موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الرَّابعُ: مَقاطِعُ الحُقوقِ عِندَ الشُّروطِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "مَقاطِعُ الحُقوقِ عِندَ الشُّروطِ" [546] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (3/40)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/150)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/ 382، 404)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (5/140)، ((شرح منتهى الإرادات)) لابن النجار (9/107)، ((الروض المربع)) للبهوتي (3/105)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (5/115)، ((منار السبيل)) لابن ضويان (2/170). ، وبصيغةِ: "المُسلِمونَ على شُروطِهم عِندَ مَقاطِعِ حُقوقِهم" [547] يُنظر: ((الأوسط)) لابن المنذر (8/409)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/270)، ((التوضيح)) لابن الملقن (24/477)، ((تغليق التعليق)) لابن حجر (4/419). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
هذه القاعِدةُ مِن قَولِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه؛ حَيثُ قال: (إنَّ مَقاطِعَ الحُقوقِ عِندَ الشُّروطِ) [548] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (2/570). . [549] أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم قَبلَ حَديث (2721)، وأخرجه مَوصولًا ابنُ أبي شيبة (22464)، والبيهقي (14550). صَحَّحه الألبانيُّ في ((إرواء الغَليل)) (1893).
والمَقاطِعُ: جَمعُ مَقطَعٍ، وهيَ المَواضِعُ التي تُقطَعُ الحُقوقُ فيها عِندَ وُجودِ الشُّروطِ، يُريدُ أنَّ الشَّرطَ قاطِعُ الحَقِّ لمَن شَرطَه، فكُلُّ ما يَشتَرِطُه العاقِدانِ ويَتَراضَيانِ عليه يَكونُ لازِمًا لا يَصِحُّ نَقضُه، إذا لم يَكُنْ نَصٌّ يُحَرِّمُه.
ولذلك فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَعقِدُ المُعاهَداتِ، ولا يَترُكُ فيها حَقًّا إلَّا سَجَّله في عِباراتٍ واضِحةٍ مانِعةٍ مِنَ الجَهالةِ التي تُفضي إلى نِزاعٍ في فهمِها، ولا يَترُكُ فيها واجِبًا عليه إلَّا دوَّنَه في عِباراتٍ صَريحةٍ لا التِواءَ فيها ولا تَحيُّفَ، بَل هيَ صَريحةٌ واضِحةٌ؛ لأنَّ مَقاطِعَ الحُقوقِ عِندَ الشُّروطِ [550] يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (20/140)، ((الكوثر الجاري)) للكوراني (8/480)، ((زهرة التفاسير)) (3/1657)، ((خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم)) (1/174) كلاهما لأبي زهرة، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/833). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (الشَّرطُ أمْلَكُ)؛ لأنَّ مَنِ اشتَرَطَ على نَفسِه شَرطًا لا يُخالفُ حُكمَ اللهِ تعالى، وجَبَ الوفاءُ به؛ لأنَّ الشَّرطَ أمْلَكُ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَنِ ابتاعَ نَخلًا بَعدَ أن تُؤَبَّرَ [551] قال النَّوويُّ: (هو أن يُشَقَّ طَلعُ النَّخلةِ ليُذَرَّ فيه شَيءٌ مِن طَلعِ ذَكَرِ النَّخلِ، والإبارُ: هو شَقُّهـ). ((شرح مسلم)) (10/ 190). ، فثَمَرَتُها للبائِعِ، إلَّا أن يَشتَرِطَ المُبتاعُ )) [552] أخرجه البخاري (2379) واللفظ له، ومسلم (1543). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ المُشتَريَ إذا اشتَرَطَ دُخولَ الثَّمَرةِ المُؤَبَّرةِ بالعَقدِ، فهيَ له بشَرطِه، فيَدُلُّ على اعتِبارِ الشُّروطِ في البَيعِ التي يَشتَرِطُها البائِعُ أوِ المُشتَري، ونُفوذِها، فالمُسلمونَ على شُروطِهم، ومَقاطِعُ الحُقوق عِندَ الشُّروط [553] يُنظر: ((توضيح الأحكام)) لعبد الله البسام (4/440). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لها بالقاعِدةِ الأُمِّ (الشَّرطُ أمْلَكُ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها ومُقَرِّرةٌ حُكمَها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- الضَّامِنُ ليسَ غارِمًا في جَميعِ الأحوالِ، وإذا أرادَ ذلك فإنَّه يُعَلِّقُ الضَّمانَ بالشَّرطِ، فيَقولُ مَثَلًا: ضَمِنتُ لك هذا الدَّينَ عِندَ تَعَذُّرِ استيفائِه مِمَّن هو عليه. فهذا ضَمانٌ مَخصوصٌ بحالةٍ مَخصوصةٍ، فلا يَجوزُ إلزامُه به في غَيرِها [554] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/404). .
2- إذا اشتَرَطَ رَجُلٌ لزَوجَتِه مَهرًا مُؤَجَّلًا إلى شَهرٍ، فمَضى الشَّهرُ وأعسَر الرَّجُلُ بالمَهرِ، فلها الفَسخُ؛ لأنَّ مَقاطِعَ الحُقوقِ عِندَ الشُّروطِ، أي: يَنقَطِعُ حَقُّها عِندَ شَرطِها، فإذا فسَخَت تَكونُ بائِنًا؛ لأنَّ كُلَّ فُرقةٍ بغَيرِ طَلاقٍ فهيَ فُرقةُ بَينونةٍ [555] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/464). .
3- حَقُّ النَّشرِ والتَّوزيعِ للكُتُبِ على حَسَبِ الشُّروطِ، وهذا يَختَلفُ باختِلافِ عَقدِ الاتِّفاقِ بَينَ المُؤَلِّفِ والنَّاشِرِ أوِ الموزِّعِ، وما يَتَّفِقانِ عليه مِن شُروطٍ، كالتَّنازُلِ عن حُقوقِ الطَّبعِ الماليَّةِ كُلِّيًّا، والاتِّفاقِ على عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الكِتابِ، ولطَبعةٍ واحِدةٍ أو أكثَرَ، ولمُدَّةٍ مُعَيَّنةٍ تُعطي الطَّرَفَ المُسَوِّقَ مُهلةَ التَّسويقِ. وهَكَذا. لكِن يَنبَغي التَّنَبُّهُ إلى مَلحَظٍ شَرعيٍّ وهو: وُجودُ حَقِّ اللهِ في المُؤَلَّفاتِ الإسلاميَّةِ، بحَيثُ يَكونُ الثَّمَنُ الرَّائِجُ للكِتابِ لا يُلحِقُ شَطَطًا بالمُشتَرينَ؛ فيَكونَ سَبَبًا لمَنعِ انتِشارِ العِلمِ وتَحَمُّلِه [556] يُنظر: ((فقه النوازل)) لبكر أبي زيد (2/184). .

انظر أيضا: