الفَرعُ الثَّالِثُ: ما لا يَتَجَزَّأُ فحُكمُ بَعضِه كحُكمِ كُلِّه
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما لا يَتَجَزَّأُ فحُكمُ بَعضِه كَحُكمِ كُلِّه"
[1111] يُنظر: ((الجامع في أحكام صفة الصلاة)) للدبيان (1/436). . وصيغةِ: "الحُكمُ على بَعضِ ما لا يَتَجَزَّأُ بنَفيٍ أو إثباتٍ حُكمٌ على كُلِّه"
[1112] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/109). . وصيغةِ: "ثُبوتُ الجُزءِ مِمَّا لا يَتَجَزَّأُ كَثُبوتِ الكُلِّ، وذِكرُ الجُزءِ فيما لا يَحتَمِلُ الوَصفَ بالتَّجَزُّؤِ كَذِكرِ الكُلِّ"
[1113] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/327). . وصيغةِ: "ما لا يَتَجَزَّأُ ثُبوتُه فإذا زالَ في البَعضِ زالَ في الكُلِّ"
[1114] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/379). . وصيغةِ: "ما لا يَقبَلُ التَّبعيضَ فاختيارُ بَعضِه كاختيارِ كُلِّه، وإسقاطُ بَعضِه كَإسقاطِ كُلِّه"
[1115] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 160). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ ما لا يَتَجَزَّأُ في نَفسِه لا يَتَجَزَّأُ في الحُكمِ، فلا حُكمَ له بدونِ الأجزاءِ الأُخَرِ، وإنَّما وُجودُه مُعتَبَرٌ بوُجودِ الجُزءِ الذي به تَمامُه في الحُكمِ؛ لأنَّ ما لا يَتَجَزَّأُ إنَّما يَثبُتُ كُلُّه، أو لا يَثبُتُ بَعضُه دونَ البَعضِ. وبِناءً على ذلك: يَكفي في الأشياءِ التي لا تَتَجَزَّأُ ذِكرُ بَعضِها عنِ الكُلِّ، وأنَّ البَعضَ مِنها إذا ذُكِرَ كان الكُلُّ مَذكورًا
[1116] يُنظر: ((رؤوس المسائل)) للزمخشري (ص: 379)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/279) و(2/318)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/313)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/109)، ((العناية)) للبابرتي (4/458)، ((المختصر الفقهي)) لابن عرفة (3/283)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/61). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (التَّابِعُ تابِعٌ)؛ لأنَّ حُكمَ الجُزءِ هو حُكمُ الكُلِّ؛ لأنَّه تابِعٌ له، والتَّابِعُ لشَيءٍ في الوُجودِ تابِعٌ له في الحُكمِ.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والإجماعُ والقَواعِدُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((مَن أعتَقَ نَصيبًا له في مَملوكٍ، أو شِركًا له في عَبدٍ، وكان له مِنَ المالِ ما يَبلُغُ قيمَتَه بقيمةِ العَدلِ، فهو عَتيقٌ )) [1117] أخرجه البخاري (2524) واللفظ له، ومسلم (1501). .
وَجهُ الدَّلالةِ:يُفيدُ الحَديثُ أنَّ العِتقَ والرِّقَّ لا يَتَجَزَّآنِ بالِاتِّفاقِ، والإعتاقُ فَرعٌ عنِ العِتقِ؛ لأنَّه عِلَّتُه، فلا يَتَجَزَّأُ الإعتاقُ أيضًا، وهذا لأنَّ ما لا يَتَجَزَّأُ إذا أُضيفَ إلى المَحَلِّ ثَبَتَ كُلُّه، كالطَّلاقِ، والعَفوِ عنِ القِصاصِ
[1118] يُنظر: ((نخب الأفكار)) للعيني (15/97). .
