الفَرعُ الخامِسُ: الحَريمُ له حُكمُ ما هو حَريمٌ له
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الحَريمُ له حُكمُ ما هو حَريمٌ له"
[1143] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 125). . وبِصيغةِ: "حُكمُ الحَريمِ حُكمُ غَيرِه"
[1144] يُنظر: ((العزيز)) للرافعي (1/52). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.الحَريمُ: هو ما يُحيطُ بالشَّيءِ ويَتبَعُه، ويَتَوقَّفُ انتِفاعُ الشَّيءِ به، كَحَريمِ البِئرِ، وفِناءِ الدَّارِ، والطَّريقِ، ومَسيلِ الماءِ، والمُحتَطَبِ، والمَرعى، ومُطَّرَحِ الرَّمادِ، ونَحوِ ذلك مِنَ المَرافِقِ؛ ولِذلك يَأخُذُ الحَريمُ حُكمَ ما هو حَريمٌ وتابِعٌ له. ومِقدارُ الحَريمِ: يَكونُ بحَسَبِ العُرفِ والحاجةِ، وذلك يَختَلِفُ باختِلافِ العَينِ المَملوكةِ مِن أرضٍ، أو بئرٍ، أو شَجَرٍ، أو نَهرٍ أو سوقٍ ونَحوِ ذلك.
والحَريمُ يَدخُلُ في الواجِبِ والحَرامِ والمَكروهِ؛ فكُلُّ مُحَرَّمٍ له حَريمٌ يُحيطُ به كالفَخِذَينِ؛ فإنَّهما حَريمٌ للعَورةِ الكُبرى، والحَريمُ هو المُحيطُ بالحَرامِ. وحَريمُ الواجِبِ: ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به؛ فكُلُّ واجِبٍ دَخَلَ في بَعضٍ مِن كُلٍّ، كغَسلِ الوَجهِ؛ فإنَّه لا يَتَحَقَّقُ إلَّا بغَسلِ جُزءٍ مِنَ الرَّأسِ، مِن بابِ: ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ، إمَّا جَزمًا، أو على الأصَحِّ، كَما لو كان مَعَه ماءٌ لا يَكفيه لطَهارَتِه إلَّا بتَكميلِه بمائِعٍ يُستَهلَكُ فيه، فإنَّه يَلزَمُه على الأصَحِّ. وأمَّا الإباحةُ فلا حَريمَ لها؛ لسَعَتِها وعَدَمِ الحَجرِ فيها
[1145] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/46)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 125)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/711)، ((موسوعة الفقه الإسلامي)) لمحمد التويجري (3/604). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (التَّابِعُ تابِعٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الحَريمَ تابِعٌ لأصلٍ، فيَكونُ حُكمُه حُكمَ ما هو حَريمٌ له؛ لأنَّ التَّابِعَ تابِعٌ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ، والإجماعُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبَينَهما مُشَبَّهاتٌ لا يَعلمُها كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فمَنِ اتَّقى المُشَبَّهاتِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ كَراعٍ يَرعى حَول الحِمى، يوشِكُ أن يواقِعَه، ألَا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمى اللهِ في أرضِه مَحارِمُه، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهيَ القَلبُ )) [1146] أخرجه البخاري (52) واللفظ له، ومسلم (1599). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ هذا مَثَلٌ ضَرَبَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَحارِمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وأصلُه أنَّ مُلوكَ العَرَبِ كانت تَحمي مَراعيَ لمَواشيها الخاصَّةِ بها، وتَتَوعَّدُ بالعُقوبةِ لمَنِ اقتَرَبَ مِنها، فالخائِفُ مِن عُقوبةِ السُّلطانِ يَبعُدُ بماشيَتِه عن ذلك الحِمى؛ لأنَّه إن قَرُبَ مِنه فالغالِبُ الوُقوعُ فيه، فالحَذَرُ أن يَجعَلَ بَينَه وبَينَ ذلك الحِمى مَسافةً يَأمَنُ فيها وُقوعَ ذلك.
فهَكَذا مَحارِمُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِنَ القَتلِ والرِّبا والسَّرِقةِ وشُربِ الخَمرِ والقَذفِ والغِيبةِ والنَّميمةِ ونَحوِ ذلك، لا يَنبَغي أن يَحومَ حَولَها؛ مَخافةَ الوُقوعِ فيها؛ لأنَّ مَن يَهونُ على نَفسِه الوُقوعُ في الشُّبُهاتِ حتَّى يَتَعَوَّدَ ذلك، فإنَّه يَقَعُ في الحَرامِ؛ لأنَّه حامَ حَولَ حَريمِ الحَرامِ، فيوشِكُ أن يواقِعَه
[1147] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن دقيق العيد (ص: 47)، ((فتح القريب المجيب)) للفيومي (8/91)، ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) للتوربشتي (2/656). .
2- مِنَ الإجماعِ:وقد حَكاه الكاسانيُّ على صورةٍ مِن صُوَرِ القاعِدةِ
[1148] قال: (لا خِلافَ في أنَّ مَن حَفرَ بئرًا في أرضِ المَواتِ يَكونُ لها حَريمٌ، حتَّى لو أرادَ أحَدٌ أن يَحفِرَ في حَريمِه له أن يَمنَعَه؛ لأنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جَعَلَ للبِئرِ حَريمًا، وكذلك العَينُ لها حَريمٌ بالإجماعِ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جَعَلَ لكُلِّ أرضٍ حَريمًا). ((بدائع الصنائع)) (6/195). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ:تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- حَريمُ المَسجِدِ حُكمُه حُكمُ المَسجِدِ، فلا يَجوزُ الجُلوسُ فيه للبَيعِ ولا للجُنُبِ، ويَجوزُ الاقتِداءُ فيه بمَن في المَسجِدِ، والِاعتِكافُ فيه
[1149] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 125). .
2- الفَخِدانِ تابِعانِ في حُكمِ العَورةِ، كالحَريمِ لها
[1150] يُنظر: ((الوسيط)) للغزالي (2/176). .
3- ذَهَبَ جُمهورُ الفُقَهاءِ إلى أنَّه يَمتَنِعُ على غَيرِ المُتَطَهِّرِ مَسُّ جِلدِ المُصحَفِ المُتَّصِلِ؛ لأنَّه كالجُزءِ مِنه؛ ولِهذا يَتبَعُه في البَيعِ، وكَذا الحَواشي التي لا كِتابةَ فيها مِن أوراقِ المُصحَفِ، والبَياضُ بَينَ السُّطورِ، وكَذا ما فيه مِن صَحائِفَ خاليةٍ مِنَ الكِتابةِ بالكُلِّيَّةِ؛ وذلك لأنَّها تابِعةٌ للمَكتوبِ وحَريمٌ له، وحَريمُ الشَّيءِ تَبَعٌ له ويَأخُذُ حُكمَه
[1151] يُنظر: ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (1/147)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (38/7). .