المَطلَبُ الأوَّلُ: أنواعُ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ مِن حَيثُ مَصادِرُها
تَنقَسِمُ القَواعِدُ الفِقهيَّةُ مِن حَيثُ مَصدَرُها إلى قِسمَينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: القَواعِدُ المَنصوصُ عليها شَرعًاوهيَ القَواعِدُ التي أصلُها ومَصدَرُها نَصٌّ شَرعيٌّ، أو جاءَ بشَأنِها نَصٌّ شَرعيٌّ مِنَ الكِتابِ أوِ السُّنَّةِ، ومِن ذلك:
1- قاعِدةُ: "الضَّرَرُ يُزالُ" أو "الضَّرَرُ مُزالٌ"
[166] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/ 333- 334)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 7). . فأصلُها حَديثُ عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما وغَيرِه عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ )) [167] أخرجه ابن ماجه (2341)، وأحمد (2865). حسَّنه النووي في ((بستان العارفين)) (35)، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (9880)، والزرقاني في ((مختصر المقاصد)) (1200)، وحسَّنه الألباني بمجموع طرقه في ((حقوق النساء في الإسلام)) (67). وذهب إلى تصحيحه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/211). ورُوي عن عُبادةَ بنِ الصَّامتِ: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قضى أنْ لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ)). أخرجه ابن ماجه (2340)، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (22778). حسَّنه النووي في ((بستان العارفين)) (35)، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (9880)، وقال ابن كثير كما في ((الدراري المضية)) للشوكاني (285): مشهورٌ. وذهب إلى تصحيحه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/211)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2340). 2- قاعِدةُ: "الأعمالُ بالنِّيَّاتِ" أو "لا ثَوابَ إلَّا بنيَّةٍ" و "الأُمورُ بمَقاصِدِها"
[168] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/ 54). . والأصلُ في ذلك كُلِّه حَديثُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) [169] أخرجه البخاري (1). . وفي رِوايةٍ:
((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّةِ)) [170] أخرجها البخاري (6689)، ومسلم (1907). .
القِسمُ الثَّاني: القَواعِدُ المُستَنبَطةُوهيَ القَواعِدُ التي خَرَّجَها العُلَماءُ مِنِ استِقراءِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، وتَتَبُّعِها في مَوارِدِها المُختَلِفةِ، وقد يَكونُ هذا الاستِنباطُ نِتاجَ النَّظَرِ في النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، أو صادِرًا مِن تَصريحٍ لأحَدِ الأئِمَّةِ، أو بالنَّظَرِ إلى مَجموعِ فتاويه وعِلَلِها، وما بَينَ هذه الفَتاوى مِن مَعانٍ مُشتَرَكةٍ، ومِن ثَمَّ يَتِمُّ صياغةُ القاعِدةِ في صورةٍ كُلِّيَّةٍ. ومِن ذلك:
1- قاعِدةُ: "المَيسورُ لا يَسقُطُ بالمَعسورِ"فهذه القاعِدةُ مُستَنبَطةٌ مِن قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[171] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/ 155)، ((القواعد)) للحصني (2/ 48). :
((وإذا أمَرتُكُم بأمرٍ فأْتوا مِنه ما استَطَعتُم )) [172] لفظُه: عَن أبي هرَيرةَ، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: دَعوني ما تَرَكتُكُم؛ إنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبلَكُم بسُؤالِهم واختِلافِهم على أنبيائِهم، فإذا نَهَيتُكُم عَن شَيءٍ فاجتَنِبوه، وإذا أمَرتُكُم بأمرٍ فأْتوا مِنه ما استَطَعتُم . أخرجه البخاري (7288) واللفظ له، ومسلم (1337). .
