موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الأوَّلُ: كُلُّ ما جازَ تَعليقُه بالشَّرطِ لا يَفسُدُ بالشُّروطِ الفاسِدةِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ ما جازَ تَعليقُه بالشَّرطِ لا يَفسُدُ بالشُّروطِ الفاسِدةِ" [567] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (7/186). ، وبصيغةِ: "ما جازَ تَعليقُه بالشَّرطِ لا تُبطِلُه الشُّروطُ الفاسِدةُ" [568] يُنظر: ((معين الحكام)) للطرابلسي (ص: 155)، ((الأشباه والنظائر)) لزين الدين ابن نجيم (ص: 318)، ((النهر الفائق)) لسراج الدين ابن نجيم (3/561)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/254). ، وبصيغةِ: "كُلُّ ما جازَ تعليقُه لا يُبطِلُه الشَّرطُ الفاسِدُ، ولا عَكسَ" [569] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (5/240). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
التَّعليقُ بالشَّرطِ هو رَبطُ حُصولِ مَضمونِ جُملةٍ بحُصولِ مَضمونِ جُملةٍ أُخرى بأداةٍ مِن أدَواتِ الشَّرطِ.
وتَعليقُ العُقودِ والفُسوخِ والتَّبَرُّعاتِ والالتِزاماتِ وغَيرِها بالشُّروطِ أمرٌ قد تَدعو إليه الضَّرورةُ أوِ الحاجةُ أوِ المَصلحةُ؛ فلا يَستَغني عنه المُكَلَّفُ. وقد صَحَّ تَعليقُ النَّذرِ بالشَّرطِ بالإجماعِ ونَصِّ الكِتابِ، وصَحَّ تَعليقُ الضَّمانِ بالشَّرطِ بنَصِّ القُرآنِ، وصَحَّ تَعليقُ النِّكاحِ بالشَّرطِ في تَزويجِ موسى بابنةِ صاحِبِ مَديَنَ، ولم يَأتِ في شَريعَتِنا ما يَنسَخُه، بَل أتَت مُقَرِّرةً له.
وتُفيدُ القاعِدةُ عِندَ الحَنَفيَّةِ أنَّ كُلَّ ما جازَ تَعليقُه بالشَّرطِ لا تُبطِلُه الشُّروطُ الفاسِدةُ، كالطَّلاقِ والحَوالةِ والكَفالةِ، ويَبطُلُ الشَّرطُ، والمُرادُ بالشُّروطِ هنا شُروطٌ لا يَقتَضيها العَقدُ لا كُلُّ شَرطٍ.
وتُفيدُ الصِّيغةُ التي ذَكَرَها ابنُ عابدينَ أنَّه لا يُعمَلُ بالمَفهومِ المُخالفِ للقاعِدةِ؛ حَيثُ قال: (كُلُّ ما جازَ تعليقُه لا يُبطِلُه الشَّرطُ الفاسِدُ، ولا عَكسَ)، فالعَقدُ إذا كان مِمَّا لا يَقبَلُ التَّعليقَ بالشَّرطِ فليسَ مَعناه أنَّه يَفسُدُ بالشَّرطِ الفاسِدِ، كعَقدِ النِّكاحِ [570] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/379)، ((معين الحكام)) للطرابلسي (ص: 155)، ((البناية)) للعيني (10/269)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 317)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/240)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (9/49). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
استَدَلَّ ابنُ عابدينَ لهذه القاعِدةِ، فقال: (ما لا يَبطُلُ بالشَّرطِ الفاسِدِ: القَرضُ، والهبةُ، والصَّدَقةُ، والنِّكاحُ، والطَّلاقُ، والخُلعُ، والعِتقُ، والرَّهنُ، والإيصاءُ، والوصيَّةُ، والشَّرِكةُ، والمُضارَبةُ، والقَضاءُ، والإمارةُ، والكَفالةُ، والحَوالةُ، والوَكالةُ، والإقالةُ، والكِتابةُ، وإذنُ العَبدِ في التِّجارةِ، ودعوةُ الوَلَدِ، والصُّلحُ عن دَمِ العَمدِ والجِراحةِ، وعَقدُ الذِّمَّةِ، وتَعليقُ الرَّدِّ بالعَيبِ أو بخيارِ الرُّؤيةِ، وعَزلُ القاضي. فهذه كُلُّها لا تَبطُلُ بالشُّروطِ الفاسِدةِ؛ لأنَّ الشُّروطَ الفاسِدةَ مِن بابِ الرِّبا، وأنَّه يَختَصُّ بالمُبادَلةِ الماليَّةِ، وهذه العُقودُ ليسَت بمُعاوَضةٍ ماليَّةٍ، فلا يُؤَثِّرُ فيها الشُّروطُ الفاسِدةُ) [571] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/133)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/240). .
وقال الزَّيلعيُّ عمَّا يَبطُلُ بالشَّرطِ الفاسِدِ، ولا يَصِحُّ تَعليقُه بالشَّرطِ: (الأصلُ فيه: أنَّ كُلَّ ما كان مُبادَلةَ مالٍ بمالٍ يَبطُلُ بالشُّروطِ الفاسِدةِ... وما كان مُبادَلةَ مالٍ بغَيرِ مالٍ، أو كان مِنَ التَّبَرُّعاتِ، لا يَبطُلُ بالشُّروطِ الفاسِدةِ؛ لأنَّ الشُّروطَ الفاسِدةَ مِن بابِ الرِّبا، وهو يَختَصُّ بالمُعاوَضةِ الماليَّةِ دونَ غَيرِها مِنَ المُعاوَضاتِ والتَّبَرُّعاتِ؛ لأنَّ الرِّبا هو الفضلُ الخالي عنِ العِوَضِ، وحَقيقةُ الشُّروطِ الفاسِدةِ هيَ زيادةُ ما لا يَقتَضيه العَقدُ ولا يُلائِمُه، فيَكونُ فيه فضلٌ خالٍ عنِ العِوَضِ، وهو الرِّبا بعَينِه، ولا يُتَصَوَّرُ ذلك في المُعاوَضاتِ غَيرِ الماليَّةِ، كالنِّكاحِ، والطَّلاقِ على مالٍ، والخُلعِ، ونَحوِ ذلك) [572] ((تبيين الحقائق)) (4/131). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا قال: للهِ عليَّ اعتِكافُ شَهرٍ إن دَخَلتُ الدَّارَ، ثُمَّ دَخَل، فعليه اعتِكافُ شَهرٍ. فإذا صَحَّ تَعليقُه بالشَّرطِ لم يَبطُلْ بالشَّرطِ الفاسِدِ؛ لأنَّ ما جازَ تَعليقُه بالشَّرطِ لا تُبطِلُه الشُّروطُ الفاسِدةُ [573] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (6/200)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/246). .
2- يَصِحُّ تَعليقُ الكَفالةِ بشَرطٍ مُتَعارَفٍ مُلائِمٍ، مِثلُ أن يَقولَ: إذا قَدمَ أوِ استَحَقَّ زَيدٌ المَبيعَ فأنا ضامِنٌ. فإنَّ الكَفالةَ لمَّا صَحَّ تَعليقُها بالشَّرطِ لم تَبطُلْ بالشُّروطِ الفاسِدةِ، وإن كان الشَّرطُ بخِلافِ ذلك، كهُبوبِ الرِّيحِ ومَجيءِ المَطَرِ: لا يَصِحُّ التَّعليقُ، ويَبطُلُ الشَّرطُ ولكِن تَنعَقِدُ الكَفالةُ ويَجِبُ المالُ؛ لأنَّ كُلَّ ما جازَ تَعليقُه بالشَّرطِ لا يَفسُدُ بالشُّروطِ الفاسِدةِ [574] يُنظر: ((معين الحكام)) للطرابلسي (ص: 155)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (7/186)، ((النهر الفائق)) لسراج الدين ابن نجيم (3/561). .
3- النِّكاحُ يَصِحُّ تَعليقُه بالشَّرطِ، فلا يَفسُدُ بالشُّروطِ الفاسِدةِ، بَل يُبطِلُ الشُّروطَ، ويَبقى النِّكاحُ على الصِّحَّةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ [575] يُنظر: ((الكافي)) للسغناقي (4/1978)، ((عجالة المحتاج)) لابن الملقن (4/1720)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (9/7004). .

انظر أيضا: