موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّالِثُ: إذا كان للواجِبِ بَدَلٌ، فتَعَذَّرَ الوُصولُ إلى الأصلِ حالةَ الوُجوبِ، فهَل يَتَعَلَّقُ الوُجوبُ بالبَدَلِ تَعَلُّقًا مستقِرًّا بحَيثُ لا يَعودُ إلى الأصلِ عِندَ وُجودِه؟


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "إذا كان للواجِبِ بَدَلٌ، فتَعَذَّرَ الوُصولُ إلى الأصلِ حالةَ الوُجوبِ، فهَل يَتَعَلَّقُ الوُجوبُ بالبَدَلِ تَعَلُّقًا مستقِرًّا بحَيثُ لا يَعودُ إلى الأصلِ عِندَ وُجودِه؟" [1807] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/127). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الأصلُ قد يوجَدُ قَبلَ الشُّروعِ في البَدَلِ. وقد يوجَدُ بَعدَ الشُّروعِ بالبَدَلِ وقَبلَ الفراغِ مِنه. وقد يوجَدُ بَعدَ الفراغِ مِنَ البَدَلِ.
فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّه إذا تَعَلَّقَ الوُجوبُ بالبَدَلِ لتَعَذُّرِ الأصلِ، ثُمَّ وُجِدَ الأصلُ قَبلَ الشُّروعِ في البَدَلِ -وذلك في (حالةِ الوُجوبِ) كَما تَقدَّمَ، وهذا القَيدُ هو الفارِقُ بَينَ هذه القاعِدةِ وبَينَ القاعِدةِ المَذكورةِ في الفَرعِ الأوَّلِ- فقدِ اختُلِف في لُزومِ الرُّجوعِ إلى الأصلِ، على قَولَينِ: الأوَّلُ: لا يَلزَمُ الرُّجوعُ إلى الأصلِ؛ لأنَّه لمَّا وجَبَ البَدَلُ صارَ أصلًا، فلا يَعودُ الوُجوبُ إلى الأصلِ.
والثَّاني: يَلزَمُ الرُّجوعُ إليه؛ لأنَّ البَدَلَ شُرِعَ للعَجزِ عنِ الأصلِ، وقد زالَ هذا العَجزُ بوُجودِ الأصلِ، فيَلزَمُ الرُّجوعُ إليه.
وأمَّا إذا وُجِدَ الأصلُ بَعدَ الشُّروعِ في البَدَلِ وقَبلَ الفراغِ مِنه، فقدِ اختُلِف في لُزومِ الرُّجوعِ إلى الأصلِ، على قَولَينِ:
الأوَّلُ: أنَّه لا يَلزَمُ الرُّجوعُ إلى الأصلِ؛ لأنَّه يَلزَمُ عليه في بَعضِ الأحوالِ أن يُلزَمَ المُكَلَّفُ بالأصلِ والبَدَلِ، وذلك فيما لو لم يُوجَدِ الأصلُ إلَّا في آخِرِ جُزءٍ مِنَ البَدَلِ، فإذا أُلزِمَ بالأصلِ فقد أُلزِمَ بالبَدَلِ والمُبدَلِ، وهذا في غايةِ المَشَقَّةِ، ويَتَّضِحُ ذلك بمَن عدِمَ الرَّقَبةَ في كَفَّارةِ القَتلِ فصامَ حتَّى إذا لم يَبقَ عليه إلَّا يَومٌ أو يَومانِ وَجَد الأصلَ -وهو الرَّقَبةُ- ومِثلُ ذلك يَرِدُ في كَفَّارةِ الظِّهارِ.
الثَّاني: أنَّه يُرجَعُ إلى الأصلِ؛ لأنَّ البَدَلَ شُرِعَ للعَجزِ عنِ الأصلِ، وقد زالَ هذا العَجزُ بالقُدرةِ على الأصلِ.
وأمَّا إذا لم يوجَدِ الأصلُ إلَّا بَعدَ الفراغِ مِنَ البَدَلِ لم يَلزَمِ الرُّجوعُ إلى الأصلِ؛ لأنَّ وُجودَ الأصلِ صادَف الذِّمَّةَ بَريئةً مِنَ الواجِبِ، فلا يَعودُ الوُجوبُ إليها مَرَّةً أُخرى [1808] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/127)، ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبد الكريم اللاحم (ص: 63)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/405)، ((الممتع)) لابن المنجى (2/134)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (6/215)، ((المنثور)) للزركشي (1/219). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (إذا تَعَذَّرَ الأصلُ يُصارُ إلى البَدَلِ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ تَعذُّرَ الأصلِ سَبَبٌ صَحيحٌ لقيامِ البَدَلِ مَقامَه، فإذا قامَ مَقامَه وتَعَلَّقَ به الوُجوبُ لم يُعدَلْ عنه إلى الأصلِ إذا وُجِدَ بَعدَ ذلك.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ:
يُستَدَلُّ لها بالقاعِدةِ الأُمِّ (إذا تَعَذَّرَ الأصلُ يُصارُ إلى البَدَلِ).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ:
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- هَديُ المُتعةِ إذا عَدِمَه الحاجُّ، ووجَبَ عليه الصِّيامُ، ثُمَّ وجَدَ الهَديَ قَبلَ الشُّروعِ فيه؛ فهَل يَجِبُ عليه الانتِقالُ أم لا؟ يَنبَني على أنَّ الاعتِبارَ في الكَفَّاراتِ بحالِ الوُجوبِ أو بحالِ الفِعلِ؟ وفيه رِوايَتانِ عِندَ الحَنابِلةِ: فإن قُلنا بحالِ الوُجوبِ صارَ الصَّومُ أصلًا لا بَدَلًا، وعلى هذا فهَل يُجزِئُه فِعلُ الأصلِ وهو الهَديُ؟ قيلَ: يُجزِئُه؛ لأنَّه الأصلُ، وإنَّما سَقَطَ رُخصةً. وقيلَ: لا يُجزِئُه [1809] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/127). .
2- إذا أتلَف شَيئًا له مِثلٌ فإنَّه يَتَعَيَّنُ عليه المِثلُ، فإذا تَعَذَّرَ وُجودُ المِثلِ، وحَكَم عليه الحاكِمُ بأداءِ القيمةِ، ثُمَّ وجَدَ المِثلَ قَبلَ الأداءِ، وجَبَ أداءُ المِثلِ؛ لأنَّه قَدَرَ على الأصلِ قَبلَ أداءِ البَدَلِ؛ فلَزِمَه، كَما لو وجَدَ المُتَيَمِّمُ الماءَ قَبلَ الصَّلاةِ [1810] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/405)، ((القواعد)) لابن رجب (1/128)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (6/215)، ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبد الكريم اللاحم (ص: 62). .
3- إذا اشتَرى عَينًا ورَهَنَها، أو تَعَلَّقَ بها حَقُّ جِنايةٍ، ثُمَّ أفلَسَ، ثُمَّ أسقَطَ المُرتَهِنُ والمَجنيُّ عليه حَقَّه؛ فالبائِع أحَقُّ بها مِنَ الغُرَماءِ؛ لزَوالِ المُزاحَمةِ. وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه أُسوةُ الغُرَماءِ [1811] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/130). .

انظر أيضا: