موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّالثُ: المُستَثنى شَرطًا كالمُستَثنى شَرعًا


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المُستَثنى شَرطًا كالمُستَثنى شَرعًا" [536] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/238)، ((المنثور)) للزركشي (3/166). ، وبصيغةِ: "المُستَثنى بالشَّرطِ أقوى مِنَ المُستَثنى بالعُرفِ، كَما أنَّه أوسَعُ مِنَ المُستَثنى بالشَّرعِ" [537] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/276). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ المُستَثنى بالشَّرطِ يَجِبُ اعتِبارُه كَما يَجِبُ اعتِبارُ المُستَثنى مِن جِهةِ الشَّرعِ. كَما أنَّ المُستَثنى بالشَّرطِ قد يَكونُ أقوى مِنَ المُستَثنى بالعُرفِ، كَما أنَّه أوسَعُ مِنَ المُستَثنى بالشَّرعِ؛ لأنَّه يَثبُتُ بالشَّرطِ ما لا يَثبُتُ بالشَّرعِ.
وبناءً على القاعِدةِ: فمَن نَوى عِبادةً مِنَ العِباداتِ، واستَثنى ما رَآه مَصلَحةً له مِمَّا أباحَه الشَّرعُ، فهو جائِزٌ، كَما لو كان الاستِثناءُ مِنَ الشَّرعِ.
وكذلك في العُقودِ؛ لأنَّ موجِبَ العَقدِ: إمَّا أن يَكونَ ما أوجَبَه الشَّارِعُ بالعَقدِ، أو ما أوجَبَه المُتَعاقِدانِ مِمَّا يَسوغُ لهما أن يوجِباه؛ فتارةً يَعقِدانِ العَقدَ على وَجهِ التَّسليم، وتارةً يَشتَرِطانِ التَّأخيرَ إمَّا في الثَّمَنِ وإمَّا في المُثَمَّنِ. وقد يَكونُ للبائِعِ غَرَضٌ صحيحٌ ومَصلَحةٌ في تَأخيرِ تَسليمِ المَبيعِ، فما استَثناه المُتَعاقِدانِ بالشَّرطِ بَينَهما فهو في الحُكمِ كَما لوِ استَثناه الشَّرعُ، فيَجِبُ اعتِبارُه، والعَمَلُ بمُقتَضى ذلك الاستِثناءِ، ولا يَجوزُ نَقضُه إلَّا مِن صاحِبِ الشَّرطِ إذا تَنازَل عنه [538] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (7/454)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/274-276)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (10/583). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (الشَّرطُ أمْلَكُ)؛ لأنَّه لمَّا كان الشَّرطُ أمْلَكَ؛ لقوَّتِه، صارَ المُستَثنى بالشَّرطِ في قوَّةِ المُستَثنى شَرعًا، فتَجِبُ مُراعاتُه.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّه كان يَسيرُ على جَمَلٍ له قد أعيا، فأرادَ أن يُسَيِّبَه. قال: فلحِقَني النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فدَعا لي وضَرَبَه، فسارَ سَيرًا لم يَسِرْ مِثلَه. قال: بِعْنِيه بوُقيَّةٍ. قُلتُ: لا. ثُمَّ قال: بِعْنيه. فبِعْتُه بوُقيَّةٍ، واستَثنَيتُ عليه حُملانَه إلى أهلي. فلمَّا بَلغتُ أتَيتُه بالجَمَلِ، فنَقدَني ثَمَنَه، ثُمَّ رَجَعتُ، فأرسَلَ في أثَري، فقال: أتُراني ماكَسْتُك لآخُذَ جَمَلَك؟ خُذْ جَمَلَك ودَراهمَك، فهو لك )) [539] أخرجه البخاري (2718)، ومسلم (715) واللفظ له .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ جابرًا رَضِيَ اللهُ عنه كان له غَرَضٌ صحيحٌ في اشتِراطِ تَأخيرِ تَسليمِ بَعيرِه إلى المَدينةِ، فلم يَمنَعْه الشَّارِعُ ما فيه مَصلَحةٌ له، ولا ضَرَرَ على الآخَرِ فيها؛ إذ قد رَضيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتَأخيرِ تَسليمِ البَعيرِ [540] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/274). .
- وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخَل على ضُباعةَ بنتِ الزُّبَيرِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ، فقالت: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي أُريدُ الحَجَّ، وأنا شاكيةٌ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: حُجِّي، واشتَرِطي أنَّ مَحَلِّي حَيثُ حَبَسْتَني )) [541] أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207) واللفظ له .
فالاشتِراطُ في الحَجِّ أوِ العُمرةِ بأن يَقولَ مُريدُ الإحرامِ عِندَ إحرامِه: (مَحَلِّي حَيثُ حَبَستَني) فذلك جائِزٌ وله ما شَرَط، فإن أصابَه مَرَضٌ أو حَبَسَه حابِسٌ عنِ النُّسُكِ تَحَلَّل ولا شَيءَ عليه [542] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (10/584). .
2- مِنَ الإجماعِ:
وقد نَقَله ابنُ القَيِّمِ على بَعضِ صُوَرِ القاعِدةِ [543] قال: (قدِ اتَّفقَ الأئِمَّةُ على صِحَّةِ بَيعِ الأَمَةِ المُزَوَّجةِ، وإن كانت مَنفعةُ البُضعِ للزَّوجِ ولم تَدخُلْ في البَيعِ. واتَّفقوا على جَوازِ تَأخيرِ التَّسليمِ إذا كان العُرفُ يَقتَضيه، كَما إذا باعَ مَخزَنًا له فيه مَتاعٌ كَثيرٌ لا يُنقَلُ في يَومٍ ولا أيَّامٍ، فلا يَجِبُ عليه جَمعُ دَوابِّ البَلَدِ ونَقلُه في ساعةٍ واحِدةٍ، بَل قالوا: هذا مُستَثنًى بالعُرفِ). ((إعلام الموقعين)) (2/275). .
3- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لها بالقاعِدةِ الأُمِّ (الشَّرطُ أمْلَكُ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها ومُقَرِّرةٌ حُكمَها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا نَذَرَ اعتِكافًا مُتَتابعًا، وشَرَط الخُروجَ لعارِضٍ، مِثلُ إن قال: أخرجُ لعيادةِ مَريضٍ، أو لصَلاةِ الجِنازةِ، صَحَّ نَذرُه، وله أن يَخرُجَ للأمرِ الذي استَثناه، كَما يَخرُجُ لقَضاءِ الحاجةِ؛ لأنَّ المُستَثنى شَرطًا كالمُستَثنى شَرعًا [544] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/238)، ((المنثور)) للزركشي (3/166). .
2- إذا اشتَرى سَيَّارةً واشتَرَطَ أن يُجَرِّبَها مُدَّةً مُحَدَّدةً، ورَضيَ البائِعُ، فهو جائِزٌ، وهو كَشَرطِ الخيارِ له [545] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (10/583). .

انظر أيضا: