موسوعة التفسير

سُورَةُ البَقَرَةِ
الآية (253)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

الْبَيِّنَاتِ: جمْع بيِّنة، وهي: الدَّلالة الواضحة؛ يُقال: بانَ الشيءُ وأبان، إذا اتَّضح وانكَشَف [2344] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/328)، ((المفردات)) للراغب (ص: 157). .
وَأَيَّدْنَاهُ: قوَّيناه، والأَيْد والأدُّ: القوَّة [2345] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 48)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/163)، ((المفردات)) للراغب (ص: 97)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 85). .
بِرُوحِ الْقُدُسِ: جِبريل، وأصْل القُدْس: الطَّهارة [2346] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/63)، ((المفردات)) للراغب (ص: 369)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 19)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 85). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِر تعالى أنَّ الرُّسلَ الكِرام، ذَوي المراتب العالية، ليسوا كلُّهم على مَنزلةٍ واحدة في الفضائل؛ فقد جعَل اللهُ تعالى رُتَبَ بعضهم في الفضل مُتقدِّمةً على رُتب الآخرين؛ فمِنهم مَن اختصَّه الله عزَّ وجلَّ بكلامه، ومِنهم مَن رفَعه الله تعالى على غيرِه من الرُّسل درجاتٍ، كمحمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهو أفضلُهم وأعلاهم درجةً، وأعطى اللهُ عيسى عليه السَّلام مِن البراهين القاطعة، والمعجزات الواضِحة، والإنجيلِ الذي أنزله عليه، ما يَدلُّ على صِدْق رِسالته، كما أنَّ الله تعالى قوَّاه وأعانه بجبريلَ عليه السَّلام.
ولو أراد الله تعالى لم يَتقاتَلِ الذين جاؤوا مِن بعدِ كلِّ رسول من الرُّسل عليهم السَّلام، مِن بعد أنْ أتاهم من آيات الله تعالى وبيِّناته ما يَدُلُّهم على الحقِّ، ويُبيِّن لهم طريقَه، ولكن ما أدَّى بهم إلى الاقتِتال فيما بينهم هو اختلافُهم في تلك البيِّنات التي جاءتهم؛ فمنهم مَن آمن، ومنهم مَن أعرض عنه وكَفَر، ولو أراد ربُّك أن يمنعَهم من الاقتتال بعِصمته وتوفيقه لَمَا اقتتَلوا ولا اختلَفوا، ولكنَّ إرادةَ الله هي النافذةُ، وهو يَفعل ما يشاء.

تفسير الآيات:

