موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: ما لم يُقدَرْ على الأصلِ لا يَسقُطُ حُكمُ البَدَلِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما لم يُقدَرْ على الأصلِ لا يَسقُطُ حُكمُ البَدَلِ" [1799] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/241)، ((فتح باب العناية)) للقاري (3/85). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُمَثِّلُ هذه القاعِدةُ جانِبًا مِن جَوانِبِ التَّيسيرِ في التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ؛ حَيثُ إنَّ المُكَلَّفَ قد يَكونُ واجِدًا للأصلِ إلَّا أنَّه لا يَقدِرُ على الوُصولِ إليه أوِ استِعمالِه، فالأصلُ في البَدَلِ أنَّه يَسقُطُ بوُجودِ الأصلِ، إلَّا أنَّ عَدَمَ القُدرةِ على الأصلِ لا يُسقِطُ حُكمَ البَدَلِ، فيَظَلُّ قائِمًا مَقامَ الأصلِ إذا كان العَجزُ عنه قائِمًا؛ رَحمةً بالمُكَلَّفينَ؛ حَيثُ إنَّ المُكَلَّفَ إذا عَجَزَ عنِ الأصلِ لم يَكُنْ واجِدًا له مِن حَيثُ المَعنى [1800] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/241)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/47)، ((الهداية)) للمرغيناني (4/404)، ((فتح باب العناية)) للقاري (3/85). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (إذا تَعَذَّرَ الأصلُ يُصارُ إلى البَدَلِ)؛ لأنَّ عَدَمَ القُدرةِ على الأصلِ تَجعَلُه مُتَعَذِّرًا، فيُصارُ إلى البَدَلِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عِتبانَ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّه أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، قد أنكَرتُ بَصَري، وأنا أُصَلِّي لقَومي، فإذا كانتِ الأمطارُ سالَ الوادي الذي بَيني وبَينَهم، لم أستَطِعْ أن آتيَ مَسجِدَهم فأُصَلِّيَ بهم، وودِدتُ يا رَسولَ اللهِ أنَّك تَأتيني فتُصَلِّيَ في بَيتي، فأتَّخِذَه مُصَلًّى، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: سَأفعَلُ إن شاءَ اللهُ. قال عِتبانُ: فغَدا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بَكرٍ حينَ ارتَفعَ النَّهارُ، فاستَأذَنَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأذِنتُ له، فلَم يَجلِسْ حتَّى دَخَلَ البَيتَ، ثُمَّ قال: أينَ تُحِبُّ أن أُصلِّيَ مِن بَيتِك؟ فأشَرتُ له إلى ناحيةٍ مِنَ البَيتِ، فقامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكَبَّرَ، فقُمنا فصَفَّنا فصَلَّى رَكعَتَينِ ثُمَّ سَلَّمَ )) [1801] أخرجه البخاري (425) واللفظ له، ومسلم (33). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في هذا الحَديثِ دَلالةٌ على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أباحَ له الصَّلاةَ في بَيتِه؛ لتَحقيقِ عُذرِه، ولأنَّ مِثلَ هذا لا يَقدِرُ على الوُصولِ إلى المَسجِدِ مَعَ الأمطارِ وسَيلِ الوادي وكَونِه أعمى [1802] يُنظر: ((الكوكب الوهاج)) للهرري (9/113). ، فدَلَّ على أنَّه ما لم يُقدَرْ على الأصلِ لا يَسقُطُ حُكمُ البَدَلِ.
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (إذا تَعَذَّرَ الأصلُ يُصارُ إلى البَدَلِ).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ:
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- المُتَيَمِّمُ إذا وجَدَ الماءَ وبَينَه وبَينَ الماءِ سَبُعٌ أو عَدُوٌّ، يَجوزُ له التَّيَمُّمُ؛ لأنَّه لم يَقدِرْ على الأصلِ، وما لم يَقدِرْ على الأصلِ لا يَسقُطُ حُكمُ البَدَلِ [1803] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/241)، ((كفاية الأخيار)) للحصني (ص: 56)، ((فتح باب العناية)) للقاري (3/85). .
2- المُحصَرُ في الحَجِّ فإن كان واجِدًا للهَديِ لم يَجُزْ له أن يَتَحَلَّلَ حتَّى يُهديَ؛ لقَولِ اللهِ تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196] ، فإن كان في الحَرَمِ ذَبَح الهَديَ فيه، وإن كان في غَيرِ الحَرَمِ ولم يَقدِرْ على الوُصولِ إلى الحَرَمِ ذَبحَ الهَديَ حَيثُ أُحصِرَ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَحَر هَديَه بالحُدَيبيَةِ [1804] لفظُه: عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَرَجَ مُعتَمِرًا، فحالَ كُفَّارُ قُرَيشٍ بَينَه وبَينَ البَيتِ، فنَحَرَ هَديَه، وحَلَقَ رَأسَه بالحُدَيبيَةِ، وقاضاهم على أن يَعتَمِرَ العامَ المُقبِلَ، ولا يَحمِلَ سِلاحًا عليهم إلَّا سُيوفًا، ولا يُقيمَ بها إلَّا ما أحَبُّوا، فاعتَمَرَ مِنَ العامِ المُقبِلِ، فدَخَلَها كَما كان صالَحَهم، فلَمَّا أقامَ بها ثَلاثًا أمَروه أن يَخرُجَ فخَرَجَ)). أخرجه البخاري (2701). ، وهيَ خارِجُ الحَرَمِ [1805] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (1/426)، ((المجموع)) للنووي (8/299). .
3- إذا غابَ شاهِدُ الأصلِ أو مَرِضَ مَرَضًا يَشُقُّ عليه مَعَه الوُصولُ إلى مَجلِسِ الحُكمِ، أو كان مَحبوسًا في مَوضِعٍ بحَيثُ لا يَقدِرُ على الوُصولِ إلى مَجلِسِ الحُكمِ، جازَ للحاكِمِ سَماعُ شَهادَتِه بشاهِدَي الفَرعِ عليه، والحُكمُ بها؛ فهما يَسمَعانِ مِن شاهِدِ الأصلِ في مَكانِه، ثُمَّ يَأتيانِ للحاكِمِ ويُخبِرانِه بما سَمِعاه [1806] يُنظر: ((المعاني البديعة)) للريمي (2/491). .

انظر أيضا: