيءٍ: هو فاعِلُه، إلَّا مَقرونًا بالاستِثناءِ . فالآيةُ فيها حَثٌّ على الاستثناءِ في اليَمينِ، وذَمُّ تَرْكِه، وأنَّ تَرْكَه سبَبٌ للحِنْثِ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ عَجَّل العِقابَ لهم قبْلَ التَّلَبُّسِ بمَنعِ الصَّدَقةِ؛ لأنَّ عَزْمَهم على المَنعِ، وتقاسُمَهم عليه حَقَّق أنَّهم مانِعونَ صَدَقاتِهم، فكانوا مانِعينَ. ويُؤخَذُ مِن الآيةِ مَوعِظةٌ للَّذين لا يُواسُونَ بأموالِهم .
4- قال الله تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أرسَلَ اللهُ على جنَّتِهم طائِفًا وهم نائِمونَ، فأصبَحَت كالصَّريمِ؛ عُقوبةً على احتيالِهم لِمَنعِ الحَقِّ الَّذي كان للمَساكينِ في أموالِهم، فكان في ذلك عِبرةٌ لكُلِّ مَن احتالَ لِمَنعِ حقٍّ لله أو لعِبادِه؛ مِن زَكاةٍ أو شُفعةٍ .
5- قال الله تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ لَمَّا كان هذا مَقْتًا في الصُّورةِ أخبَرَ بأنَّه لُطفٌ وتربيةٌ في المعنى بقَولِه: مِنْ رَبِّكَ أي: المعروفِ بالعَظَمةِ الَّتي لا تُحَدُّ، وبالإحسانِ إليك؛ فهو جديرٌ بأن يؤدِّبَ قَومَك؛ ليَقبَلوا منك، كما أدَّبَ أصحابَ الجنَّةِ بما أوجَبَ تَوبتَهم، وهو الحَقيقُ بتربيةِ العِبادِ ليَعقِلوا عنك، ويكونوا خليقينَ بالتَّجنُّبِ للدُّنيا، والإقبالِ على المعالي .
6- في قَولِه تعالى: قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ دليلٌ على أنَّ الشَّيءَ المُتَقَرَّبَ به إلى اللهِ -فرضًا كان أو نَدبًا- إذا فُرِّطَ فيه: تُلوفي؛ فنَفَعَ، إذْ تسبيحُ القومِ بعدَ وقتِه -الَّذي كان موضِعُه- نَفَعَهم تَدارُكُه .
7- في قَولِه تعالى: قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ دليلٌ على أنَّ المذنِبَ الظَّالمَ لنَفْسِه مُحتاجٌ مع ربِّه إلى الاعترافِ بذَنْبِه وسوءِ صَنيعِه بلِسانِه، وإنْ كان نادِمًا عليه بقَلْبِه، وكذا كان نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ في دُعاءِ الاستِفتاحِ: ((ظَلَمْتُ نفْسي، واعترَفْتُ بذَنْبي )) فكان هذا الاعترافُ مِن تمامِ التَّوبةِ، وتحقيقِ الاستكانةِ والتَّواضُعِ .
8- قال تعالى: قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ تَضمَّنَ جَوابُهم إقرارًا بأنَّ أوسَطَهم وعَظَهم فعَصَوه، ودلُّوا على ذلك بالتَّسبيحِ حِين نَدَمِهم على عدَمِ الأخْذِ بنَصيحتِه فقالوا: سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ؛ أرادوا إجابةَ تَقريرِه بإقرارٍ بتَسبيحِ اللهِ عن أنْ يُعصى أمْرُه في إعطاءِ حقِّ المساكينِ؛ فإنَّ مِن أُصولِ التَّوبةِ تَدارُكَ ما يُمكِنُ تَدارُكُه، واعترافُهُم بظُلمِ المساكينِ مِن أُصولِ التَّوبةِ؛ لأنَّ التَّسبيحَ مُقدِّمةُ الاستغفارِ مِن الذَّنْبِ؛ قال تعالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 3] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ استُدِلَّ به على أنَّ مَن نَقَص مِن النِّصابِ قبْلَ الحَولِ قَصْدَ الفِرارِ مِن الزَّكاةِ، أو خالَطَ غَيرَه، أو فارَقَه بعْدَ الخُلْطةِ؛ فإنَّ ذلك لا يُسقِطُ الزَّكاةَ عنه ، خِلافًا للشَّافِعيِّ. ووَجْهُ الاستدلالِ بالآيةِ أنَّهم قَصَدوا بقَطعِ الثِّمارِ إسقاطَ حَقِّ المساكينِ، فعاقَبَهم اللهُ سُبحانه وتعالى بإتلافِ ثمارِهم .
2- قال الله تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ دلَّ القُرآنُ على أنَّ المقاصِدَ والنِّيَّاتِ مُعتبَرةٌ في التَّصَرُّفِ والعاداتِ، كما هي مُعتبَرةٌ في القُرُباتِ والعِباداتِ، فتَجْعَلُ الفِعلَ حلالًا أو حَرامًا، وصَحيحًا أو فاسِدًا، وصَحيحًا مِن وجهٍ، فاسدًا مِن وَجهٍ، كما أنَّ القَصدَ والنِّيَّةَ في العباداتِ تَجْعَلُها كذلك، ومِن ذلك: أنَّ جَدَادَ النَّخلِ عَمَلٌ مُباحٌ أيَّ وقتٍ شاء صاحِبُه، لكنْ لَمَّا قَصَد به أصحابُه في اللَّيلِ حِرمانَ الفُقَراءِ عاقبَهم اللهُ تعالى بإهلاكِه .
3- قَولُه تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ إلى آخرِ السِّياقِ: استدلَّ به بعضُهم على كَراهةِ الجَدادِ والحَصادِ باللَّيلِ . فقولُه: مُصْبِحِينَ أي: لأوَّلِ وقتٍ يُنسَبُ إلى الصَّباحِ، وذلك يكونُ في آخِرِ اللَّيلِ، كما يُقالُ: مُمْسِينَ، لأوَّلِ وقتٍ يُنسَبُ إلى المساءِ، وإذا كان كذلك فالانصرامُ يقَعُ باللَّيلِ؛ ألَا ترى إلى قولِه: لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، وهم لا يَملِكونَ بعدَ مُضيِّ اللَّيلِ منْعَ المَساكينِ عن الدُّخولِ .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ بعْدَ أنْ قال: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ: عِبرةٌ لِمَن مَنَعَ الخيرَ، فإنْ كان هؤلاء عُوقِبوا على قَصْدِ مَنْعِ الخَيرِ المُستحَبِّ، فكيف بمَنْ قَصَدَ مَنْعَ الواجِبِ؟! وإنْ كانوا إنَّما قَصَدوا مَنْعَ واجبٍ -وهو الصَّوابُ- فهُم لم يَمنَعوه بعدَ وُجوبِه؛ لأنَّه لو كان قد وَجَبَ لم يكُنْ فَرْقٌ بيْنَ صَرْمِه باللَّيلِ وصَرْمِه بالنَّهارِ، وإنَّما قَصَدوا بالصَّرْمِ لَيلًا الفِرارَ ممَّا كان للمَساكينِ فيه مِن اللُّقاطِ؛ فعُلِمَ أنَّ الأمرَ -كما ذَكَره المفَسِّرون- مِن أنَّ حقَّ المساكينِ كان فيما يَتساقَطُ، ولم يكُنْ شَيئًا مُوَقَّتًا، ووُجوبُ هذا مَشروطٌ بسُقوطِه وحُضورِ مَن يأخُذُه مِن المساكينِ، كأنَّ السَّاقِطَ عَفْوُ المالِ وفَضْلُه، وحُضورَ أهلِ الحاجةِ بمنزلةِ السُّؤالِ والفاقةِ، ومِثلُ هذه الحالِ يجِبُ فيها ما لا يجِبُ في غيرِها، كما يَجِبُ قِرَى الضَّيفِ، وإطعامُ المضطرِّ، ونَفَقةُ الأقاربِ، وحَمْلُ العَقلِ، ونحوُ ذلك، فيكونُ هذا فِرارًا مِن حقٍّ قدِ انعقَدَ بسببِ وُجوبِه قبْلَ وقتِ وجوبِه، فهو مِثلُ الفِرارِ مِن الزَّكاةِ قبْلَ حُلولِ الحَولِ بعدَ مِلْكِ النِّصابِ، والفِرارِ مِن الشُّفعةِ بعدَ إرادةِ البَيعِ قبْلَ تمامِه، والفِرارِ مِن قِرَى الضَّيفِ قبْلَ حُضورِه، ونحوِ ذلك .
5- يَنبغي لصاحبِ الحائطِ إذا أراد الجِذاذَ ألَّا يَمنَعَ المساكينَ مِن الدُّخولِ، وأن يَتصدَّقَ عليهم؛ لقولِ الله تعالى في ذمِّ أصحابِ الجنَّةِ: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ...، والعِلمُ عندَ الله تعالى .
6- قال الله تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فلمَّا عزَموا على ما عزَموا عليه عُوقِبوا بنقيضِ قصدِهم، فأذْهَب الله ما بأيديهم بالكُليَّةِ،؛ رأسَ المالِ، والرِّبحَ، والصَّدقةَ، فلم يَبْقَ لهم شيءٌ ، وقد استقرَّتْ سُنَّةُ الله في خلقِه شرعًا وقدرًا على معاقبةِ العبدِ بنقيضِ قصدِه، فمَن كاد كيدًا محرَّمًا فإنَّ الله يَكيدُه، ويُعامِلُه بنقيضِ قصدِه، وبمِثلِ عملِه، وهذه سنَّةُ الله في أربابِ الحيلِ المحرَّمةِ؛ أنَّه لا يُبارِكُ لهم فيما نالوه بهذه الحيلِ، كما هو الواقعُ، ويُهيِّئُ لهم كيدًا على يدِ مَن يشاءُ مِن خلقِه يُجزَوْنَ به مِن جنسِ كيدِهم وحِيلِهم .
7- قَولُ اللهِ تعالى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فيه دليلٌ على أنَّ العَزمَ ممَّا يُؤاخَذُ به الإنسانُ؛ لأنَّهم عَزَموا على أن يَفعَلوا، فعُوقِبوا قبْلَ فِعْلِهم .
8- في قَولِه تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ دليلٌ على أنَّ الشَّيءَ يُسمَّى باسمِ غَيرِه وإنْ لَمْ يُشْبِهْه بجَميعِ صِفاتِه؛ ألَا ترى أنَّ اللهَ جلَّ جلالُه قد جَمَعَ بيْن جَنَّةِ الدُّنيا الَّتي هي بُستانٌ، وجَنَّةِ الآخِرةِ بالاسمِ، وهما لا يجتَمِعانِ في جميعِ صِفاتِهما؟! وهذا رَدٌّ على المعتزلةِ -فيما يَزعُمونَ أنَّ اللهَ جلَّ جلالُه لا يجوزُ أنْ يُوصَفَ بشَيءٍ ممَّا يَقَعُ اسمُه مُوافِقًا لاسمِ ما في المخلوقِ- وأغفَلوا مِثلَ هذا وأشباهَه، وما هو أعظمُ مِن هذا، وهو الجَمعُ بيْن أسمائِه سبحانَه وأسماءِ خلْقِه، مِثلُ: «المَلِكِ» و«الجبَّارِ» و«العزيزِ» و«العظيمِ» و«الكريمِ» وما ضاهاها! فلَمْ يُوجِبْ ذلك أنْ يُساويَ خلْقَه في جميعِ صِفاتِه، ولا على خلْقِه أنْ يُساوُوه في جميعِ صِفاتِهم، وإذا كان هذا غيرَ ضَيِّقٍ في الاسمِ وَجَبَ أَلَّا يَضِيقَ فيما وَقَعَ عليه الاسمُ .
9- قال تعالى: كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، قَولُه: كَذَلِكَ الْعَذَابُ، أي: الدُّنيويُّ، لِمَن أتَى بأسبابِ العَذابِ؛ أن يَسلُبَ اللهُ العَبْدَ الشَّيءَ الَّذي طغى به وبغى، وآثَرَ الحياةَ الدُّنيا، وأن يُزيلَه عنه أحوَجَ ما يكونُ إليه .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ
- جُملةُ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتدائيًّا دَعَت إليه مُناسَبةُ قولِه: أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [القلم: 14-15] ؛ فإنَّ الازدهاءَ والغُرورَ بسَعةِ الرِّزقِ المُفضِيَينِ إلى الاستِخفافِ بدَعوةِ الحقِّ، وإهمالِ النَّظَرِ في كُنْهِها ودَلائلِها؛ قدْ أوقَعَا مِن قَديمِ الزَّمانِ أصحابَهما في بَطَرِ النِّعمةِ، وإهمالِ الشُّكرِ، فجَرَّ ذلك عليهم شَرَّ العواقبِ، فضَرَبَ اللهُ للمشركينَ مثَلًا بحالِ أصحابِ هذه الجنَّةِ؛ لعلَّهم يَستفِيقونَ مِن غَفْلتِهم وغُرورِهم، كما ضُرِبَ المثَلُ بقَريبٍ منه في سُورةِ (الكهْفِ)، وضُرِبَ مَثَلًا بقارونَ في سُورةِ (القَصصِ) .
- والبَلْوى: الاختبارُ، وهي هنا تَمثيلٌ بحالِ المُبتلَى في إرخاءِ الحبْلِ له بالنِّعمةِ ليَشكُرَ أو يَكفُرَ، فالبَلْوى المذكورةُ هنا بَلوى بالخَيرِ -على قولٍ-؛ فإنَّ اللهَ أمدَّ أهلَ مكَّةَ بنِعمةِ الأمْنِ، ونِعمةِ الرِّزقِ، وجَعَل الرِّزقَ يأْتِيهم مِن كلِّ جِهةٍ، ويسَّرَ لهم سُبلَ التِّجارةِ في الآفاقِ بنِعمةِ الإيلافِ برِحلةِ الشِّتاءِ ورِحلةِ الصَّيفِ، فلمَّا أكمَلَ لهم النِّعمةَ بإرسالِ رَسولٍ منهم ليُكمِلَ لهم صَلاحَ أحوالِهم، ويَهْدِيَهم إلى ما فيه النَّعيمُ الدائمُ، فدَعاهم وذكَّرهم بنِعَمِ اللهِ؛ أعْرَضوا وطَغَوا، ولم يَتوجَّهوا إلى النَّظَرِ في النِّعَمِ السَّالفةِ، ولا في النِّعمةِ الكاملةِ الَّتي أكْمَلَت لهم النِّعَمَ، ووَجْهُ المُشابَهةِ بيْنَ حالِهم وحالِ أصحابِ الجنَّةِ المذكورةِ هنا هو الإعراضُ عن طَلَبِ مَرضاةِ اللهِ، وعن شُكرِ نِعمتِه. وهذا التَّمثيلُ تَعريضٌ بالتَّهديدِ بأنْ يَلحَقَ قُريشًا ما لَحِقَ أصحابَ الجنَّةِ مِن البُؤسِ بعْدَ النَّعيمِ، والقحْطِ بعْدَ الخِصبِ، وإنِ اختَلَفَ السَّببُ في نَوعِه فقدِ اتَّحَدَ جِنسُه . وأهلُ هذه الجنَّةِ لم يَكونوا كُفَّارًا، فوَجْهُ الشَّبَهِ بيْنَهم وبيْنَ المشرِكينَ المَضروبِ لهم هذا المَثَلُ هو بَطَرُ النِّعمةِ، والاغترارُ بالقوَّةِ .
- قولُه: وَلَا يَسْتَثْنُونَ معناه: لا يَسْتثنُون لأيْمانِهم، بأنْ يَقولوا: إنْ شاء اللهُ، وعلى هذا التَّفسيرِ يكونُ قولُه: وَلَا يَسْتَثْنُونَ مِن قَبيلِ الإدماجِ ، أي: لِمَبلَغِ غُرورِهم بقوَّةِ أنفُسِهم صاروا إذا عَزَموا على فِعلِ شَيءٍ لا يَتوقَّعون له عائقًا .
- قولُه: وَلَا يَسْتَثْنُونَ التَّعبيرُ بالفِعلِ المضارعِ لاستحضارِ حالتِهم العجيبةِ مِن بُخْلِهم على الفُقراءِ والأيتامِ . وذلك على أنَّ المرادَ أنَّهم لا يَسْتَثْنونَ مِن الثَّمرةِ شيئًا للمساكينِ.
2- قولُه تعالَى: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ الطَّوافُ: المشْيُ حولَ شَيءٍ مِن كلِّ جَوانبِه، يُقالُ: طاف بالكَعبةِ، وأُريدَ به هنا تَمثيلُ حالةِ الإصابةِ لشَيءٍ كلِّه بحالِ مَن يَطوفُ بمَكانٍ .
- إسنادُ فِعلِ (طاف) إلى (طائف) بمَنزلةِ إسنادِ الفِعلِ المَبنيِّ للمَجهولِ، كأنَّه قِيل: فطِيفَ عليها وهمْ نائِمون، فلا يَتعلَّقُ غرَضٌ بتَعيينِ نَوعِ الطَّائفِ؛ لأنَّ العِبرةَ في الحاصلِ به .
- وتَنكيرُ (طائف) وتَنوينُه الفائدةُ منه الإبهامُ؛ تَعظيمًا لِما أصاب جنَّتَهم، أي: أمْرٌ عَظيمٌ أصابَها، وقد بيَّنَه بقولِه: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فهو طائفُ سَوءٍ .
- قولُه: وَهُمْ نَائِمُونَ تَقييدٌ لوقْتِ الطائفِ -إذا كان تَمثيلًا لحالةِ الإصابةِ لشَيءٍ كلِّه بحالِ مَن يطوفُ بمكانٍ-، وهو تَأْكيدٌ لمعْنى (طائف) -إنْ كان الطائفُ لا يكونُ إلَّا باللَّيلِ-، وفائدتُه تَصويرُ الحالةِ .
- والصَّريمُ قِيل: هو اللَّيلُ، والصَّريمُ مِن أسماءِ اللَّيلِ، ومِن أسماءِ النَّهارِ، كما سُمِّيَ كلٌّ مِن اللَّيلِ والنَّهارِ مَلًا، فيُقال: المَلَوَانِ، وعلى هذا فَفي الجمْعِ بيْنَ (أصبَحَت) و(الصَّريم) مُحسِّنُ الطِّباقِ، وقيل: الصَّريمُ: الرَّمادُ الأسْوَدُ بلُغةِ جَذِيمةَ أو خُزَيمةَ، وقيل: الصَّريمُ: اسمُ رَمْلةٍ مَعروفةٍ باليمَنِ لا تُنبِتُ شيئًا، وإيثارُ كَلمةِ (الصَّريمِ) هنا لكَثرةِ مَعانِيها، وصَلاحيةِ جَميعِ تلك المعاني لأنْ تُرادَ في الآيةِ .
3- قولُه تعالَى: فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ
- قولُه: فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ الفاءُ للتَّفريعِ على أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، أي: فلمَّا أصْبَحوا تَنادَوا لإنجازِ ما بيَّتوا عليه أمْرَهم .
- والتَّنادي: أنْ يُناديَ بَعضُهم بعضًا، وهو مُشعِرٌ بالتَّحريضِ على الغُدُوِّ إلى جنَّتِهم مُبكِّرينَ .
- قولُه: اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ يجوزُ أنْ يُضمَّنَ الغُدُوُّ معْنى الإقبالِ، كقولِهم: يُغدَى عليه بالجَفنةِ ويُراحُ، أي: فأقْبِلوا على حَرْثِكم باكِرينَ، ويجوزُ أنْ تكونَ (على) مُستعمَلةً في تَمكُّنِ الوُصولِ إليه، كأنَّه قِيل: اغْدُوا تَكونوا على حَرْثِكم، أي: مُستقرِّينَ عليه .
- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (إنْ) شَرطيَّةٌ، وجَوابُها مَحذوفٌ، أي: إنْ كُنتُم صارمينَ فاغْدُوا . وقيل: ليس قولُه: إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ بشَرطِ تَعليقٍ، ولكنَّه مُستعمَلٌ في الاستبطاءِ، فكأنَّهم لإبطاءِ بَعضِهم في الغُدُوِّ قد عَدَلَ عن الجِذاذِ ذلك اليومَ .
4- قولُه تعالَى: فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فيه تأْكيدُ فِعلِ النَّهيِ لَا يَدْخُلَنَّهَا بنُونِ التَّوكيدِ؛ لزِيادةِ تَحقيقِ ما تَقاسَموا عليه .
- وأُسنِدَ إلى مِسْكِينٌ فِعلُ النَّهيِ عن الدُّخولِ، والمرادُ نهْيُ بَعضِهم بعضًا عن دُخولِ المسكينِ إلى جنَّتِهم، أي: لا يَترُكْ أحدٌ مِسكينًا يَدخُلُها، وهذا مِن قَبيلِ الكِنايةِ، فالمرادُ بنهْيِ المسكينِ عن الدُّخولِ المُبالَغةُ في النَّهيِ عن تَمكينِه مِن الدُّخولِ، كقولِهم: لا أرَيَنَّك هاهنا .
- وجُملةُ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ في مَوضعِ الحالِ بتَقديرِ (قد)، أي: انْطَلَقوا في حالِ كَونِهم غادِينَ قادِرينَ على حَرْدٍ. وذُكِرَ فِعلُ وَغَدَوْا في جُملةِ الحالِ؛ لقصْدِ التَّعجيبِ مِن ذلك الغُدُوِّ النَّحسِ .
- والحرْدُ: يُطلَقُ على المنْعِ، وعلى القصْدِ القويِّ، أي: السُّرعةِ، وعلى الغضَبِ، وفي إيثارِ كَلمةِ حَرْدٍ في الآيةِ نُكتةٌ مِن نُكَتِ الإعجازِ المُتعلِّقِ بشَرَفِ اللَّفظِ ورَشاقتِه مِن حيثُ المعْنى، ومِن جِهةِ تَعلُّقِ المجرورِ به بما يُناسِبُ كلَّ معْنًى مِن مَعانِيه، أي: بأنْ يَتعلَّقَ عَلَى حَرْدٍ بـ قَادِرِينَ، أو بقولِه: (غَدَوْا)؛ فإذا عُلِّقَ بـ قَادِرِينَ فتَقديمُ المُتعلَّقِ يُفيدُ تَخصيصًا، أي: قادرينَ على المنْعِ، أي: منْعِ الخيرِ، أو منْعِ ثَمَرِ جَنَّتِهم غيرَ قادرينَ على النَّفعِ. والتَّعبيرُ بـ قَادِرِينَ على حَرْدٍ دونَ أنْ يقولَ: (وَغَدَوا حارِدينَ) تَهكُّمٌ؛ لأنَّ شأْنَ فِعلِ القدرةِ أنْ يُذكَرَ في الأفعالِ الَّتي يشُقُّ على الناسِ إتيانُها، فقولُه: عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ على هذا الاحتمالِ مِن بابِ قَولِهم: فلانٌ لا يَملِكُ إلَّا الحرمانَ، أو لا يَقدِرُ إلَّا على الخَيبةِ! وإذا حُمِلَ الحرْدُ على معْنى السُّرعةِ والقصْدِ، كان عَلَى حَرْدٍ مُتعلِّقًا بـ (غَدَوْا) مُبيِّنًا لنَوعِ الغُدُوِّ، أي: غَدَوا غُدُوَّ سُرعةٍ واعتناءٍ، فتَكون (على) بمعْنى باءِ المصاحَبةِ، والمعْنى: غَدَوا بسُرعةٍ ونَشاطٍ، ويَكون قَادِرِينَ حالًا مِن ضَميرِ (غَدَوْا) حالًا مُقدَّرةً، أي: مُقدِّرينَ أنَّهم قادِرونَ على تَحقيقِ ما أرادوا، وفي الكلامِ تَعريضٌ بأنَّهم خابُوا، دلَّ عليه قولُه بعْدَه: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ [القلم: 26] ، وقولُه قبْلَه: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ [القلم: 19] . وإذا أُرِيدَ بالحرْدِ الغضَبُ والحَنَقُ؛ فإنَّه يُقالُ: حَرَدٌ بالتَّحريكِ، وحرْدٌ بسُكونِ الرَّاءِ، ويَتعلَّقُ المجرورُ بـ قَادِرِينَ، وتَقديمُه للحصْرِ، أي: غَدَوا لا قُدرةَ لهم إلَّا على الحَنَقِ والغضَبِ على المساكينِ، فتَحيَّلوا عليهم بالتَّبكيرِ إلى جِذاذِها، أي: لم يَقدِروا إلَّا على الغضَبِ والحَنَقِ، ولم يَقدِروا على ما أرادُوه مِن اجتناءِ ثَمَرِ الجنَّةِ .
5- قولُه تعالَى: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أفادتْ (لَمَّا) اقترانَ جَوابِها بشَرْطِها بالفَورِ والبَداهةِ، والمقصودُ مِن هذا التَّعريضُ للمشركينَ بأنْ يكونَ حالُهم في تَدارُكِ أمْرِهم، وسُرعةِ إنابتِهم كحالِ أصحابِ هذه الجنَّةِ؛ إذ بادَرُوا بالنَّدمِ، وسَأَلوا اللهَ عِوَضَ خَيرٍ .
- وإسنادُ هذه المَقالةِ إلى ضَميرِ أصحابِ الجنَّةِ يَقْتضي أنَّهم قالوه جَميعًا، أي: اتَّفَقوا على إدراكِ سَببِ ما أصابَهم .
- قوله: قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، أي: قالوا: إنَّا أخْطَأْنا الطَّريقَ في السَّيرِ إلى جنَّتِنا، ويكون الإضرابُ في قولِه: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ إبطاليًّا، أي: أبْطَلوا أنْ يَكونوا ضَلُّوا طَريقَ جَنَّتِهم، وأثْبَتوا أنَّهم مَحرومونَ مِن خَيرِ جَنَّتِهم، فيكون المعنى: أنَّها هي جَنَّتُهم، ولكنَّها هَلَكَت فحُرِموا خَيراتِها بأنْ أتلَفَها اللهُ .
وعلى القولِ بأن معْنى إِنَّا لَضَالُّونَ أي: عن طَريقِ الشُّكرِ، أي: كانوا غيرَ مُهتدِينَ، فهو كِنايةٌ عن كَونِ ما أصابَهم عِقابًا على إهمالِ الشُّكرِ، وأكَّدوا الكلامَ لتَنزيلِ أنفُسِهم مَنزلةَ مَن يشُكُّ في أنَّهم ضالُّون طَريقَ الخيرِ؛ لقُرْبِ عَهْدِهم بالغَفلةِ عن ضَلالِهم، ففيه إيذانٌ بالتَّحسُّرِ والتَّندُّمِ . وقولُه: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ إضرابٌ للانتقالِ إلى ما هو أهمُّ بالنَّظَرِ لحالِ تَبْييتِهم؛ إذ بَيَّتوا حِرمانَ المساكينِ مِن فُضولِ ثَمرتِهم، فكانوا همُ المَحرومينَ مِن جَميعِ الثِّمارِ، فالحِرمانُ الأعظمُ قدِ اختَصَّ بهم؛ إذْ ليس حِرمانُ المساكينِ بشَيءٍ في جانبِ حِرمانِهم، والكلامُ يُفيدُ ذلك إمَّا بطَريقِ تَقديمِ المُسنَدِ إليه، بأنْ أُتِيَ به ضَميرًا بارزًا مع أنَّ مُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يكونَ ضَميرًا مُستتِرًا في اسمِ المفعولِ، مُقدَّرًا مُؤخَّرًا عنه؛ لأنَّه لا يُتصوَّرُ إلَّا بعْدَ سَماعِ مُتحمَّلِه، فلمَّا أُبرِزَ الضَّميرُ وقُدِّمَ، كان تَقديمُه مُؤذِنًا بمعْنى الاختصاصِ، أي: القصرِ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ ، وهذا مِن مُستتبَعاتِ التَّراكيبِ والتَّعويلِ على القرائنِ .
6- قولُه تعالَى: قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ حُكِيَ هذا القولُ بدُونِ عاطفٍ؛ لأنَّه قولٌ في مَجرى المُحاوَرةِ جوابًا عن قولِهم: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [القلم: 27] ، قالهُ لهم على وَجْهِ تَوقيفِهم على تَصويبِ رأْيِه، وخَطَلِ رَأْيِهم .
- والاستِفهامُ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ تَقريريٌّ، أو إنكاريٌّ .
- وتُسَبِّحُونَ مَفعولُه مَحذوفٌ، أي: تُسبِّحون اللهَ .
- قولُه: قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ خبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّندُّمِ .
- قيل: جُعِلَ التَّسبيحُ مَوضعَ الاستثناءِ بقولِ: إنْ شاء اللهُ؛ لأنَّ المعْنى تَنزيهُ اللهِ أنْ يكونَ شَيءٌ إلَّا بمَشيئتِه، أو لالتِقائِهما في معْنى التَّعظيمِ للهِ؛ لأنَّ الاستثناءَ تَفويضٌ إليه، والتَّسبيحَ تَنزيهٌ له، وكلُّ واحدٍ مِن التَّفويضِ والتَّنزيهِ تَعظيمٌ له . وذلك على قولٍ في تفسيرِ التَّسبيحِ هنا.
- وجُملةُ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ إقرارٌ بالذنْبِ، والتَّأكيدُ بـ (إنَّ) لتَحقيقِ الإقرارِ والاهتمامِ به، ويُفيدُ حرْفُ (إنَّ) مع ذلك تَعليلًا للتَّسبيحِ والتَّنزيهِ الَّذي قبْلَه .
- وحُذِفَ مَفعولُ ظَالِمِينَ؛ ليَعُمَّ ظُلْمَهم أنفُسَهم بما جَرُّوه على أنفُسِهم مِن سَلْبِ النِّعمةِ، وظُلْمَ المساكينِ بمَنْعِهم مِن حقِّهم في المالِ .
7- قولُه تعالَى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ لَمَّا استَقرَّ حالُهم على المُشارَكةِ في منْعِ المساكينِ حقَّهم، أخَذَ بعضُهم يَلومُ بَعضًا على ما فَرَطَ مِن فِعلِهم، كلٌّ يَلومُ غيرَه بما كان قدْ تَلبَّسَ به في هذا الشَّأنِ؛ مِن ابتكارِ فِكرةِ منْعِ المساكينِ ما كان حقًّا لهم مِن حياةِ الأبِ، ومِن المُمالأةِ على ذلك، ومِن الاقتناعِ بتَصميمِ البقيَّةِ، ومِن تَنفيذِ جَميعِهم ذلك العزْمَ الذَّميمَ، فصَوَّرَ قولُه: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ هذه الحالةَ، والتَّقاذُفَ الواقعَ بيْنَهم بهذا الإجمالِ البالغِ غايةَ الإيجازِ؛ ألَا تَرى أنَّ إقبالَ بَعضِهم على بَعضٍ يُصوِّرُ حالةً تُشبِهُ المُهاجَمةَ والتَّقريعَ، وأنَّ صِيغةَ التَّلاوُمِ مع حذْفِ مُتعلَّقِ التَّلاوُمِ تُصوِّرُ في ذِهنِ السَّامعِ صُوَرًا مِن لَومِ بَعضِهم على بَعضٍ .
- وأُسنِدَ هذا القولُ إلى جَميعِهم؛ لأنَّه قد تلقَّى كلُّ واحدٍ منهم لَومَ غَيرِه عليه بإحقاقِ نفْسِه بالمَلامةِ، وإشراكِ بَقيَّتِهم فيها .
- الإقبالُ: المَجيءُ إلى الغيرِ مِن جِهةِ وَجْهِه، وهو مُشتَقٌّ مِن القُبُلِ، وهو ما يَبْدو مِن الإنسانِ مِن جِهةِ وَجْهِه، ضِدُّ الإدبارِ، وهو هنا تَمثيلٌ لحالِ العِنايةِ باللَّومِ .
8- قولُه تعالَى: قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ
- جُملةُ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ إلى آخِرِها يجوزُ أنْ تكونَ مُبيِّنةً لجُملةِ يَتَلَاوَمُونَ، أي: يَلومُ بَعضُهم بَعضًا بهذا الكلامِ، فتَكونَ خبَرًا مُستعمَلًا في التَّقريعِ على طَريقةِ التَّعريضِ بغَيرِه، والإقرارِ على نفْسِه، مع التَّحسُّرِ والتَّندُّمِ بما أفادهُ يَا وَيْلَنَا، وذلك كَلامٌ جامعٌ للمَلامةِ كلِّها، ولم تُعطَفِ الجُملةُ؛ لأنَّها مُبيِّنةٌ. ويجوزُ أنْ تكونَ جَوابَ بَعضِهم بَعضًا عن لَومِه غيرَه؛ فكما أجْمَعوا على لَومِ بَعضِهم بَعضًا، كذلك أجْمَعوا على إجابةِ بَعضِهم بَعضًا عن ذلك المَلامِ، فقال كلُّ مَلومٍ لِلائمِه: يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ... إلخ، جَوابًا بتَقريرِ مَلامِه، والاعترافِ بالذَّنْبِ، ورَجاءِ العفْوِ مِن اللهِ، وتَعويضِهم عن جنَّتِهم خَيرًا منها إذا قَبِلَ تَوبتَهم، وجَعَلَ لهم ثَوابَ الدُّنيا مع ثَوابِ الآخرةِ، فيكونُ تَرْكُ العطْفِ؛ لأنَّ فِعلَ القولِ جَرى في طَريقةِ المُحاوَرةِ .
- وجُملةُ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ بدَلٌ مِن جُملةِ الرَّجاءِ، أي: هو رَجاءٌ مُشتمِلٌ على رَغبةٍ إليه بالقَبولِ والاستجابةِ، والتأْكيدُ في إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ للاهتمامِ بهذا التَّوجُّهِ .
- والمقصودُ مِن الإطنابِ في قولِهم بعْدَ حُلولِ العذابِ بهم، تَلقينُ الَّذين ضُرِبَ لهم هذا المَثَلُ بأنَّ في مُكْنتِهم الإنابةَ إلى اللهِ بنَبْذِ الكُفرانِ لنِعمتِه؛ إذ أشْرَكوا به مَن لا إنعامَ لهم عليه .
9- قولُه تعالى: كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ هذا رُجوعٌ إلى تَهديدِ المشرِكين المَبدوءِ مِن قولِه: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ [القلم: 17] ، فالكلامُ فَذْلَكةٌ وخُلاصةٌ لِما قبْلَه، وهو استئنافٌ ابتدائيٌّ .
- وقولُه: كَذَلِكَ مُسنَدٌ مُقدَّمٌ، والْعَذَابُ مُسنَدٌ إليه، وتَقديمُ المُسنَدِ للاهتِمامِ بإحضارِ صُورتِه في ذِهنِ السَّامعِ، ولإفادةِ القَصرِ. والتَّعريفُ في الْعَذَابُ تَعريفُ الجِنسِ، وفيه تَوجيهٌ بالعهْدِ الذِّهنيِّ، أي: عَذابُكم الموعودُ مِثلُ عَذابِ أولئك .
- والمُماثَلةُ في إتلافِ الأرزاقِ والإصابةِ بقطْعِ الثَّمراتِ؛ فالمُماثَلةُ بيْنَ المُشبَّهِ والمُشبَّهِ به مُماثَلةٌ في النَّوعِ، وإلَّا فإنَّ ما تُوُعِّدوا به مِن القحْطِ أشدُّ ممَّا أصاب أصحابَ الجنَّةِ وأطولُ .
وقيل: تَشبيهُ بَلاءِ قُريشٍ ببَلاءِ أصحابِ الجنَّةِ هو أنَّ أصحابَ الجنةِ عَزَموا على الانتفاعِ بثَمَرِها، وحِرمانِ المساكينِ، فقَلَبَ اللهُ تعالَى عليهم وحَرَمَهم، وأنَّ قُريشًا حينَ خَرَجوا إلى بدْرٍ حَلَفوا على قتْلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه، فإذا فَعَلوا ذلك رَجَعوا إلى مكَّةَ، وطافوا بالكعبةِ، وشَرِبوا الخُمورَ، فقَلَبَ اللهُ عليهم بأنْ قُتِلوا، وأُسِروا .
- قولُه: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ جوابُ (لو) مَحذوفٌ دلَّ عليه سِياقُ الكلامِ، تَقديرُه: لَمَا فَرَط منهم ما سَلَف مِن ظُلمٍ وإحجامٍ عن الاستثناءِ .