الفَرعُ الثَّاني: ما هو شَرطُ ابتِداءِ الشَّيءِ لا يَكونُ شَرطَ بَقائِه لا مَحالةَ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما هو شَرطُ ابتِداءِ الشَّيءِ لا يَكونُ شَرطَ بَقائِه لا مَحالةَ"
[1545] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (24/179). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بـ"ما لم يُرَدْ للبَقاءِ إذا كان شَرطًا في ابتِداءِ العَقدِ لم يَكُنْ شَرطًا في استَدامَتِه"
[1546] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (9/242). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. العِباداتُ والمُعامَلاتُ التي يَفعَلُها الإنسانُ لا تَخلو مِن شُروطٍ اشتَرَطَها الشَّارِعُ لتَقَعَ هذه العِباداتُ والمُعامَلاتُ صَحيحةً، كاشتِراطِ الطَّهارةِ للصَّلاةِ، والرِّضا في العُقودِ، وهذه الشُّروطُ تَسبِقُ الشَّيءَ -عِبادةً كان أو مُعامَلةً- ويَتلوها المَشروطُ، إلَّا أنَّ الشُّروطَ مِنها ما يُشتَرَطُ وُجودُه في البِدايةِ واستِمرارُ وجودِه أثناءَ العِبادةِ والمُعامَلةِ، ومِنها ما يُشتَرَطُ وُجودُه في بدايةِ الشَّيءِ، ويُسَمَّى شَرطَ ابتِداءٍ، ولا يَلزَمُ استِمرارُ وجودِه أثناءَ العَقدِ؛ لأنَّه شَرطُ ابتِداءٍ، فلا يَكونُ شَرطَ بَقاءٍ واستِمرارٍ؛ لأنَّ المَعهودَ في الشَّريعةِ أنَّ ابتِداءَ العُقودِ آكَدُ مِن نِهايَتِها، فيُراعى في ابتِدائِها ما لا يُراعى في نِهايَتِها
[1547] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (9/242)، ((بحر المذهب)) للروياني (9/238)، ((العزيز)) للرافعي (8/63). .
وهذه القاعِدةُ تُعتَبَرُ استِثناءً مِن قاعِدةِ (يُغتَفرُ في الابتِداءِ ما لا يُغتَفرُ في الدَّوامِ).
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ:
1- مِنَ القُرآنِ: عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى:
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [البقرة: 194] ، وقَول اللهِ تعالى:
وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: 191] .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّه أُذِن للمُؤمِنينَ بقِتالِ المُشرِكينَ في الشَّهرِ الحَرامِ إذا كانتِ البداءةُ مِنهم؛ لأنَّه يُغتَفرُ في الدَّوامِ ما لا يُغتَفرُ في الابتِداءِ
[1548] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/150)، ((محاسن التأويل)) للقاسمي (5/415). .
2- مِنَ السُّنَّةِ: - عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إذا أدرَكَ أحَدُكُم سَجدةً مِن صَلاةِ العَصرِ قَبلَ أن تَغرُبَ الشَّمسُ فليُتِمَّ صَلاتَه، وإذا أدرَكَ سَجدةً مِن صَلاةِ الصُّبحِ قَبلَ أن تَطلُعَ الشَّمسُ فليُتِمَّ صَلاتَه )) [1549] أخرجه البخاري (556) واللفظ له، ومسلم (608) بنحوه. .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيَّنَ أنَّ طُلوعَ الشَّمسِ أو غُروبَها على مَن قد صَلَّى مِنَ الفجرِ أوِ العَصرِ رَكعةً، لا يَقطَعُ عليه صَلاتَه؛ فدَلَّ على جَوازِ استِدامةِ الصَّلاةِ وَقتَ النَّهيِ، مَعَ أنَّ ابتِداءَها في هذا الوقتِ مَنهيٌّ عنه، فاغتُفِر في البَقاءِ ما لا يُغتَفرُ في الابتِداءِ
[1550] يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/438)، ((فتح الباري)) لابن رجب (4/329،328). .
- وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت:
((طَيَّبتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدي لحَرَمِه حينَ أحرَمَ، ولحِلِّه حينَ أحَلَّ قَبلَ أن يَطوفَ بالبَيتِ )) [1551] أخرجه مسلم (1189). .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ تَطَيُّبَ المُحرِمِ مَمنوعٌ مِنه، والنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه تَطيَّب لإحرامِه واستَدامَ الطِّيبُ مَعَه، واستَمَرَّ بَعدَ الإحرامِ؛ فدَلَّ على جَوازِ تَطَيُّبِ المُحرِمِ لإحرامِه، واستَدامَتِه، وإنَّما يُمنَعُ مِمَّا يَستَأنِفُه ويَبتَدِئُ به بَعدَ الإحرامِ
[1552] يُنظر: ((اختلاف الحديث)) للشافعي (ص: 175،174)، ((إكمال المعلم)) لعياض (4/188). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو أنَّ غُلامًا أدرَكَ وقد أونِسَ مِنه الرُّشدُ، فدَفَعَ إليه وَصيُّه أوِ القاضي مالَه، ثُمَّ أفسَدَ بَعدَ ذلك، وصارَ مِمَّن يَستَحِقُّ الحَجرَ، فعلى قَولِ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ: هو مَحجورٌ عليه، وإن لم يَحجُرِ القاضي عليه، بمَنزِلةِ ما لو صارَ مَعتوهًا، وعِند أبي يوسُفَ: ما لم يَحجُرْ عليه القاضي فتَصَرُّفُه نافِذٌ، ثُمَّ عِندَهما أنَّ القاضيَ يَستَرِدُّ المالَ مِنه، ويَجعَلُه في يَدِ وَليِّه، كَما لو بَلَغَ مُفسِدًا؛ لأنَّ إيناسَ الرُّشدِ مِنه شَرطٌ لدَفعِ المالِ إليه بالنَّصِّ، فيَكونُ شَرطًا لإبقاءِ المالِ في يَدِه استِدلالًا بالنَّصِّ، وعِند أبي حَنيفةَ: لا يَخرُجُ المالُ مِن يَدِه؛ لأنَّ ما هو شَرطُ ابتِداءِ الشَّيءِ لا يَكونُ شَرطَ بَقائِه لا مَحالةَ؛ لأنَّ ذلك الفسادَ جِنايةٌ مِنه، ولا تَأثيرَ للجِنايةِ في قَطعِ يَدِه عن مالِه، ولا في قَطعِ لسانِه عنِ المالِ بالتَّصَرُّفِ فيه
[1553] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (24/179). .
2- إذا تَزَوَّجَ الحُرُّ أَمَةً على الشَّرائِطِ المُبيحةِ، ثُمَّ ارتَفعَتِ الشَّرائِطُ بَعدَ العَقدِ -بأن أَمِنَ العنَتَ بَعدَ خَوفِه، أو وجَدَ مالًا بَعدَ عَدَمِه، أو نَكَحَ حُرَّةً بَعدَ أن لم يَكُنْ- فنِكاحُ الأَمَةِ على صِحَّةِ ثُبوتِه عِندَ الشَّافِعيَّةِ؛ لأنَّ الطَّوْلَ بالمالِ غَيرُ مُرادٍ للبَقاءِ والِاستِدامةِ؛ لأنَّه يُرادُ للإنفاقِ لا للبَقاءِ، وما لم يُرَدْ للبَقاءِ إذا كان شَرطًا في ابتِداءِ العَقدِ لم يَكُنْ شَرطًا في استَدامَتِه
[1554] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (9/242)، ((بحر المذهب)) للروياني (9/238)، ((العزيز)) للرافعي (8/63). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش