موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: إذا تَعَذَّرَ الأصلُ يُصارُ إلى البَدَلِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ: "إذا بَطَلَ الأصلُ يُصارُ إلى البَدَلِ" [1770] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 21)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 287)، ((القواعد الفقهية)) للبركتي (ص: 56). . وصيغةِ: "إذا تَعَذَّرَ الأصلُ انتَقَلَ إلى البَدَلِ" [1771] يُنظر: ((الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق)) لابن تيمية (1/352). . وصيغةِ: "قاعِدةُ الشَّريعةِ أنَّ الفُروعَ والأبدالَ لا يُصارُ إليها إلَّا عِندَ تَعَذُّرِ الأُصولِ" [1772] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/401). . وصيغةِ: "إنَّما يُصارُ إلى البَدَلِ عِندَ تَحَقُّقِ فواتِ الأصلِ" [1773] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 1714). . وصيغةِ: "إنَّما يَثبُتُ الخَلَفُ إذا وقَعَ اليَأسُ عنِ الأصلِ" [1774] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (6/57). . و"إنَّما يُنتَقَلُ إلى البَدَلِ مَعَ عَدَمِ الأصلِ" [1775] يُنظر: ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص: 60). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه مَتى كان للشَّيءِ بَدَلٌ وتَعَذَّرَ الأصلُ، قامَ البَدَلُ مَقامَه، وحُكِمَ له بأحكامِه؛ فإنَّ حَقيقةَ البَدَلِ: ما يُصارُ إليه عِندَ تَعَذُّرِ الأصلِ، فالحاجةُ حينَئِذٍ توجِبُ الانتِقالَ إلى البَدَلِ، ولا يَجوزُ الانتِقالُ إلى البَدَلِ إلَّا بَعدَ طَلَبِ المُبدَلِ، ولا يُصارُ إلى البَدَلِ مَعَ القُدرةِ على الأصلِ.
وفي هذه القاعِدةِ يَظهَرُ وَجهُ التَّيسيرِ في التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى شَرع في كَثيرٍ مِنَ التَّكاليفِ ما يَقومُ مَقامَها ويَكونُ بَدَلًا عنها عِندَ العَجزِ عنِ الامتِثالِ أو عِندَ حُصولِ المَشَقَّةِ مَعَ المَقدِرةِ، فتَبرَأُ ذِمَّةُ المُكَلَّفِ، ويَحصُلُ له ثَوابُ الامتِثالِ مِن غَيرِ مَشَقَّةٍ أو عنَتٍ، وقد يَكِلُ اللَّهُ تعالى ذلك إلى اختيارِ المُكَلَّفِ دونَ تَقييدٍ بعَدَمِ القُدرةِ على الإتيانِ بالأصلِ، وهنا يَكونُ التَّيسيرُ أظهَرَ [1776] يُنظر: ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (1/167)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/333)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/401)، ((الجوهرة النيرة)) للحداد (1/90)، ((حاشية الجمل على شرح المنهج)) (1/136)، ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 521)، ((تيسير اللطيف المنان)) للسعدي (ص: 168)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/629). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ الكَريمُ، والسُّنَّةُ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:
- قال اللهُ تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة: 196] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَ اللهِ تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَدُلُّ على أنَّه إذا تَعَذَّرَ الأصلُ رَجَعنا إلى البَدَلِ [1777] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (9/107)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 246). .
- وقال اللهُ تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: 103 - 107] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ إبراهيمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا أُمِرَ بذَبحِ ابنِه، ثُمَّ حُرِّمَ عليه ذلك، فداه اللَّهُ بذَبحِ كَبشٍ، وجَعلَ هذا بَدَلًا مِمَّا أوجَبَ أوَّلًا مِن ذَبحِ الابنِ. والواجِبُ بالنَّذرِ كالواجِبِ بالشَّرعِ، فإذا تَعَذَّرَ الأصلُ انتُقِلَ إلى البَدَلِ [1778] يُنظر: ((الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق)) لابن تيمية (1/352). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((صوموا لرُؤيَتِه، وأفطِروا لرُؤيَتِه، فإن غُمِّيَ عليكُم فأكمِلوا العَدَدَ)) [1779] أخرجه مسلم (1081). .