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
في مناسبة هذه الآية لما قَبْلها عدَّة أوجه:
فمنها: أنَّ الله تعالى لَمَّا أنبأ باختبار الرُّسل: (إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السَّلام)، وما عرَض لهم مع أقوامهم، وختَم ذلك بقوله: تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، جمَع ذلك كلَّه في قوله: تِلْكَ الرُّسُلُ؛ لفتًا إلى العِبَر التي في قَصصِ هؤلاء الرُّسل عليهم السلام.
ومنها: أنَّه لَمَّا أُفيض القولُ في القتال، وفي الحثِّ على الجهاد، والاعتبار بقتال الأُمم الماضية - عَقَّب ذلك بأنَّه لو شاء اللهُ ما اختلَف الناسُ في أمرِ الدِّين من بعد ما جاءتهم البيِّناتُ، ولكنَّهم أساؤوا الفَهْم، فجحَدوا البيِّنات، فأفْضى بهم سوءُ فَهْمهم إلى اشتِطاط الخلاف بينهم، حتى أفضى إلى الاقتِتال [2347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/5). .
ومنها: أنَّه لَمَّا ذكَر اصطِفاءَه طالوتَ على بني إسرائيل، وتَفضيلَه لداودَ عليهم؛ بإيتائه الملك والحِكمة، وتعليمه، ثم خاطَب نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنَّه من المرسَلين، وكان ظاهرُ اللَّفظ يَقتضي التسويةَ بين المرسَلين - بيَّن بأنَّ المرسَلين مُتفاضِلون أيضًا [2348] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/599). .
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ.
أي: إنَّ عمومَ الرُّسلِ الكرام، عليهم الصَّلاةُ والسلامُ، ذَوي المراتِب العَليَّة، ليسوا على منزلةٍ واحدة في الفضائل، بل مايَزَ اللهُ تعالى بينهم؛ فهُم مراتبُ مُتفاوِتة: فمنهم مَن اختصَّه الله تعالى بتكليمه مباشرةً؛ كموسى عليه السَّلام، ومنهم مَن رفَعه الله تعالى على غيره من الرُّسل درجاتٍ؛ كمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهو أفْضلُهم، وأعلاهم درجةً [2349] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/519-520)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/363)، ((تفسير ابن كثير)) (1/670)، ((تفسير السعدي)) (ص: 109)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/236). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء: 55] .
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.
أي: أعْطى اللهُ تعالى عيسى عليه السَّلام- الذي هو ابنُ مريمَ عليها السَّلام- من الحُجَج القاطعة، والمعجِزات السَّاطعة، والإنجيل الذي أُنزِل إليه من ربِّه، ما يدلُّ على صِدْق رِسالته، وصحَّةِ ما جاء به، وقد أيَّده الله تعالى بجبريلَ عليه السلام؛ يُقوِّيه ويُعينه [2350] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/521)، ((تفسير ابن كثير)) (1/671)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/8-9). .
وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ.
أي: ولو أراد اللهُ تعالى أنْ لا يَقتَتِلَ أولئك الذين أَتَوا من بعد الرُّسل عليهم السَّلام، مِن بَعْد أنْ جاءهم مِن آيات الله تعالى ما يُوضِّح لهم الحقَّ، ويُرشِدهم إلى طريقِه- لو أراد الله تعالى أنْ لا يَقتتِلوا، ما اقتَتَلوا؛ فالأمرُ إليه وحْده جلَّ وعلا [2351] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/521-522)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 109)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/237-238). .
وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ.
أي: ولكن السَّبب الذي أَوجَب قتالَهم هو اختلافُهم في تلك البيِّنات الموجِبة لاجتماعهم على الإيمان بالله تعالى ورُسله عليهم السَّلام؛ فمنهم مَن أقرَّ بالحقِّ مُصدِّقًا به، ومُنقادًا إليه، ومنهم مَن جحَده، وأَعرَض عنه مُتعمِّدًا ومُبتغيًا الكُفْرَ، بعدَ قيام الحُجَّة عليه [2352] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/522-523)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 109)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/237-238). .
وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.
 أي: ولو أراد الله عزَّ وجلَّ أن يَحجُزَهم عن القِتالِ بعِصمته وتوفيقِه، لَمَا اقتَتَلوا ولا اختَلَفوا؛ فكلُّ ذلك صادرٌ عن قضاء الله وقَدَره؛ فإرادتُه غالبة، ومشيئته نافذة، وهو سبحانه يَفعل ما اقتضتْه حِكمتُه، فيُوفِّق مَن يشاء فضلًا، ويَخذُل مَن يشاء عدلًا [2353] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/523)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 109)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/237-238). .

الفوائد التربوية :

1- أنَّ فضْلَ الله يُؤتيه مَن يشاء، حتى خواصَّ عباده يُفضِّل بعضَهم على بعض؛ لأنَّ الرُّسل هم أعلى أصناف بني آدَم، ومع ذلك يقَع التفاضلُ بينهم بتفضيل الله تعالى، كما قال سبحانه: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [2354] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/239). .
2- أنَّ الفضائل مَراتِبُ ودرجاتٌ؛ لقوله تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، وهذا يشمل الدَّرجاتِ الحسيَّة، والدَّرجاتِ المعنويَّة [2355] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/241). .
3- أنَّ البَشَر مهما بلَغوا من قوَّة، فهُم في حاجة إلى مَن يؤيِّدهم ويُقوِّيهم؛ لقوله تعالى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [2356] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/242). .

الفوائد العلمية واللَّطائف:

1- أنَّ كلام الله للإنسان يُعَدُّ رِفْعةً له؛ لأنَّ الله تعالى ساق قولَه: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ على سبيلِ الثَّناء والمدح [2357] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/240). .
2- الردُّ على النَّصارى في زعْمهم أنَّ عيسى إلهٌ؛ لقوله تعالى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ:  أي: قوَّيناه، ولازِمُ ذلك أنَّه يحتاج إلى تقوية، والذي يَحتاج إلى تقوية لا يَصلُح أنْ يكون ربًّا وإلهًا [2358] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/242). .
3- قوله تعالى: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ: إنَّما وصف عيسى بهذين- مع أنَّ سائر الرُّسل أُيِّدوا بالبيِّنات وبَرُوح القُدُس-؛ للردِّ على اليهود الذين أَنكَروا رسالتَه ومُعجِزاتِه، وللردِّ على النَّصارى الذين غَلَوا فزَعموا أُلوهيَّتَه، ولأجْل هذا ذُكِر معه اسمُ أُمِّه- مهما ذُكِر-؛ للتَّنبيه على أنَّ ابن الإنسان لا يكون إلهًا [2359] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/9). .

بلاغة الآيات :

1- قوله: تِلْكَ الرُّسُلُ الألف واللام في (الرُّسُل) للاستغراق، وجاءت الإشارة بـ(تلك) التي للبعيد؛ لبُعد ما بينهم وبيْن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ من الأزمان، أو قُرِن اسم الإشارة (تلك) بكاف البُعد؛ تنويهًا بمراتبهم، وللإيذانِ بعُلُوِّ طبقتِهم وبُعدِ منزلتهم [2360] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/282)، ((تفسير أبي السعود)) (1/245-246)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/5-6)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 335). .
2- قوله: فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ فيه إبهامُ ذِكر نبيِّ الله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، حيث عدَل عن التَّصريح بالاسم، أو بالوصف المشهور به؛ لتفخيمِ فضْله، وإعلاءِ قدْره، وللإشارة إلى أنَّه كأنَّه عَلَمٌ لا يَشتبِه، ومُتميِّز لا يَلتبِس، كما يُقال للرَّجل: مَن فعَل هذا؟ فيقول: أحدُكم أو بعضُكم، يريد به الذي تُعورِف واشتَهَر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخمَ من التصريح به، وأنوهَ بصاحبه [2361] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/297-298)، ((تفسير البيضاوي)) (1/153)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/6/7)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/378-379)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 336). .
3- قوله: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
فيه التفاتٌ في قوله: كَلَّمَ اللهُ؛ إذ هو خروجٌ إلى ظاهرٍ غائب من ضمير مُتكلِّم؛ لِمَا في ذِكر هذا الاسم العظيم من التَّفخيم والتَّعظيم، ولزوال قَلَق تَكرار ضمير المتكلِّم؛ إذ كان يكون: فضَّلْنَا، و(كلَّمْنا)، و(رفَعْنا)، وآتَيْنا [2362] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/600-601). .
وفيه: تفصيلٌ بعدَ إجمال في قوله: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [2363] يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 335). .
وفيه: ذِكرٌ للخاصِّ بعد العامِّ، مع المناسبة الحسَنة في هذا الخاصِّ، حيث خَصَّ موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذِّكر [2364] وسببُ ذلك: أنَّ معجزاتهما أظهرُ وأقوى من معجزات غيرهما، وأيضًا فأُمَّتهما موجودون حاضِرون في هذا الزمان، وأُمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين؛ فتخصيصهما بالذِّكر تنبيهٌ على الطَّعن في أمَّتهما، كأنه قيل: هذان الرسولان مع عُلوِّ درجتهما، وكثرة معجزاتهما، لم يحصُل الانقياد من أُمَّتهما، بل نازعوا وخالفوا، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أَعرضوا. وخصَّ عيسى بإيتاء البيِّنات؛ للتنبيهِ على قُبح أفعال اليهود، حيث أنكروا نُبوَّةَ عيسى عليه السلام مع ما ظهَر على يديه من البينات اللَّائِحة. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (6/528). بعد قوله: تِلْكَ الرُّسُلُ؛ وبَدَأ بوصف موسى؛ لأنَّ آياتِه أكثرُ، ولأنَّ أكثرَ السُّورة في بني إسرائيل، وأكثَر ذلك في أتْباعِ موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، وثنَّى بعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنَّه النَّاسخ لشريعته، وهو آخِر أنبيائهم.
وفيه: إظهارُ الفضل لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه لا نِسبة لِمَا أُوْتِيَ أحدٌ من الأنبياء إلى ما أُوتِيَ، وإبهامه يَدُلُّ على ذلك، من حيث إنَّه إشارةٌ إلى أنَّ إبهامه في الظُّهور والجلاء كذِكْره؛ لأنَّ ما وُصِف به لا يَنصرِف إلَّا إليه [2365] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/298)، ((تفسير الرازي)) (6/528)، ((تفسير أبي حيان)) (2/602-603)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/3، 5-6)، ((تفسير القاسمي)) (2/188). .
وفيه: تَكرار، وتفصيل لِمَا أُجمِل من التَّفضيل؛ لأنَّ المفهوم من قوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ هو المفهوم من قوله: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وفائدة هذا التَّكرير وهذا التَّفصيل: أنَّ التَّفضيل الأوَّل يدلُّ على إثبات مُجرَّد تفضيل البعض على البعض، وأمَّا التَّفضيل الثاني ففيه دَلالةٌ على درجات ذلك التَّفضيل؛ فحصَل بهذا التَّكرار فائدةٌ زائدة [2366] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (6/527). .
4- قوله: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ... وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلِكَنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فيه تَكرار؛ لتأكيد الكلام، ولتكذيب مَن زعَم أنَّهم فعَلوا ذلك الاقتتالَ من عند أنفُسهم، ولم يَجرِ به قضاءٌ ولا قدَرٌ من الله تعالى. والاستدراك بـ(لَكِن)؛ للتَّنبيه على أنَّ اختلافهم ذلِك ليس مُوجِبًا لعدمِ مشيئته تعالى لعدم اقتتالِهم [2367] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/298)، ((تفسير الرازي)) (6/530)، ((تفسير أبي حيان)) (2/602-603)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/4)، ((تفسير أبي السعود)) (1/247)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/13). .
ووراء التأكيدِ سرٌّ أخصُّ منه، وهو: أنَّ العرب متى ثبَت أوَّلُ كلامهم على مَقصِد، ثمَّ اعترضها مَقصِد آخَر، وأرادتِ الرُّجوعَ إلى الأوَّل، قصدَتْ ذِكرَه إمَّا بتلك العبارة أو بقريب منها، وذلك عندهم طريقٌ من الفصاحة مسلوك، وفي كتاب الله تعالى مواضِعُ في هذا المعنى، وهنا لَمَّا صُدِّر الكلامُ بأنَّ اقتِتالهم كان على وَفْق المشيئة، ثم طال الكلامُ وأُريدَ بيان أنَّ مشيئة الله تعالى كما نَفَذتْ في هذا الأمر الخاصِّ- وهو اقتتال هؤلاء- فهي نافذةٌ في كلِّ فِعْل واقِع، فطَرأَ ذِكْر تَعلُّق المشيئة بالاقتِتَال لإتيانِه بعدَ عُمومِ تَعلُّق المشيئة؛ لتَناسُب الكلام، وليُعرَف كلٌّ بشكله [2368] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/298) مع حاشيته ((الانتصاف)) لابن المنيِّر حيث أشار إلى  هذا السِّرِّ، وأنَّه قاطعٌ لحُجج أهل الاعتزال؛ ولذلك جاوزها  الزمخشريُّ. وينظر ((تفسير القاسمي)) (2/188). .
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة من أنواع البلاغَةِ على:
 التَّقسيم: في قوله: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ أي: منهم مَن كلَّمه بلا واسطة، ومنهم مَن كلَّمه بواسطة، وهذا التقسيم اقتضاه المعنى، وفي: قوله: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، وهذا التقسيم ملفوظٌ به.
الحذف: في قوله: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ، أي: كفاحًا، وفي قوله: يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ؛ يعني: مِن هداية مَن شاء، وضلالة مَن شاء [2369] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/604). .