المَبحَثُ السَّابعُ: كُلُّ ما لا يَصِحُّ مِنَ العُقودِ إلَّا بالقَبضِ لم يُفسِدْه الشَّرطُ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ ما لا يَصِحُّ مِنَ العُقودِ إلَّا بالقَبضِ لم يُفسِدْه الشَّرطُ"
[557] يُنظر: ((مختصر اختلاف العلماء)) للجصاص (4/8). ، وبصيغةِ: "ما تَقِفُ صِحَّتُه على القَبضِ لا يَبطُلُ بالشَّرطِ الفاسِدِ ما أمكَنَ"
[558] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/54). ، وبصيغةِ: "كُلُّ عَقدٍ مِن شَرطِه القَبضُ فإنَّ الشَّرطَ لا يُفسِدُه"
[559] يُنظر: ((الجوهرة النيرة)) للحداد (1/331)، ((الفتاوى الهندية)) (4/396)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/427). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.العُقودُ نَوعانِ: الأوَّلُ: يَصِحُّ بدونِ القَبضِ، مِثلُ البَيعِ. والثَّاني: لا يَصِحُّ إلَّا بالقَبضِ، مِثلُ الهبةِ والرَّهنِ.
فالعُقودُ التي تَقِفُ صِحَّتُها على القَبضِ لا يُفسِدُها الشَّرطُ الزَّائِدُ الذي لا يَقتَضيه العَقدُ ولا يَرجِعُ إلى المَعقودِ عليه.
وإنَّما كانتِ العُقودُ التي لا تَصِحُّ إلَّا بالقَبضِ لا تَبطُلُ بالشُّروطِ الفاسِدةِ، كالهبةِ؛ لأنَّ المِلكَ في الهبةِ مُعَلَّقٌ بفِعلٍ حِسِّيٍّ، وهو القَبضُ، والفِعلُ الحِسِّيُّ لا يَبطُلُ بالشَّرطِ الفاسِدِ، وإنَّما الشَّرطُ الفاسِدُ يُؤَثِّرُ في العُقودِ الشَّرعيَّةِ؛ لأنَّ الحِسِّيَّاتِ إذا وُجِدَت لا مَرَدَّ لها، فلا يُمكِنُ أن يُجعَلَ عَدَمًا
[560] يُنظر: ((مختصر اختلاف العلماء)) للجصاص (4/8)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/86، 124)، ((البناية)) للعيني (10/206). .
قال الجَصَّاصُ: (الرَّهنُ لمَّا كان شَرطُ صِحَّتِه القَبضَ، كالهبةِ والصَّدَقةِ، ثُمَّ لم تُفسِدْه الشُّروطُ، وجَبَ أن يَكونَ كذلك حُكمُ ما لا يَصِحُّ إلَّا بالقَبضِ مِنَ الهِباتِ والصَّدَقاتِ في أنَّ الشُّروطَ لا تُفسِدُها؛ لاجتِماعِها في كَونِ القَبضِ شَرطًا لصِحَّتِها)
[561] ((أحكام القرآن)) (1/642). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ:
فعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أمسِكوا عليكُم أموالَكُم ولا تُفسِدوها؛ فإنَّه مَن أعمَرَ عُمْرى فهيَ للذي أعمَرَها حَيًّا ومَيِّتًا ولعَقِبِه )) [562] أخرجه مسلم (1625). .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ العَقدَ الذي يَكونُ مِن شَرطِ تَمامِه القَبضُ، كالعُمرى، يَجِبُ أن لا يَبطُلَ بالشَّرطِ
[563] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (6/2839). .
العُمْرى نَوعٌ مِنَ الهباتِ، وهيَ: أن يَقولَ: جَعَلتُ داري هذه لك عُمْري، أو جَعَلتُها لك عُمرَك، أو هيَ لك مُدَّةَ حَياتِك، فإذا مُتُّ فتَرجِعُ إليَّ. فهذه الألفاظُ كُلُّها هبةٌ، فتَكونُ للمَوهوبِ له ولورَثَتِه مِن بَعدِه، وأمَّا شَرطُ الاستِردادِ بَعدَ وفاةِ صاحِبِ الدَّارِ فباطِلٌ؛ لأنَّ العُمرى تَمليكٌ في الحالِ، فيَكونُ التَّمليكُ صحيحًا والشَّرطُ باطِلًا، فهيَ هبةٌ ويُعتَبَرُ فيها ما يُعتَبَرُ في الهبةِ، ويُبطِلُها ما يُبطِلُ الهِبةَ. والأصلُ في هذا أنَّ كُلَّ عَقدٍ مِن شَرطِه القَبضُ لا يُفسِدُه الشَّرطُ الفاسِدُ
[564] يُنظر: ((الجوهرة النيرة)) للحداد (1/331)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/427). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- الصَّدَقاتُ؛ فإنَّها لا تَصِحُّ إلَّا بالقَبضِ. فإن تَصَدَّق على رَجُلٍ وقال: تَصَدَّقتُ عليك على أن تَخدُمَني جُمعةً مَثَلًا، أو تَصَدَّق بدارٍ على أن يَرُدَّ عليه شَيئًا مِنها، أو يُعَوِّضَه شَيئًا مِنها، فالصَّدَقةُ جائِزةٌ، والشَّرطُ باطِلٌ
[565] يُنظر: ((شرح مشكلات القدوري)) للكردري (2/63)، ((الفتاوى الهندية)) (4/396)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (2/113). .
2- الرَّهنُ؛ إذا شَرَط في الرَّهنِ شَرطًا فاسِدًا صَحَّ الرَّهنُ، وبَطَل الشَّرطُ؛ لأنَّه عَقدٌ مِن شَرطِ تَمامِه القَبضُ، فوجَبَ أن لا يَبطُلَ بالشَّرطِ
[566] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (6/2838)، ((الجوهرة النيرة)) للحداد (1/331). .