2- مِنَ الإجماعِ:ومِمَّن حَكاه ابنُ المُنذِرِ فيما يَتَعَلَّقُ بالعُقوباتِ
[1119] قال: (لم يَختَلِفْ أهلُ العِلمِ فيما لا يَتَجَزَّأُ مِنَ العُقوباتِ أنَّ حُكمَ العَبدِ والأَمَةِ في ذلك مِثلُ حُكمِ الحُرِّ مِن ذلك، إذا سَرَقَ العَبدُ والأَمَةُ قُطِعا، وإذا قَتَلَ العَبدُ والأَمَةُ قُتِلا، وإن كان شَرِب خَمرًا أو قَذَف وكان ضَربٌ يَتَجَزَّأُ ضُرِبوا نِصفَ ما يُضرَبُ الحُرُّ والحُرَّةُ، فإذا كانا مُحصَنَينِ وزَنَيا رُجِما). ((الأوسط)) (12/545). .
3- مِنَ القَواعِدِ:وهو أنَّ الأصلَ في الكَلامِ الإعمالُ دونَ الإهمالِ، وذِكرُ بَعضِ ما لا يَتَجَزَّأُ كَذِكرِ كُلِّه؛ صيانةً لكَلامِ العاقِلِ عنِ الإلغاءِ؛ لأنَّه لو كان ذِكرُ البَعضِ لا يَقومُ مَقامَ ذِكرِ الكُلِّ لكان ذلك موجِبًا لإهمالِ الكَلامِ وإلغائِه، وإعمالُ الكَلامِ أَولى مِن إهمالِه
[1120] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/200)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/61). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إن غُسِّلَ مَيِّتٌ، وبَقيَ مِنه عُضوٌ لم يُصِبْه الماءُ، فكُفِّنَ، فإنَّه يُخرَجُ مِنَ الكَفنِ، فيُغَسَّلُ ذلك المَوضِعُ، ثُمَّ يُكَفَّنُ؛ لأنَّ بَقاءَ العُضوِ الكامِلِ في حُكمِ الاغتِسالِ كبَقاءِ جَميعِ البَدَنِ، فيُخرَجُ مِنَ الكَفنِ ويُغسَّلُ؛ لأنَّه في أيديهم على حالِه بَعدَ ما كُفِّنَ، فلا يَسقُطُ فرضُ غُسلِه، بخِلافِ ما بَعدَ الدَّفنِ؛ فإنَّه خَرَجَ مِن أيديهم حينَ أهالوا التُّرابَ عليه، فيَسقُطُ فَرضُ الغُسلِ عنه.
وإن كان بَقيَ مَوضِعُ أُصبُعٍ أو نَحوِ ذلك فإنَّه لا يُخرَجُ مِنَ الكَفَنِ لأجلِ ذلك في قَولِ أبي حَنيفةَ وأبي يوسُفَ رَحِمَهما اللهُ تعالى، وفي قَولِ مُحَمَّدٍ -رَحِمَه اللهُ تعالى- يُخرَجُ فيُغَسَّلُ ذلك المَوضِعُ؛ لأنَّ بَقاءَ اللُّمعةِ كَبَقاءِ جَميعِ البَدَنِ في حُكمِ الصَّلاةِ في اغتِسالِ الحَيِّ، فكذلك في غُسلِ المَيِّتِ، وهذا لأنَّ البَدَنَ في حُكمِ الطَّهارةِ كَشَيءٍ واحِدٍ، فكَما لا يَتَجَزَّأُ حُكمُ الغُسلِ في البَدَنِ وُجوبًا، فكذلك لا يَتَجَزَّأُ سُقوطًا، وما بَقيَ شَيءٌ مِنه قَلَّ أو كَثُرَ كانوا مُخاطَبينَ بغُسلِه، وقيامُ الخِطابِ بغُسلِه عُذرٌ لهم في الإخراجِ مِنَ الكَفنِ، فكان هذا وما لو عَلِموا به مِن قَبلِ التَّكفينِ سَواءً
[1121] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/128). .
2- ما زادَ على الواجِبِ إن تَمَيَّزَ -كإخراجِ صاعَينِ مُنفرِدَينِ في زَكاةِ الفِطرِ- فهو نَدبٌ بالِاتِّفاقِ، وإن لم يَتَمَيَّزْ فالكُلُّ في حُكمِ الواجِبِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّ ما لا يَتَجَزَّأُ فحُكمُ بَعضِه حُكمُ كُلِّه
[1122] يُنظر: ((الجامع في أحكام صفة الصلاة)) للدبيان (1/436). .
3- أنَّ الطَّلاقَ لا يَتَجَزَّأُ، وذِكرُ بَعضِ ما لا يَتَجَزَّأُ كذِكرِ كُلِّه، فإذا طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوجَتَه نِصفَ تطليقةٍ كانت طالِقًا تطليقةً كامِلةً كذلك
[1123] يُنظر: ((الغرة المنيفة)) للغزنوي (ص: 152). وينظر أيضًا: ((المدونة)) لسحنون (2/69)، ((الأصل)) للشيباني (4/512)، ((الأم)) للشافعي (5/200). .
قال ابنُ المُنذِرِ: (أجمَعَ كُلُّ مَن نَحفظُ عنه مِن أهلِ العِلمِ أنَّ مَن طَلَّقَ زَوجَتَه نِصفَ أو ثُلُثَ أو رُبُعَ أو سُدُسَ تطليقةٍ، فإنَّها تطليقةٌ واحِدةٌ)
[1124] ((الأوسط)) (9/264). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ المَسائِلِ، مِنها:
1- إذا قال شَخصٌ لآخَرَ: إنَّ نِصفي أو ثُلُثي يَكفُلُك على كَذا، فلا تَنعَقِدُ الكَفالةُ، ولا تَكونُ تَسميةُ الجُزءِ في ذلك قائِمةً مَقامَ تَسميةِ الكُلِّ
[1125] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/62)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 322). .
2- إذا قال: تَزَوَّجتُ نِصفَك، فالأصَحُّ عَدَمُ الصِّحَّةِ، ولا يَنعَقِدُ؛ لأنَّ الفُروجَ يُحتاطُ فيها، فلا يَكفي ذِكرُ البَعضِ؛ لاجتِماعِ ما يوجِبُ الحِلَّ والحُرمةَ في ذاتٍ واحِدةٍ، فتَرَجَّحَتِ الحُرمةُ. وبِناءً عليه تَكونُ المَسألةُ مُستَثناةً مِنَ القاعِدةِ.
وصَحَّحَ بَعضُهم أنَّه يَنعَقِدُ، وعليه الفتوى عِندَ الحَنَفيَّةِ، وبِناءً على هذا الثَّاني تَكونُ المَسألةُ مِن فُروعِ القاعِدةِ عِندَهم
[1126] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/464). .
3- إذا أضاف الطَّلاقَ إلى ظَهرِها أو بَطنِها لا يَقَعُ، كَما لو قال: يَدُكِ طالِقٌ؛ فإنَّ اليَدَ ليسَت مَحَلًّا لبَعضِ الطَّلاقِ، ولا لكُلِّه، فلَم يُعتَبَرْ؛ لكَونِه مُضافًا إلى غَيرِ مَحَلِّه
[1127] يُنظر: ((الغرة المنيفة)) للغزنوي (ص: 152)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/464). .
4- إذا قال لامرَأتِه: أنتِ طالِقٌ واحِدةً إن شِئتِ، فقالت: شِئتُ نِصفَ واحِدةٍ. لا تُطَلَّقُ. وكان مُقتَضى القاعِدةِ أن تُطَلَّقَ؛ لأنَّ ذِكرَ نِصفِ الطَّلقةِ ذِكرُ كُلِّها، فهيَ مِمَّا خَرَجَ عنِ القاعِدةِ
[1128] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/464)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 322). .
فائِدةٌ:تُبنى على هذه القاعِدةِ مَسألةٌ أُصوليَّةٌ عِندَ الحَنَفيَّةِ والمالِكيَّةِ، وهيَ وُجوبُ إتمامِ النَّفلِ بالشُّروعِ فيه، مِن حَيثُ إنَّ الشَّرعَ يُلزِمُ أنَّ الصَّومَ والصَّلاةَ ونَحوَهما عِباداتٌ لا تَقبَلُ التَّجزِئةَ، فلَو رَكَعَ إنسانٌ فتَرَكَ السُّجودَ، لم يَكُنْ مُتَعَبِّدًا البَتَّةَ، فكذلك إذا شَرَعَ فيما لا يَتَجَزَّأُ وجَبَ عليه الإتمامُ
[1129] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/385). .