ومِن تَطبيقاتِ ذلك ما ذَكَرَه الشَّافِعيُّ فقال: (إذا أطاقَ الإمامُ القيامَ صَلَّى قائِمًا، ومَن لم يُطِقِ القيامَ مِمَّن خَلفَه صَلَّى قاعِدًا.. وهَكَذا كُلُّ حالٍ قدَرَ المُصَلِّي فيها على تَأديةِ فرضِ الصَّلاةِ كما فرَضَ اللهُ تعالى عليه صَلَّاها، وصَلَّى ما لا يَقدِرُ عليه كما يُطيقُ، فإن لم يُطِقِ المُصَلِّي القُعودَ وأطاقَ أن يُصَلِّيَ مُضطَجِعًا صَلَّى مُضطَجِعًا وإن لم يُطِقِ الرُّكوعَ والسُّجودَ صَلَّى مُومِئًا وجَعَلَ السُّجودَ أخفَضَ مِن إيماءِ الرُّكوعِ)
[173] ((الأم)) (1/ 100). .
وقد صاغَها أبو المَعالي الجُوَينيُّ فقال: (سُقوطُ ما عَسُرَ الوُصولُ إليه في الزَّمانِ لا يُسقِطُ المُمكِنَ؛ فإنَّ مِنَ الأُصولِ الشَّائِعةِ التي لا تَكادُ تُنسى ما أُقيمَت أُصولُ الشَّريعةِ: أنَّ المَقدورَ عليه لا يَسقُطُ بسُقوطِ المَعجوزِ عنهـ)
[174] ((غياث الأمم)) (ص: 469). . واستَقَرَّت صياغَتُها على اللَّفظِ المَشهورِ "المَيسورُ لا يَسقُطُ بالمَعسورِ"
[175] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 220)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/ 778)، ((العزيز)) للرافعي (1/ 111)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (2/ 473)، ((المنثور)) للزركشي (3/ 198)، ((القواعد)) للحصني (2/ 48). .
2- قاعِدةُ: "لا ضَمانَ على مُؤتَمَنٍ"هذه القاعِدةُ نَصَّ عليها مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ الشَّيبانيُّ بلَفظِ: "لا ضَمانَ على الأمينِ"
[176] ((الأصل)) (9/ 61). . وذَكَرَها العُلَماءُ بعِدَّةٍ صيَغٍ مُتَقارِبةٍ، ومِن ذلك: "كُلُّ شَيءٍ أصلُه أمانةٌ، فلَيسَ على صاحِبِه ضَمانٌ"
[177] ((مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويهـ)) (6/ 3013). . واشتَهَرَت صياغَتُها بلَفظِ: "لا ضَمانَ على مُؤتَمَنٍ"
[178] يُنظر: ((شرح المختصر الكبير)) للأبهري (2/ 364)، ((السنن الكبير)) للبيهقي (13/ 92). ، ونحوها
[179] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (8/467)، ((المبسوط)) للسرخسي (25/133)، ((ديوان الأحكام)) لأبي الأصبغ (ص: 684)، ((جواهر الدرر)) للتتائي (7/61). .
وهذه القاعِدةُ مَأخوذةٌ مِن عُمومِ الأدِلَّةِ القاضيةِ بعِصمةِ مالِ المُسلِمِ، وأنَّ التَّضمينَ يُبيحُ مالَه، وهذا يَحتاجُ إلى دَليلٍ شَرعيٍّ مُبيحٍ له، ومِن ذلك قَولُ اللهِ تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا. فسَمَّى الوديعةَ أمانةً، فلا تُضمَنُ؛ وذلك لأنَّ الضَّمانَ يُنافي الأمانةَ
[180] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 257). ويُنظر أيضًا: ((التجريد)) للقدوري (7/ 3281)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/ 210). ، واستَنَدَتِ القاعِدةُ كَذلك على إجماعِ العُلَماءِ في عَدَمِ تَضمينِ المودَعِ وهو مُؤتَمَنٌ، وقد نَقَلَه ابنُ المُنذِرِ
[181] قال: (أجمعَ أهلُ العِلمِ على أنَّ المودَعَ إذا أحرَزَ الوديعةَ بنَفسِه، في صندوقِه، أو حانوتِه، أو بيتِه، فتَلِفَت، أنْ لا ضمانَ عليهـ). ((الإشراف)) (6/ 331). ، وغيرُه
[182] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/ 173)، ((موسوعة الإجماع)) لمجموعة مؤلفين (8/ 69- 70). .