وفي رِوايةٍ: ((صوموا لرُؤيَتِه وأفطِروا لرُؤيَتِه، فإن غُبِّيَ عليكُم فأكمِلوا عِدَّةَ شَعبانَ ثَلاثينَ )) [1780] أخرجها البخاري (1909). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ الحَديثُ على أنَّ الأيَّامَ بَدَلٌ عنِ الأهلَّةِ، ولا يُصارُ إلى البَدَلِ إلَّا عِندَ تَعَذُّرِ الأصلِ؛ لأنَّ الأصلَ في الشُّهورِ الأهلَّةُ، والأيَّامُ بَدَلٌ مِنها، وما لم يَتَعَذَّرِ الأصلُ فلا يُصارُ إلى البَدَلِ [1781] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/123)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/563). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ:
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- التَّيَمُّمُ بالتُّرابِ في الطَّهارةِ يَقومُ مَقامَ الوُضوءِ بالماءِ، ولا يُصارُ إليه إلَّا عِندَ عَدَمِ الماءِ؛ لأنَّ الحاجةَ توجِبُ الانتِقالَ إلى البَدَلِ عِندَ تَعَذُّرِ الأصلِ [1782] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/333)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/401). .
2- القُدرةُ على التَّكفيرِ بالمالِ في كَفَّارةِ اليَمينِ تَمنَعُ التَّكفيرَ بالصَّومِ؛ لأنَّ الفُروعَ والأبدالَ لا يُصارُ إليها إلَّا عِندَ تَعَذُّرِ الأُصولِ [1783] يُنظر: ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (1/167)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/401). .
3- إذا تَعَذَّرَ رَدُّ القَرضِ بمِثلِه عِندَ الوفاءِ -بأن لم يَجِدِ المُقتَرِضُ مِثْلًا- فيُرجَعُ إلى القيمةِ؛ لأنَّه إذا تَعَذَّرَ الأصلُ انتُقِلَ إلى البَدَلِ، وهو هنا: القيمةُ [1784] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (9/107). .
4- في وِلايةِ النِّكاحِ واستِحقاقِ الميراثِ: لا يَلي فرعٌ مَعَ أصلِه ولا يَرِثُ مَعَه؛ لأنَّ الفُروعَ والأبدالَ لا يُصارُ إليها إلَّا عِندَ تَعَذُّرِ الأُصولِ [1785] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/401). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ التي لا يُصارُ فيها إلى البَدَلِ عِندَ تَعَذُّرِ الأصلِ، والنُّكتةُ فيها أنَّ البَدَلَ إنَّما يَجِبُ عِندَ تَعَذُّرِ الأصلِ بكُلِّ حالٍ، فأمَّا إذا تَعَذَّرَ في الحالِ فقَط فلا يُنتَقَلُ عنه إلى البَدَلِ، ومِن ذلك:
1- إذا عَجَزَ المُكَلَّفُ عن صَومِ رَمَضانَ بكُلِّ حالٍ انتَقَلَ إلى البَدَلِ، وهو الفِديةُ، وإن عَجَز في الحالِ فقَط لم يَجُزْ له الانتِقالُ إلى البَدَلِ، ولَزِمَه الصَّومُ إذا قَدَرَ [1786] يُنظر: ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (4/71). .
2- مَن كان عاجِزًا عنِ الحَجِّ ويَرجو القُدرةَ عليه، كالمَريضِ، والمَحبوسِ، ومَن قُطِعَ عليه الطَّريقُ، ونَحوِ ذلك: لم تَجُزْ له الاستِنابةُ في فَرضِ الحَجِّ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما أذِنَ في النِّيابةِ للشَّيخِ الكَبيرِ الذي لا يَستَمسِكُ على الرَّاحِلةِ [1787] لفظُه: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((جاءَتِ امرَأةٌ مِن خَثعَمَ عامَ حَجَّةِ الوداعِ، قالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فريضةَ اللهِ على عِبادِه في الحَجِّ أدرَكَت أبي شَيخًا كَبيرًا لا يَستَطيعُ أن يَستَويَ على الرَّاحِلةِ، فهَل يَقضي عنه أن أحُجَّ عنه؟ قال: نَعَم)). أخرجه البخاري (1854) واللَّفظُ له، ومسلم (1334). ، فأُلحِقَ به مَن في مَعناه. والذي يُرجى له أن يَقدِرَ على الحَجِّ ليسَ في مَعناه؛ لأنَّ ذاكَ عاجِزٌ في الحالِ والمَآلِ، وهذا إنَّما هو عاجِزٌ في الحالِ فقَط، والبَدَلُ إنَّما يَجِبُ عِندَ تَعَذُّرِ الأصلِ بكُلِّ حالٍ [1788] يُنظر: ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (4/70). .

انظر أيضا: